تعيش محافظة إدلب السورية على وقع طبول الحرب، انتشار ظاهرة الأفراد الموالين للنظام السوري، والذين لُقّبوا باسم «الضفادع»، أخذوا ينبثقون من صفوف المعارضة لتحقيق أهداف عدة للنظام.

لكن الإدلبيين -الذين عادى الكثيرون منهم النظام صراحة منذ اعتلاء حافظ الأسد عرش الحكم بسوريا- أعلنوا معركة كبيرة للتخلص من هؤلاء الضفادع مهما كان الثمن، فهل تستطيع الفصائل تحقيق ذلك وسط الضغوطات الكبيرة التي تتعرض لها؟

إدلب.. تاريخ من التمرد ضد النظام

في عام 1970، وفور وصول رئيس النظام الراحل حافظ الأسد إلى سدة الحكم في سوريا، رفضت محافظة إدلب هذا الوصول الذي جاء بعد انقلاب الأسد الأب على شركائه البعثيين.

مواطن سوري من إدلب يحمل لافتة منددة بالنظام

وسرعان ما صب الإِدْلِبِيُّون جل غضبهم على حافظ، حين وصل إلى المحافظة في إطار جولته الأولى لزيارة المحافظات السورية، وبدلاً من أن يرى مظاهر التأييد والموالاة له، وتحت هتاف «نريد إصلاحات» أمطر بعض المعترضين حافظ بالبيض، والبندورة، والأحذية البالية التي كاد أن يصيب أحدها رأسه، لن ينسى حافظ بعد ذلك ما لاقاه في تلك الزيارة، وكان انتقامه منهم هو تجاهل المحافظة وإقصاء وتهميش متعمد لسكانها، أولئك الذين اضطروا للاعتماد على زراعة الزيتون، أو إخراج أبنائهم للعمل في دول الخليج من أجل مواجهة البطالة.

كذلك اندلعت في إدلب في مارس (آذار) من العام 1980 مظاهرات كبرى في مدينة جسر الشغور مناصرة لحركة الإخوان المسلمين، التي قمعها النظام السوري آنذاك، فكان رد النظام هو ارتكاب عدة مجازر أخمدت هذه الاحتجاجات الشعبية، فطالت عمليات الإعدام الميداني أكثر من 150 من أهالي الجسر المسلمين والمسيحيين، ونالت من المحافظة حملات أمنية لم يسلم منها إلا القليل من عائلات إدلب، وبعد هذه المجازر زادت هجرة الفئة المثقفة والنخب السياسية من إدلب، إذ عامل النظام أبناءها كمواطنين أقل شأنًا من كل السوريين.

ونتيجة للحس الثوري الكبير الذي أصرت عليه إدلب، كان سكانها من أوائل من انضم إلى الحراك وقادوا الاحتجاجات السورية التي اندلعت عام 2011، وكذلك كانت إدلب أولى المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، بدأت معاركها معه في 2012 لتخرج بشكل كامل في عام 2015، وتصبح تحت سيطرة فصائل المعارضة، وخاصة «جبهة النصرة» التي استحوذت على المحافظة، وشهدت المحافظة تشكيل «الجيش السوري الحر»، وانشقاق أول ضابط عن الجيش النظامي السوري، وهو المقدم حسين هرموش.

مقاتلون من إحدى فصائل الجبهة الوطنية للتحرير أثناء معارك مع النظام (المصدر: الجزيرة)

وقد تحول عدد سكان المحافظة من نحو 1.5 مليون شخص في العام 2011، إلى ما يقارب من 3.5 مليون مدني، وفق تقديرات الأمم المتحدة، بينهم 1.8 مليون نازح، فإدلب هي قبلة السوريين النازحين من قصف النظام ومن المهجرين الذي فضلوا الهجرة إليها وفق «اتفاقيات المصالحات» على البقاء في المنطقة، التي سيطر النظام عليها بعد تسليم المعارضة للجيوب التي كانت خاضعة لهم.

وقد شكل هؤلاء مع سكان إدلب عامل قوة لصالح المعارضة في ميزان الصراع، فالغالبية الاجتماعية من المحافظة تفضل الموت في ساحات المعارك على عودة النظام وسيطرة الميليشيات الشيعية لموالية على مناطقهم، والحاضنة الشعبية في إدلب وريفها من المسلمين السنة الذين يخشون التنكيل الذي قد ترتكبه هذه الميليشيات بحق المعارضين للنظام.

