على أرض المعركة في سوريا ميزان القوى متحرك، والكر والفر هو الحال القائم بين الأطراف المتنازعة، لا شيء يستقر على حاله، تدمر: تارة مع «تنظيم الدولة»، وأخرى مع النظام السوري، وحلب، التي سقطت بالأمس القريب في يد النظام، تركها أهلها وشعارات الانتقام لاستردادها تملأ كل جدار صمد في المدينة.
النظام السوري يسير في معاركه التي يضعها ويدعمها حلفاؤه والمعارضة كذلك، ومستقبل الدولة ومدنها على المحك، لكن يبدو أنه من الممكن محاولة استقرائه بمرونة، يستتبعها استقراء للخارطة السياسية والجغرافية لمصير سوريا.
في هذا التقرير يتحدث «ساسة بوست» لعدة محللين ومختصين عن مستقبل دمشق وحلب وإدلب وتدمر:
الديموغرافيا تجعل دمشق للنظام
تقع دمشق العاصمة ضمن استراتيجية «سوريا المفيدة» أي ضمن المناطق التي تخضع للنظام السوري والتي ستشكل حسب مخطط النظام وحلفائه في نظر البعض «الهلال الشيعي»، ومن أجل ذلك عمل النظام دائمًا بالتفاوض والقتال من أجل تحويل المناطق السنية المحيطة بالعاصمة لمناطق شيعية، في إطار ما سمي بتطييفه للصراع.
تقول الباحثة اللبنانية من زمالة «فريدمان» الافتتاحية في معهد واشنطن «حنين غدار» «هذه التغيرات الديموغرافية ليست جديدة؛ إذ إن والد الرئيس الأسد عمل بنشاط على ملء دمشق والبلدات المحيطة بها بالعلويين والأقليات الأخرى خلال الفترة التي قضاها رئيسًا للبلاد، وبينما هدفت الاستراتيجية الديموغرافية للأسد إلى مساعدة النظام على الحفاظ على سيطرته على دمشق، فإن إيران وميليشياتها بالوكالة تستثمر أيضًا بشدة في هذه العملية».
تحدثنا إلى المحلل العسكري «راني جابر»، والذي أكد لنا أن «لدمشق حالة خاصة؛ فهي أصبحت مرتكزًا لانتشار وتموضع الميليشيات الشيعية، وحركة التغيير الديموغرافي، والمتمثلة في استجلاب عناصر وعائلات الميليشيات الشيعية، وتوطينهم في سوريا؛ ما يجعل دخول الثوار إليها أصعب نسبيًا في المرحلة الحالية، لكنه سيكون واقعًا لاحقًا«.
ويتابع جابر القول لـ«ساسة بوست» «النظام يدرك أن المدن السنية لن تكون مستقرة بيده، لذلك يسعى لاستجلاب عناصر الميليشيات الشيعية وتوطينهم فيها، وطرد سكانها السنة منها الذين يخشى أنهم الحاضن الشعبي لأي جهد عسكري ضده».
من جانبه، يأسف الصحافي المهتم بالشأن السوري «عبو الحسو»؛ لكون مصير سوريا لم يعد بيد السوريين، سواء كان طرف النظام أو المعارضة، ويقول «قرار النظام بات روسيًا بالدرجة الأولى، ثم إيرانيًا، وكذلك المعارضة، فباتت تتقاذفها المصالح الدولية، المتناقضة في مصالحها حينًا، ومتوافقة فيما بينها ضدها حينًا آخر»، مشيرًا إلى أن حلب ودمشق يخضعان لمحاولة إيرانية لتغيير ديمغرافيتها بجلب أعداد كبيرة من الشيعة وإسكانها فيهما، وبحسبه، فإن ما حدث سابقًا على هذا النحو في بغداد يحدث في دمشق وحلب.
