هذا التقرير جزء من مشروع «الحج إلى واشنطن» لتغطية أنشطة لوبيات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة بين 2010-2020. ومعظم المعلومات الواردة في التقرير تستندُ لوثائق من قاعدة بيانات تابعة لوزارة العدل الأمريكية، تتبع لقانون «تسجيل الوكلاء الأجانب (فارا)»، الذي يلزم جماعات الضغط بالإفصاح عن أنشطتها وأموالها، وكافة الوثائق متاحةٌ للتصفح على الإنترنت.

كانت كفّة النزلات العسكرية قبيل التدخل الروسي في الصراع السوري في 30 سبتمبر (أيلول) عام 2015 تميل لصالح قوات المعارضة. ما يجعل تأسيس «الهيئة العليا للمفاوضات السورية» في ديسمبر (كانون الأول) من نفس العام منطقيًا لوضع اللمسات الأخيرة على ما بدا حينها نهاية للصراع السوري وتحقيق انتقال سلمي للسلطة أخيرًا.

إلا أنّ تطوُّر الأحداث في الأعوام اللاحقة، ومَيَلان الكفّة العسكرية من جديد لصالح النظام السوري وحلفائه ألقى بظلاله على النشاط السياسي لقوى المعارضة من السعي لتحقيق الانتقال السلمي للسلطة، إلى السعي لاستجداء الدعم العسكري والمالي من واشنطن لتحسين شروط التفاوض مع النظام الذي يسنده الدعم العسكري الروسي والإيراني، والذي بدأ باستعادة سيطرته على معظم المناطق الثائرة تدريجيًا.

في هذا التقرير نستعرض جزءًا من نشاط الهيئة العليا للمفاوضات السورية في الضغط السياسي في أروقة الحكم الأمريكية.

من «ائتلاف الثورة» إلى «هيئة المفاوضات»

انبثقت الهيئة السورية العليا للمفاوضات عن مؤتمر الرياض الذي عُقد في 9-10 من ديسمبر (كانون الأول) 2015، بهدف توحيد رؤى قوى المعارضة السورية السياسية والعسكرية. وأوكلت للهيئة مهمة تشكيل الوفد التفاوضي مع النظام السوري لحضور مفاوضات جنيف الثالثة. واتفق أن تكون تشكيلتها من 32 عضوًا، بينهم تسعة من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، و10 من الفصائل المسلحة، وخمسة من هيئة التنسيق الوطني، وثمانية مستقلون.

Embed from Getty Images

وفد من الهيئة السورية العليا للمفاوضات، في مدينة جنيف بسويسرا، في 2016

نشأت الهيئة جسمًا وظيفيًا مُحدَّد الهدف وهو تمثيل أوسع لأطياف المعارضة السورية في مفاوضات جنيف الثالثة والرابعة، ومفاوضات أستانا، بشأن الأزمة السورية. وهي بذلك قد ورثت مهمة الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة الذي مثل السوريين في مفاوضات جنيف الثانية.

كان الأداء السياسي للائتلاف يتعرّض لحالات مد وجزر، تبعًا لحالات التجاذب بين مكوناته، إلى أن وصل إلى حالة استدعت من المجتمع الدولي الدفع باتجاه سحب الملف التفاوضي منه. وبذلك تأسست هيئة المفاوضات العليا لتتكفَّل بهذه المهمة.

اعتمدت الهيئة العليا للمفاوضات طوال فترة عملها على مرجعية تقوم على نقطتين أساسيتين هما: التمسك بوحدة سوريا، وإقامة نظام يمثل كافة أطياف الشعب، لا مكان فيه لبشار الأسد ورموز نظامه، وذلك وفق ما أعلنه المنسق العام للهيئة رياض حجاب في الخامس من يناير (كانون الثاني) 2016.

وأطلقت الهيئة خلال اجتماعاتها التالية لتأسيسها في الرياض الإطار التنفيذي للحل السياسي في سوريا، واعتبرت أن «الحل السياسي هو الخيار الاستراتيجي» الأول الذي تعتمده. ووفق بيان «جنيف 1»، والقرارات 2118 و2254، القاضية بإنشاء هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية «لا وجود ولا دور للأسد ومن اقترف الجرائم بحق الشعب السوري فيها بدءًا من المرحلة الانتقالية»، على الأقل في بداياتها.

