خاض فنّانون سوريّون بارزون خلال الأيّام الماضية حملةً ممنهجة ارتفعت فيها الأصوات بشكل متتابع في انتقاد الأوضاع المعيشية داخل مناطق سيطرة النظام السوري، في تغيُّر غريب على هذه الأوساط الفنيّة التي اعتادت في غالبيّتها أن تكون من أشدّ المؤيّدين لممارسات النظام، ممّا أثار عدّة تساؤلات حول الهدف من جرّاء هذه الحملة، وما أسباب تغيّر النبرة اتجاه النظام، وهل يقتصر هذا الاحتجاج فقط على إلقاء اللوم في سوء الأوضاع المعيشية على عاتق الحكومة السورية فقط، أم يتصاعد نقدها ليشمل بشّار الأسد نفسه؟
«الشعب تعبان».. رسائل شكوى وتوسّل غير معتادة
سيدي الرئيس.. الشعب تعبان، ما في غاز ما في مازوت ما في بنزين ما في كهربا، إجارات بيوت وصلت لمئات الألوف، ما في حليب أطفال وصل حق العلبة 11 ألف سوري. اللي ما مات من الحرب يموت من القهر والبرد والغلا وتعبنا عتمة بدنا نطلع عالضو بيلبقلنا وبيلبق لبلدنا العظيم
كانت هذه كلمات الفنانة السورية من أصل فلسطيني شكران مرتجي، وهي واحدة من بين عدّة فنّانين موالين للنظام السوري؛ لجؤوا مؤخّرًا لانتقاد سوء الأحوال المعيشية في سوريا. وكانت مرتجى في السنوات السابقة واحدة من الفنّانات التي لم تترك فرصة إلا وأعلنت فيها تأييدها للنظام السوري ورئيسه بشّار الأسد، لكن يبدو أنّ الأوضاع الأخيرة جعلتها تغيّر نبرتها اتجاه الحكومة.
الممثّلان أيمن زيدان وشكران مرتجي يتوسطان مجموعة من الممثلين – المصدر:cdn.elcinema.com
شكران التي لم تتحمل فرحة الفنان المعارض مكسيم خليل بعدم تأهل المنتخب السوري في نهائيات مسابقة كأس العالم، حتى لا يُحتسب انتصارًا للنظام، فألغت صداقتها معه، احتفت بشكل كبير بعائلة الأسد عندما شاركوا في فعالية بدمشق دون حراسة وتغزّلت في تواضع العائلة الحاكمة، وأعلنت كذلك عن حُزنها لمرض زوجة رئيس النظام السوري أسماء الأسد، وكتبت في ذلك: «الخبيث من صدر الوطن إلى صدر سيدته كما يتعافى الوطن ستتعافَين بنفس الصبر والتضحية والقوة».
الخبيث من صدر الوطن إلى صدر سيدته كما يتعافى الوطن ستتعافين بنفس الصبر والتضحية والقوة والصبر
كوني بخير سيدة الياسمين 🙏🏻
(السرطان مرة أخرى في صدور من نحب)تباً لك أيها الخبيث pic.twitter.com/Ry5Fv3EO7R— shoukranmortaja🇸🇾 (@shoukranmortaj1) August 8, 2018
وتابعت في تغريدتها على تويتر: «كوني بخير سيدة الياسمين، السرطان مرة أخرى في صدور من نحب، تبًا لك أيها الخبيث».
شكران مرتجي لم تكن الوحيدة التي عبّرت عن تذمّرها من الأوضاع المتدهورة، فالممثل أيمن زيدان كان أيضًا ممن انتقدوا الوضع الحالي في الداخل السوري، فقال: «انتصارنا، لكن لا معنى للنصر إن لم تعُد لنا أوطاننا التي نعرفها تبًّا للصقيع والعتمة»، وخاطب زيدان بشار الأسد بوجوب تعين مسؤولين «قادرين» على إخراج دمشق من أزمتها الاقتصادية، فقال: «سيادة الرئيس هؤلاء ليسوا رجال المرحلة، لا نحتاج من يتقن التبرير، نريد رجالًا يجدون الحلول»، كما قال في منشور آخر: «لماذا تقتلون بهجتنا بالنصر؟ لا يتوّج إكليل الغار في العتمة.. نحن سكان الضوء.. نكره صقيعكم وعتمتكم.. شمس دمشق أكبر من تبريراتكم.. دعونا نتدفأ بوطننا الذي نعشق».