من هم «الضفادع»؟

يطلق السوريون هذا الاسم على عرابي المصالحات مع النظام، ممن سبق وحسبوا على المعارضة السورية في مناطق سيطرتها، وهم العملاء الذين يروجون لأهمية العودة لـ«حضن النظام». ويعود أصل التسمية إلى حكاية خيانة الشيخ بسام ضفدع الذي حسب على صفوف المعارضة، وكان يقود فصيلاً عسكريًّا هو «فيلق الرحمن»، ففي فبراير (شباط) الماضي قاد ضفدع مفاوضات التسوية مع النظام في مدينة كفربطنا، خلال حملة النظام على الغوطة الشرقية.

لكن بالرغم من رفض الفصيل لدعوات ضفدع، فإن بعض المقاتلين الذين وافقوه هم من سهلوا اقتحام قوات النظام لكفربطنا بأمره، ولم يكتف الضفدع بذلك، بل سرعان ما ظهر بعد انتهاء المعارك وانضم إلى قوات النظام، وأخذ يمجّد بشار الأسد، ويبارك «انتصار» قواته في الغوطة، وأكد الإعلام الموالي للنظام أن ضفدعًا بدأ مهامه لصالح النظام منذ بداية الثورة، ومنذ هذه الحادثة أخذت مناطق المعارضة تطلق على أتباعه «الضفادع»، وكذلك على كل من يدعو للمصالحة مع النظام.

طفل من إدلب يحمل مجسم ضفدع رفضًا لدورهم (المصدر: شبكات التواصل الاجتماعي)

في مقالٍ له بجريدة «المدن» يقول الكاتب السوري عمر قدور إن «ظاهرة الضفادع وجدت ربما منذ وجدت الحروب، وكانت دائمًا تعتمد عنصر مفاجأة الخصم، مثلما تعتمد على عدم قدرة الخصم على ضبط أمنه الذاتي بنسبة تامة، وعدم وجود قانون تُقاس بموجبه قابلية الناس لتتحول إلى ضفادع».

ويضيف أن أحد العوامل التي تغذي ظاهرة الضفادع هي «عدم وجود أفق لانتصار الثورة، وفي السنوات الأخيرة يمكن لمن يقرأ الأحداث معرفة أن الكفة تميل لنظام الأسد، كما قد لا يخلو الواقع من أولئك الذين كانوا مع الثورة ثم بدّلوا مواقفهم، فهناك جهة أناس لم يعودوا يرغبون سوى في الأمان الشخصي لهم ولأسرهم، ولا يرون سبيلاً له إلا بالاستسلام وبالعودة إلى حظيرة الأسد».

ويتابع القول في مقاله «الضفدع إذ يحتفي بقاتله»: «قد يُقال إن كل هذه الظروف إذا بررت الاستسلام فهي لا تبرر الاندفاع بحماسة إلى جهة القاتل، وأن تُعلن الأفراح إلى جانب الإبادة. تلك هي البراهين التي يحتاجها الأسد للمتاجرة إعلاميًّا، وأيضًا لضمان امتهان كرامة العائدين على أكمل وجه».

تكسير المعنويات وبسط الطريق للنظام

على مدى أكثر من سبع سنوات، هي عمر الانتفاضة السورية ضد الأسد، تعرضت الفصائل العسكرية التابعة للمعارضة للاختراقات الأمنية من قبل جهاز مخابرات النظام، الذي سعى لتحقيق العديد من الأهداف التي تسهل مهامه في النيل من تحصينات المعارضة وخططها وأسرارها.

فقد حرص النظام على ترك خيوط تربطه ببعض الفئات الاجتماعية في مناطق المعارضة، من فئة الموظفين الحكوميين الذين استمروا بتلقي رواتبهم من النظام، أو بعض الأعيان والوجهاء والمشايخ، فقد كان النظام معنيًّا باستمرار باستقطاب فئات مجتمعية من أجل استغلالها ثم تحريكها في وقت معين لقضاء خدمات له، ولذلك كان من المهام الرئيسية التي أداها «الضفادع» هي تغيير قناعات السكان؛ حتى ينتهى الأمر بعقد اتفاقيات ومصالحات.

وتشكل الخلايا التي يزرعها النظام في مناطق المعارضة حجر أساس في أي عملية مرتقبة للنظام وحلفائه، ولذلك تكثف نشاط هذه «الضفادع» في إدلب، التي يشاع الآن قرب شن هجوم عسكري ضدها، إذ يقوم هؤلاء ببث روح الاستسلام بين المسلحين، وبتأليب المدنيين على الفصائل المسلحة، ويأخذ العديد منهم بطرح المصالحة خيارًا مهمًا، وبضرورة تسليم السلاح.