تحوُّل إقليمي ونظام الأسد يتقدم

جاء تأسيس الهيئة في ديسمبر 2015 ومن ثم تعاقدها في 19 سبتمبر (أيلول) 2016، مع شركة «سكوير باتن بوجز Squire Patton Boggs» التي تعمل في المحاماة والضغط السياسي. بالتزامن مع التدخل الروسي لصالح النظام في سوريا. وجاء في ظل وجود زخم عالمي يدفع باتجاه حل المشكلة السورية بمؤتمر فيينا، ووجود رغبة من جُلِّ الدول المعنية بحل المشكلة السورية، والتخلص من عبئها وآثارها وبخاصة قضية اللاجئين، وانتقال أعمال «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» إلى خارج حدود سوريا والعراق.

والحال هكذا، ولمواكبة وتيرة الأحداث المتسارعة على الساحة السورية، استأجرت هيئة المفاوضات العليا السورية جاك كينجستون، عضو الكونجرس السابق والذي كان يعمل عام 2016، وقت الاستعانة به، مستشارًا للمرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية وقتها دونالد ترامب. والهدف هو الإطاحة بنظام بشار الأسد.

وخلال قرابة ثلاثة أعوام من التعاون بين الهيئة العليا للمفاوضات والشركة، وحتى نهاية التعاقد في 30 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، عملت الشركة على التواصل المكثف مع عدد من نواب وشيوخ الكونجرس الأمريكي، ومع عدد من لجانه أهمها لجان العلاقات الخارجية، والخدمات المسلحة، ولجنة الاستخبارات. وبدرجة أقل تواصلت الشركة مع أعضاء الكونجرس في لجنتي المخصصات والخدمات المالية بشأن مفاوضات المعارضة مع النظام السوري بحسب الوثائق.

لذا وحتى منتصف عام 2017 تواصلت والتقت الشركة مع كل من الشيوخ الجمهوريين، تود يونج، وماركو روبيو، الأعضاء في لجنة العلاقات الخارجية. والتقت كذلك مع السيناتور الديمقراطي بن كاردين، زعيم الأقلية في ذات اللجنة.

أما في مجلس النواب، فقد تواصلت الشركة والتقت مع عِدَّة أعضاء من لجنة الشؤون الخارجية بخصوص مسار تفاوض المعارضة السورية مع النظام مثل رئيس اللجنة الجمهوري إد رويس، ومع زعيم الأقلية فيها الديمقراطي إليوت إنجل.

وكان لافتًا في عام 2017 التقاء الشركة مع أهم أقطاب لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ. إذ بيّنت الوثائق التقاء الشركة مع السيناتور الراحل جون ماكين، وهو رئيس اللجنة آنذاك وسياسي جمهوري بارز، بالإضافة لزميله زعيم الأقلية الديمقراطية في اللجنة، جاك ريد. وبينت الوثائق كذلك لقاء الشركة مع رئيس لجنة الخدمات المسلحة في مجلس النواب ماك ثورنبيري.

Embed from Getty Images

الرئيس الأمريكي باراك أوباما في البيت الأبيض مع وفد من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، ويقابله رئيس الائتلاف آنذاك، أحمد الجربا. الصورة بتاريخ 13 مايو (أيار) 2014

وفي ذات الإطار سجّلت الوثائق اتصالات مهمة للشركة مع أعضاء في لجان الاستخبارات والأمن القومي مثل إليانا روس ليتنين، التي كانت بنفس الوقت رئيسة اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومع باول ميلر من مجلس الأمن القومي الأمريكي.

قد تفسر الأحداث في سوريا التركيز العالي للشركة على أعضاء ورؤساء لجنة الخدمات المسلحة في عام 2017، إذ يمكن اعتباره عن حقّ «عام التحولات الكبرى»، وضياع كل أمل للسوريين في انتزاع الحكم من براثن نظام البعث الحاكم.