وسبق أن كرر زيدان اصطفافه مع النظام السوري في أكثر من حديث صحفي، فقال قبل أسابيع: «أنا بصراحة رئيسي هو بشار الأسد وجيشي هو الجيش العربي السوري وعلمي هو العلم الرسمي للدولة، ومشروع الإصلاح مطالبة حقيقية من الناس لكن شكل المطالبة أثبتت الظروف بعد ذلك أنه كان مرتهنًا، وكانت هناك أجندات، ولذلك انتهينا في سوريا لمحاور دولية وصراعات».
لم يكتفِ زيدان بذلك، فقد عقّب على الكثير من الأحداث، كأن يقول في مسيرة دفاعه عن النظام السوري: «كيماوي بالوطن ولا بارفان بالغربة، أقسم بالله العظيم أن أظل وفيًّا لوطني ومخلصًا له».
فيما كانت رسالة الفنان في المؤيّد للرئيس الأسد، الممثّل بشار إسماعيل الأكثر غرابة، فإسماعيل الذي شبّه الأسد سابقًا بالإمام علي بن أبي طالب كتب بأسلوب حكاواتي مُنتقدًا الأحوال اليوميّة التي يعيشها والبرد القارس الذي تشهده المدن السوريّة في هذا الشتاء: «صرخت بأعلى صوتي وقد تملّكني الرعب من الصقيع المترافق مع دخوله. بالله عليك من أنت؟ قال أنا البرد يا بشار إسماعيل.. وأنت والشعب السوري كل يوم تخطئون بحقي وتشتموني آلاف المرات في اليوم.. علمًا أني لست مسؤولًا عن معاناتكم فهكذا خلقني وأمرني الله أن أكون قاسيًا».
وأضاف في المنشور الذي وقعه باسم «بردان اسماعيل»: «أي أنا عبد مأمور.. ويجب على حكومتكم أن تؤمن لكم الحماية من هجومي كل شتاء.. ولذلك اشتموا المسؤول عن تقصيره بحقكم واتركوني أنا لأني كل يوم أذرف الدموع على أطفالكم الفقراء الذين يموتون من شدة وطأتي».
لا غاز ولا كهرباء.. الأوضاع المعيشية تفتك بالمواطنين في مناطق سيطرة الأسد
تمتلئ الدراما السورية بالمشاهد التي تتناول حياة السوريين في الشتاء، والتي تكون فيها أشياء مثل «الصوبة» و«المازوت» والخبز الشامي حاضرة بقوة، إذ يجلس الممثّلون أمام شاشة التلفاز ملتحفين من أقدامهم حتى أخمص أرجلهم بالملابس الثقيلة.
سوريون يبيعون الحطب لتدفئة
لكن أزمة الكهرباء والوقود والخبز التي ضربت الداخل السوريّ بشدّة في هذه الأيّام الباردة تحرم السوريين من عيش تلك اللحظات، إذ تُعاني مناطق النظام منذ سنوات من تردّي الأوضاع المعيشية على جميع المستويات علاوة على انتشار الفقر والتسوّل والغلاء بشكل كبير، وتفاقمت الأوضاع منذ أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي حتى اليوم، فقد أدّت زيادة أسعار المازوت إلى توجّه السوريين نحو استخدام الغاز المنزلي في التدفئة، مما خلق في مختلف محافظات سوريا نُدرة حادة في هذا المورد الذي يستعمل للتدفئة والطهي.
وقد وصل سعر أسطوانةِ الغاز الواحدة في بعض المناطق إلى نحو 17 ألف ليرة سورية، بينما كان سعرها في مناطق متفرقة في ريف دمشق 11 ألف ليرة سورية، أمّا أزمة انقطاع التيار الكهربائي فزادت من معاناة السورية في ظل موجات البرد المتتالية، وتسببت أزمة الغاز في زيادة أحمال الكهرباء بنسبة 20% مقارنةً مع الفترة نفسها من العام الماضي، بالإضافة إلى ذلك فقد تزامنت زيادة ساعات تقنين الكهرباء للحدّ من استهلاكها في التدفئة مع اهتمام مُحافظة دمشق بتزيين دمشق بإنارة مترفة في احتفالات رأس السنة، ما أثار غضب السوريين، ولذلك وصف مهندس خمسيني من سكان ريف دمشق، يدعى ناظم تلك الإنارة «بالهدر الوقح للكهرباء، ففي ريف دمشق لا نرى الكهرباء وبذلها على هذا النحو، خساسة وإمعان في إذلال المواطن».