وتدرك فصائل المعارضة بإدلب أن النظام لا يتوانى عن تنشيط هذه الخلايا لخلق حرب نفسية ضد المدنيين بهدف تكسير المعنويات لديهم، من خلال بث إشاعات كاذبة حول أهمية الاستسلام قبل شن الهجوم أو بعد بدئه، وكذلك يمكن لهذه الخلايا أن تبادر بشن تحركات عسكرية من داخل مناطق النظام، كما حدث في معارك الغوطة، حين خاض بسام ضفدع سالف الذكر، بمجموعة مسلحة من 400 عنصر منشقين عن فيلق الرحمن، عملية اقتحام قوات النظام لغوطة دمشق الشرقية من محور عين ترما.

اعتقالات ومنصة «إعدام» لضفادع

قبل أيام، نصب بعض الشباب المدنيين في مدينة حارم، الواقعة بشمال إدلب، منصة إعدام كوسيلة احتجاج تطالب بإعدام الضفادع، ورفض المصالحة مع النظام، وفيما أزيلت المنصة لاحقًا بطلب من شرطة المدينة، تستمر بعض المطالبات الشعبية بمحاربة الظاهرة في هذه الأيام العصيبة على إدلب، والتي كان آخرها خروج مظاهرات تؤكد على إصرار المدنيين على مواجهة الأسد، وعدم الاستسلام، وتطالب بالقضاء على ظاهرة «الضفادع»، إذ حمل المتظاهرون دمى على شكل ضفادع ضربوها بالأحذية.

تظاهرات إدلب الأخيرة (المصدر: فرانس برس)

وتحركت الفصائل الموجودة في إدلب نحو اعتقال المشتبه بترويجهم للمصالحة مع النظام، فاعتقل العشرات منهم في قرى تل الشيح، والدير الشرقي، والبريصة، والمعيصرونة، والهلبة في ريف معرة النعمان الشرقي، وألقت فصائل المعارضة وهيئة تحرير الشام القبض خلال أغسطس (آب) المنصرم على أكثر من 400 شخص في ريفي إدلب وحماة؛ بسبب ترويجهم للمصالحة مع قوات النظام.

إلا أنه على مستوى واسع بريف إدلب يبدو من الصعوبة الكشف عن معظم هؤلاء «الضفادع»، لكون بعضهم مدعومين من شخصيات ثورية، ولهم صداقات قوية أو صلة قربى توفر الحماية لهم، ويدعو النشطاء إلى عزل أي شخص يشكك بـ«ولائه للثورة» من منصبه، بغض النظر عن الشخصية التي تدعمه، كما يدعون الإعلاميين لمحاربتهم إعلاميًّا، وكشفهم في حال بقوا في مناصبهم «يتحكمون بمفاصل الثورة».

منصة الإعدام التي نصبها السكان (المصدر: شبكات التواصل الاجتماعي)

وفيما بقي مصير دعاة المصالحة في إدلب بيد فصائلها وسكانها، كان قد أتى وقت خلاص النظام السوري من عرّابي المصالحات العائدين إليه، بعد أن انتفت الحاجة إليهم، وحدث ذلك مع أشهر عرابي المصالحة السوري عمر رحمون، فبعد أن شعر النظام بعلوّ شأن رحمون في المجتمع الموالي، قرر التخلص منه؛ فدفع بعض مواليه ليقدموا دعاوى قضائية لمحكمة الإرهاب بحقه، وذلك بتهمة مشاركته بقتل قوات النظام وسلبهم في حلب، وقت أن كان مع المعارضة.

كذلك حوكم العديد من القضاة والشخصيات في ريف درعا، والغوطة الشرقية، بتهمة الانتماء لـ«تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش) وجبهة النصرة، كما اغتال النظام عددًا من رؤوس المصالحات في حوران بذريعة تبعيتهم للمعارضة، ومن هؤلاء ياسر الطويرش، الذي أدى دورًا كبيرًا في تسليم درعا للنظام، كما تخلص النظام من قادة المصالحات بزجّهم في مقدمة القوات التابعة له في المعارك التي خاضها بعد عودة هؤلاء لمناطق النظام، كما حدث في معارك حوض اليرموك، ثم بادية السويداء، والمناطق السورية الشرقية.

المصادر

تحميل المزيد