فقد كانت الأراضي السورية خلال فترة التعاون بين الهيئة والشركة في فوضى عارمة تدار من قبل ثلاث هيئات حاكمة في مناطق مختلفة. فإلى جانب حكومة النظام في دمشق، أعلن المؤتمر العام في إدلب التابع لهيئة تحرير الشام في أواخر 2017، وهي هيئة تشكلت من تحالف عدد من الجماعات السلفية والجهادية، أعلنت عن تشكيل حكومة إنقاذ في الشمال السوري بـ11 حقيبة وزارية. وفي نفس السياق كانت قد تأسست كذلك الإدارة الذاتية الكردية التابعة لقوات حماية الشعب ومجلس سوريا الديمقراطية (قسد)، في سبتمبر (أيلول) 2018، التي تمارس سيطرتها على أراضي الشمال الشرقي السوري مدعومة من واشنطن. وتقلَّصت سيطرة الجيش الحر على شريط حدودي ضيق جنوب الحدود التركية المتاخمة على امتداد الشمال السوري.

إلى جانب تلك الهيئات السياسية كانت وتيرة العمليات العسكرية وتشكيل الجيوش على قدمٍ وساق. فالنظام الخارج منتصرًا من معارك حلب وريفها أعلن أواخر 2016 عن تأسيس ما عرف وقتها باسم «الفيلق الخامس اقتحام» من مواطنين سوريين وانضم إليهم مقاتلون إيرانيون وأفغان لزيادة قدرته القتالية في جيوب المقاومة الأخيرة، وهي القوات التي طالت عقوبات قانون قيصر قائدها.

وأعلنت وزارة الدفاع التابعة للحكومة المؤقتة تشكيل الجيش الوطني السوري في ريفي حلب الشمالي والشرقي، وهي منطقة نشاط عملية درع الفرات التركية. ودعمت واشنطن تأسيس «جيش شمال سوريا» من مقاتلين أكراد امتدت مناطق عملياتهم من شمال شرق سوريا وحتى دير الزور والرقّة، التي اتخذها تنظيم داعش عاصمة له، ما يفسر السعي الحثيث للضغط على الإدارة الأمريكية لتسليح قوات المعارضة السورية التابعة للهيئة والائتلاف.

في هذا السياق، كانت الشركة التي تقاضت 50 ألف دولار شهريًا عن أتعابها، قد تواصلت كذلك مع أعضاء الكونجرس نوابًا وشيوخًا في اللجنة المالية ولجنة المخصصات. فقد أظهرت السجلات لقاءات مع كل من النائبة آن فاجنر العضو في لجنتي الخدمات المالية، والشؤون الخارجية. ورئيسة لجنة الرقابة والتحقيق الفرعية.

كما تواصلت مع السيناتور الديمقراطي بوب كايسي العضو في اللجنة المالي، ورئيس الأقلية في اللجنة الفرعية للتجارة الدولية، إلى جانب آخرين مثل الديمقراطي جاك ريد العضو في لجنة المخصصات.

لا تظهر سجلات الشركة رغم التعاون الذي استمر لثلاثة أعوام إلا أنشطتها حتى منتصف العام 2017، إذ لم تصرّح الشركة بعد ذلك التاريخ عن خدماتها والأموال التي تلقتها، ما قد يعني أنها تابعت العمل في الشؤون القانونية الصرفة للهيئة. ولكن يرد في السجلّات أن الشركة تقاضت عن خدماتها حتى منتصف 2017 أكثر بقليل من 94 ألف دولار، دفع بتاريخ 27 يوليو (تموز) 2017،  ومن الجدير بالذكر أن التعاقد تمّ بالتنسيق بين الشركة ورياض حجاب، رياض حجاب، سياسي سوري معارض عملَ سابقًا رئيسًا لوزراء سوريا بين يونيو – أغسطس 2012، وبعدها انشق وعمل مع المعارضة منسقًا عامًا للجنة العليا للمفاوضات، المسؤولة عن التفاوض مع نظام الأسد، ورغم أن العقد باسمه ممثلًا عن اللجنة، إلا أن الوثائق لا تُظهر توقيعه عليها.