الغوطة الشرقية.. هدف النظام الآن
المنطقة الأكثر أهمية التي تقع في ريف دمشق، هي الغوطة الشرقية، التي تمتد لأكثر من مائة كيلومتر مربع من محيط مطار دمشق الدولي إلى مشارف البادية وجبال القلمون الشرقي وصولًا إلى الطريق الدولي نحو حمص، إذ تعد المنطقة الأكبر مساحة في جعبة المعارضة منذ خريف عام 2012، وهي منطقة يطوقها النظام السوري والمليشيات التابعة له، بينما تنتشر عناصر «تنظيم الدولة» في جبال القلمون الشرقية التي تحدّ الغوطة من جهة الشمال.
لقد تحولت الأنظار نحو الغوطة بعد سيطرة النظام على حلب؛ إذ يتوقع أن تكون الهدف التالي للمواجهة الشرسة بين المعارضة السورية والنظام، ولا يستبعد قاطنوها أن يكون الدور عليهم في إبرام تسوية تفريغ سكاني، كما لا يُستبعد قيام عمل عسكري أو اقتحام شامل لمساحة واسعة لتكرار سيناريو تقسيم المنطقة إلى مربعات صغيرة؛ حتى يتثنى التضييق على المقاتلين وإخراج المدنيين منها.
وإذا كان يحتمل على نطاق واسع صمود الغوطة الشرقية لما يقارب العام في حال بدء أية مواجهة في الغوطة، بسبب مساحتها الكبيرة، وتمتع فصائلها بسلاح ثقيل ومتوسط، يقول لنا الناشط الإعلامي «أنس الدمشقي»: إن «النظام السوري وإيران وروسيا الآن يركزون على الغوطة الشرقية – وهي في موقع دفاع – يعملون ضمن معركة «دبيب النمل»، بحيث يسقط كل يوم منطقة من الغوطة في محاولة لمحاصرتها، وبذلك تتبع خطة النظام في حلب».
ويشدد الدمشقي، وهو ضمن المحاصرين في الغوطة الشرقية، على أن النظام يعتبر الغوطة الشرقية منطقة تهدد أمن العاصمة وتهدد قاعدته الشعبية، وتابع القول لـ«ساسة بوست» «المتوقع أن تكون الغوطة هدف النظام القادم، وهناك حشود ضخمة تجاهها كمنطقة محاصرة»، ويمكن الإشارة إلى التخوف من مواقف مضادة قد تلعبها بعض الفصائل في الغوطة، وهنا يوضح الدمشقي «يوجد في الغوطة 60 ألف مقاتل، وفيها أكبر فصائل سوريا، ونحن نستطيع من خلال السلاح صد النظام، لكن هناك فصائل يُتخوف منها، نخاف أن تتسبب هذه الفصائل في عدم صمود الغوطة كما حدث في حلب».
الصراع الطائفي لن ينهي معركة حلب
يمتد طموح ما يُعرف بـ«سورية المفيدة» من دمشق وريفها الجنوبي إلى طرطوس الساحلية مرورًا بحمص ومدينة حماة، وبعدما كانت «سورية المفيدة» هي الهدف بالنسبة لنظام السوري وحلفائه، تحولت إلى نقطة ارتكاز لاستعادة متدرجة للسيطرة على باقي البلاد، وكانت مدينة حلب خطوة في هذا السياق.
ومع ذلك يرى الكاتب الصحافي من لندن «إبراهيم حميدي» أنه بعد سيطرة النظام على حلب، وتحقيق ما كان يصبو إليه، يبقى هناك ما يسميه بـ«التحدي العملي أمام هذا الطموح»، ويتمثل ذلك في نقص القدرة البشرية لقوات النظام من جهة، ووجود قوى ودول إقليمية وكبرى منخرطة في سوريا من جهة ثانية، وللتدليل على ذلك يستشهد حميدي لـ«ساسة بوست» بتجربة خسارة النظام السوري لمدينة تدمر أمام «تنظيم الدولة»، وهو ما يعني أن «الميزان على الأرض هو ميزان مرن ومتحرك»، حسب حميدي، الذي تابع لـ«ساسة بوست» «لابد من انتظار تسلم الرئيس دونالد ترامب الرئاسة بداية العام المقبل، وتشكيل إدارته لمعرفة مدى متابعة واستمرار أو تراجع الدعم الأمريكي للأكراد والمعارضة السورية».