ويُرجع النظام السوري سبب الأزمة إلى تشديد العقوبات الاقتصادية من قبل الدول الغربية على سوريا، إذ أدّت العقوبات إلى انخفاض توريد المشتقّات النفطيّة إلى سوريا، وبلغ سوء الأوضاع المعيشية حد «حسد» مذيعة في التلفزيون الرسمي السوريين في بلاد اللجوء، فقالت ماجدة زنبقة: «يلي زعلان انو طلع برا البلد.. زعال علينا حبيبي لانو ما طلعنا برا البلد.. نحنا يلي أكلناها بإيدينا ورجلينا ولا تخلي حدا يقلك انو خلصت الحرب ومن هالحكي لانو هلأ بلشت الحرب والحرب علينا يلي ضلينا وبس».
وتابعت القول بنبرة حادة: «بحب أقلك انو الوضع من سيئ إلى أسوأ مرحلة بالتاريخ.. الدولار ما نزل بالعكس طلع وحياتك.. الكهربا ما بعرف ليش حاطين وزارة أساسًا.. المي مرتبطة مع الكهربا».
تنفيس حالة الاحتقان دون تجاوز الخطوط الحمراء
يستهلّ الصحافي السوري فراس ديبة حديثه لـ«ساسة بوست» واصفًا الأوضاع في مناطق سيطرة النظام بقوله: «هناك حالة تذمر عند السوريين المقيمين في مناطق سيطرة النظام نتيجة غياب مقوّمات الحياة الأساسية من كهرباء ومازوت وغاز، وشح هذه المواد وارتفاع أسعار المواد الغذائية، بشكل لا يتناسب مطلقًا مع دخل الفرد في سوريا بعد انهيار الليرة السورية إلى عُشر قيمتها خلال السنوات الثماني الماضية».
مظاهرات مؤيّدة لبشّار الأسد
ويتابع القول: «في هذه الحالات، تلجأ الأجهزة إلى تنفيس حالات الاحتقان المتزايدة بعدّة طرق، ومن هذه الطرق الإيعاز للمشاهير بالاحتجاج»، مؤكدًا على أن النظام في هذه المرة يوجّه هؤلاء المشاهير من فنانين وإعلاميين إلى رئيس النظام السوري بالمناشدة لإيجاد حلول للواقع المعيشي المزري، ليوحي أن الأسد غير مسؤول عما يحصل، وتحميل المسؤولية للحكومة التي لا حول لها ولا قوة، والتي عادة تكون الحلقة الأضعف في بنية النظام السوري، مضيفًا: «سياسة التنفيس مستخدمة عند معظم الأنظمة العربية، والمطلوب من هذه الحملة التحضير لقرارات رئاسية وتعديلات حكومية وبعض الدعم الاقتصادي، كما لو أن الأسد كان لا يعلم بما يحصل، وعندما علم استجاب لمطالب الشعب وحقق جزءًا من مطالبه».
ويشير ديبة إلى أن الحملة تؤكد على أن بشار الأسد «فوق النقد» ويتجاهل الإعلامُ المؤيّد الحقيقة الصارخة التي تقول إن الأسد هو من يختار الحكومة كاملة، دون حتى أن تنال الثقة من مجلس الشعب السوري الصوري الذي تختار أعضاءه أيضًا الأجهزة الأمنية.
ويمكن التدليل هنا بقضية مدير صفحة «دمشق الآن» الموالية للنظام، وسام الطير، الذي كان أحد أبرز المدافعين عن نظام الأسد، واعتُقل مؤخرًا لتجاوزه الخطوط الحمراء التي يفرضها النظام على حرية التعبير في البيئة الموالية، إذ قام الطير بنشر استبيان للرأي حول أزمة الغاز التي تشهدها المناطق السوريّة مؤخرًا، وشهدت سوريا بشكل عام اعتقالات لمواليين من الناشطين والصحافيين والفنانين خلال الأشهر الماضية، أبرزهم الممثل مصطفى الخاني بعد خلاف مع سفير النظام لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري.
ويرى بعض المراقبين أنّ الحملة الحالية تأتي في إطار المناجاة والاستغاثة بالأسد لتحسين الأوضاع المعيشية، وهو الأمر الذي يرى مراقبون أنه مدفوع من أجهزة المخابرات، لإظهار أن الأسد وحده القادر على تحسين الأوضاع المعيشية، وهي متلازمة معروفة في سوريا، تقوم على توجيه كل النقد للحكومة وتحميلها كامل المسؤولية، ثم تبرئة الرئيس وتصويره باعتباره المخلّص.