من وثيقة التعاقد بين اللجنة العليا للمفاوضات وشركة «سكوير باتن بوجز» الأمريكية، ويظهر اسم المنسق العام للجنة، رياض حجاب، ولكن دونَ توقيعه على التعاقد. المصدر: موقع وزارة العدل الأمريكية.

ترامب يهدر جهود أوباما والمعارضة

إذا كان يمكن اعتبار عام 2015 هو عام التدخل الروسي في الصراع السوري، وإذا كان عام 2016 هو عام التحوُّل في موازين القوى بإعلان انتصار قوات النظام السوري وحلفائه في حلب الشرقية، فيمكن اعتبار عام 2017 هو عام التخلِّي الأمريكي رسميًا عن القوى السياسية السورية المنضوية تحت لواء ائتلاف الثورة والمعارضة، أو تحت مظلة الهيئة العليا للمفاوضات. ففي تموز (يونيو) من ذلك العام أعلن الرئيس الأمريكي عن وقف برنامج «وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي أي إيه)» في دعم المعارضة السورية الذي أطلقه سلفه باراك أوباما.

يأتي ذلك في سياق سياسة ترامب ورؤيته للصراع السوري، فقد كانت معظم تعليقات ترامب حول سوريا خلال حملته الانتخابية تدور حول عدم اهتمامه بالإطاحة بالنظام السوري، في إطار هدفه الأوسع للانسحاب من الشرق الأوسط. وهو ما انعكس في قبول معسكر المعارضة لاحقًا بالتفاوض مع النظام وتخلّي القوى الدولية المهتمة بالشأن السوري عن شرط الإطاحة ببشار الأسد على الأقل في المرحلة الحالية حتى تحقيق الانتقال السياسي سلميًا.

وإذا كان السوريون وحلفاؤهم غير راضين حينها عن مستوى تدخل إدارة أوباما في الشأن السوري خصوصًا العسكري بالدعم والتدريب والتمويل من جهة، وغير راضين عن الصمت الأمريكي حول التدخل الروسي في عهد أوباما، فإن إدارة ترامب بدت وكأنها لا تعترض على التواجد الروسي الكبير بجانب نظام بشار الأسد.

الحقيقة التي تتسق مع مواقف الرئيس الأمريكي السابق الذي صرّح مرارًا بإعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأعلن أكثر من مرّة عن رغبته في إقامة علاقات جيدة مع روسيا. حتى خرجت أصوات ترى أن أمريكا تركت المعارضة السورية وسوريا للروس. وكانت النتيجة أن الإدارة الأمريكية في عهد ترامب اقتصرت جهودها على محاربة تنظيم «داعش» في سوريا والعراق، بهدف تأمين المصالح النفطية الأمريكية في الشمال السوري الشرقي، حيث تمركزت قوات الأكراد، حلفاء واشنطن.

انتهى تعاقد الهيئة السورية العليا للمفاوضات مع شركة سكوير باتون بوجز في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2019، أي ذات الفترة التي أقرَّ فيها الكونجرس قانون قيصر الذي يفرض عقوبات على الكيانات التي تتعامل مع الحكومة السورية ووكالاتها العسكرية والاستخبارية، ولكن لا تأكيد بأن الشركة لعبت دورًا في إخراج هذا القانون للنور.

ولكن ما نعلمه أن النائب إنجل إليوت، الذي التقت به شركة الضغط السياسي لصالح الهيئة، هو من تبنَّى القانون ابتداءً في الكونجرس، وقد تواصلت الشركة مع زملاء آخرين له من رعاة هذا القانون، ونعرف أيضًا أنَّ اللجان التي عملت على إصدار القانون كانت لجان الشؤون الخارجية والخدمات المالية والقضائية في مجلس النواب الأمريكي، ولجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وجميعها تواصلت معها شركة «سكوير باتن بوجز» لصالح الهيئة.

هذا التقرير جزءٌ من مشروع «الحج إلى واشنطن»، لقراءة المزيد عن «لوبيات» الشرق الأوسط اضغط هنا.

الربيع العربي

منذ 3 سنوات
10 أسباب تشرح لك كيف تحولت «الثورة السورية» إلى واقع مرير

المصادر

تحميل المزيد