ويعتقد حميدي أنه «في كل الأحوال، سوريا التي نعرفها انتهت، والحرب المستمرة ستؤدي إلى صياغة جديدة للمجتمع ومؤسسات الدولة، وفي غالب الأمر ستنتهي سوريا إلى دولة لا مركزية مع دور أكبر للإدارات المحلية أو الأقاليم»، مستدركًا «لكن لن يصل هذا إلى مستوى التقسيم؛ لأن إعادة رسم حدود سوريا أمر مرتبط بقرار دولي وإقليمي كبير يشبه اتفاق سايكس – بيكو، ولا أرى ذلك متوفرًا في المدى المنظور».
يتوافق ذلك إلى حد ما مع ما قاله لنا المحلل العسكري «راني جابر»: بأنه «ستستمر حالة عدم الاستقرار في المدن السورية التي شهدت أكبر المعارك، وستشهد عمليات تمدد وانحسار وتبادل سيطرة بين القوى المتقاتلة، ومدينة حلب سوف يستعيد الثوار أجزاء منها على أقل تقدير، ويدخلون إليها من جديد بعد فترة من الزمن، أثناء انشغال النظام بمعارك أخرى وتخفيض انتشاره العسكري فيها.«
ويرى جابر أن النظام حين يسيطر على المدن باستخدام قوة عسكرية ضخمة، وبمجرد انسحابها وانتقالها لمناطق ثانية تصبح المدينة مكشوفة وسهلة الاختراق، وقد تكون مدينة تدمر المثال الأكثر وضوحًا على ذلك، وما ينطبق عليها ينطبق على جميع المدن في سوريا.
من جانبه، يرى مساعد رئيس تحرير صحيفة «جارديان» البريطانية «سايمون تيسدال» أن «الصراع ربما يكون قد مال على نحو حاسم في غير صالح ما يسمى المعارضة المسلحة المدعومة من الغرب والسعودية وشركائها الخليجيين، لكنه لم ينته بعد»، وتابع القول «يبقى نظام الأسد ضعيفًا ومدينًا بالفضل لقوى أجنبية، وثمة مؤشرات على أن حلفاءه الظافرين بدؤوا يتناحرون كاللصوص الذين يتشاجرون حول الغنائم».
ويوضح تيسدال في مقاله «ما الذي ينتظر سوريا وحلفاءها وأعداءها بعد سقوط حلب؟« أن «المآلات الحقيقية للصراع الطائفي الدائر بسوريا غير جذابة لموسكو. الآن وقد تفرقت قوات المعارضة المعتدلة وجرى تهميشها، فإن المقاربة الإيرانية المتطرفة قد تعزز دعم الأغلبية السنية في سوريا، المتمركزين حاليًا في إدلب جنوب غربي حلب، كما أنها تقوي عضد تنظيم الدولة الذي يبسط سيطرته على مناطق واسعة في محيط مدينة الرقة بالشمال».
وحسب تقرير معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط «الجيش السوري أقام خطًا دفاعيًا قويًا حول حلب، لكنه ليس محصنًا ضد هجوم جديد تحت قيادة «جبهة فتح الشام»، وكانت الجماعة قد نجحت في كسر الحصار بشكل مؤقت في آب (أغسطس) من خلال العمليات التي نفّذتها من معقلها في إدلب، ثم هددت الأحياء الموالية في حلب مجددًا خلال تشرين الأول (أكتوبر)».
تدمر بين الاستلام والتسليم
في العاشر من ديسمبر (كانون الأول) الماضي تمكن «تنظيم الدولة» من السيطرة مرة أخرى على تدمر، التي كان قد استولى عليها في مايو (أيار) العام 2015، وذلك بعد ثمانية أشهر من طرده منها على يد قوات النظام السوري التي دعمتها قوة روسية، فقد هاجم التنظيم بشكل مباغت مواقع لجيش النظام السوري الذي انشغل بمعركة حلب، لتعود الآن تدمر كخزان إمداد لـ«تنظيم الدولة».
وبينما أعلن البيت الأبيض أن» مسؤولية استعادة مدينة تدمر السورية من تنظيم الدولة الإسلامية ستقع على الجيش الأمريكي»، كما قال المتحدث باسم البيت الأبيض «جوش إيرنست» ستبقي المدينة في صراعها مع الأطراف المتواجدة على الأرض السورية، لذلك لا يستبعد المهتم بالشأن السوري «عبو الحسو» أن يحدث تبادل أدوار لتتكرر حادثة استلامها وتسليمها حسب الوضع العسكري والسياسي.
ويوضح الحسو لـ«ساسة بوست» «قد نشهد انتصارًا وهميًا آخر يبيض صفحة النظام والروس أو إيران هذه المرة، ويظهرهم بمظهر حماة الحفاظ على التراث الإنساني والحضاري باستعادة تدمر مرة أخرى».
من جانبه، يؤكد لنا الصحفي السوري «فراس ديبة» أن وضع تدمر سيبقى وضعًا حساسًا جدًا؛ كونها تربط الجنوب العراقي الشيعي مع البقاع اللبناني الخاضع لسلطة حزب الله، وتابع القول «من يسيطر على تدمر والطريق منها إلى الحدود اللبنانية؛ سيكون صاحب القدرة الأكبر على رسم الحدود الفيدرالية في سوريا والمنطقة، وبالتأكيد سيكون كل من هذه الأقاليم خاضعًا بشكل مباشر لنفوذ دولة أو أكثر من الدول العظمى والدولة الفاعلة في المنطقة».
ويقرأ ديبة مصير إزاحة «تنظيم الدولة» عن تدمر، وقال: «تنظيم الدولة يستخدم كأداة لترسيم الحدود، وفرض واقع ونفوذ جديدة، والأمثلة على ذلك كثيرة منها الصراع على الباب ومنبج والرقة».
إدلب إقليماً فيدراليًا
تمثل إدلب التي لها طريق باتجاه تركيا رمزًا ومحركًا للثورة السورية، وهي أم المناطق السُّنِّية بسوريا، ومع هذا لا يستبعد أن يتمكن النظام السوري من استعادة السيطرة على المدينة؛ ففي ربيع هذا العام، شقت قوات النظام طريقها إلى سلسلة جبال اللاذقية، لتقترب من جسر الشغور، والمناطق التي خسرتها في العام 2015.
وبالانتقال إلى خارطة التحركات السياسة يقرأ المحللون توجهًا كبيرًا من قبل النظام السوري نحو إدلب، واحدة من هذه القراءات كانت خاصة بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط، إذ جاء في تقرير حديث للمعهد أن «الجيش السوري بعد سيطرته على حلب، سيسعى إلى توسيع رقعة الأراضي الخاضعة له بالتمدد باتجاه غرب المدينة، حيث توجد خطوط أمامية للمتمردين، ولا تبعد سوى مئات قليلة من الأمتار عن أقرب الأحياء الموالية للنظام».
يقول الصحافي السوري فراس ديبة «إن هناك مشروع تقسيم واضح يتم تنفيذه على الأرض السورية، وهذا المشروع مرتبط بتقسيم لعدة دول في المنطقة، بدأ بلبنان مبكرًا؛ حيث إن هناك حالة من التقسيم الطائفي غير المعلن حتى مستوى الأحياء والشوارع، ولكن النموذج الأوضح لهذا المشروع هو الوضع العراقي».
وتابع القول لـ«ساسة بوست» «بالنسبة للوضع السوري أتوقع أن يتم فرض حالة من الفيدرالية على سوريا، حيث ستكون حلب وإدلب إقليمًا فيدراليًا، وكذلك الساحل وحمص ودمشق، إضافة لإقليم كردي أو أكثر».
بينما يقرأ الصحافي المهتم بالشأن السوري «عبو الحسو» مستقبل مدينة إدلب كمصير حلب فيقول «في إدلب سيتم تجميع أعداد كبيرة من المعارضين فيها من كل الجهات، وكذلك الفصائل المسلحة؛ لينقضوا عليها دفعة واحدة، بحجة الإرهاب والتنظيمات المتطرفة«.