وضعت العديد من الملفات الساخنة في المنطقة العربية والدولية، مؤخرا، العلاقات الروسية التركية على المحك، بعد تباين موقف كل واحدة صوب أية أزمة جارية تربط الدولتين بعلاقات مصالح داخلها، فبدأت حينها موجة التهديدات بقطع العلاقات الاقتصادية، والتي تعود إلى القرن السادس عشر الميلادي.

وما فجر توتر العلاقات بينهما، خلال الأيام القليلة الماضية، هو إسقاط تركيا لمقاتلة روسية عند الحدود التركية الروسية، حيث أعادت الأذهان مجددا إلى أبرز قضايا الخلاف بين الدولتين منذ عقود عدة، لاسيما مذابح الأرمن والأزمة الأوكرانية، واجتياح روسيا لجورجيا وغيرها.

أولا: الصراع في سوريا


أفرز الصراع الجاري في الأراضي السورية منذ الخامس عشر من آذار عام 2011 محطة جديدة من الخلافات بين تركيا وروسيا حول موقف كل واحدة من النظام السوري، حيث تعارض الأولى بقاء “بشار الأسد” بالتزامن مع استمرار سقوط الآلاف من القتلى والجرحى.

فضلا عن دعم تركيا المعارضة السورية، بعد جولات وصولات من المبادرات السياسية؛ لإنهاء دائرة الصراع، بيد أنها باءت بالفشل، فيما تعارض روسيا بشدة إسقاط نظام الأسد باعتباره صاحب السيادة والشرعية، مع رفض أي تدخل عسكري لإزاحته.

هذا الخلاف لم ينه العلاقة بين الدولتين، بل سعتا جاهدتين إلى فرض الحلول والمقترحات؛ للخروج من المأزق السوري، كل حسب سياساته ومصالحه، فروسيا تنظر إلى أن السبيل في تحقيق السلام داخل سوريا، هو الالتزام ببنود بيان جنيف الصادر بشأن سوريا في 30 يونيو/حزيران 2012.

فيما قدمت تركيا مقترحات تقوم على تسليم الأسد للسلطة، وتشكيل حكومة ذات صلاحيات واسعة، لكن كل هذه الجهود باءت بالفشل، ولم تدفع عجلة إنهاء الصراع، خاصة بعد دعوتها لحلف شمال الأطلسي نشر صواريخ “باتريوت” في تركيا، للمرة الأولى منذ عشر سنوات تقريبًا؛ بذريعة أنه إجراء دفاعي على خلفية الاشتباكات بين الثوار والقوات الحكومية بالقرب من الحدود التركية.

وقد أثار هذا الاقتراح حفيظة روسيا، ورفضته داخل مجلس الأمن، فضلا عن تصويتها لمرات عديدة ضد أية مبادرة من شأنها إسقاط نظام الأسد، بل زادت من دعمها له، وتدخلها العسكري في الأشهر القليلة الماضية.

وما زاد تعقيد تعاطي الدولتين مع الصراع السوري، وتوتر في العلاقات بينهما، هو إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية حينما اخترقت الأجواء التركية، حيث تم ذلك بعد تحذيرها 10 مرات لاختراقها الأجواء.

ثانيا: الموقف من النظام الحاكم في مصر


منذ الانقلاب العسكري في مصر أوائل تموز/يوليو عام 2013 وعزل الرئيس “محمد مرسي” اتخذت تركيا موقفا شديد اللهجة مما جرى، واعتبرته انقلابا عسكريا مرفوضا، ولا يمكن السكوت عنه، وحثُّت المجتمع الدولي لنبذه من أجل تكريس عزلته الإقليمية والدولية، ونزع الشرعية عن الرئيس الحالي” عبد الفتاح السيسي“.

لكن روسيا دعمت ما جرى وأخذت تمنح “السيسي” الدعم المالي والمعنوي، فضلا عن تبادل الزيارات بينهما، والتي نتج عنها توقيع اتفاقات ثنائية في المجالات العسكرية، والاقتصادية؛ وذلك لإن دعمها نابع من أن الاضطرابات في مصر قد تنعكس على مصير بشار الأسد في سوريا، إلا أن التقاطعات بين الخصمين في هذا الملف ربما تكون محدودة بشكل كبير.

ثالثا: الأزمة الأوكرانية


عرفت باسم” أزمة القرم” أوائل العام الماضي عقب الثورة الأوكرانية التي أطاحت بالرئيس “فيكتور يانوكوفيتش” وحكومته، حينما تظاهر محتجون، معظمهم ينتمي للقومية الروسية؛ اعتراضًا على الأحداث الجارية في مدينة كييف، وطلبًا للمزيد من التكامل مع روسيا، أو حكم ذاتي موسع، أو استقلال للقرم عن أوكرانيا.

تدرج الموقف التركي في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية، فالتزمت الحياد في البداية، وأخذت تدعو إلى الحوار السياسي، وإيجاد حل سريع للمشكلة والحفاظ على وحدة الأراضي الأوكرانية، لكن بعد ذلك تماشت مع موقف داعم للغرب والولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة روسيا.

حيث إن الاستفتاء الذي تم إجراؤه في جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي ضمن أوكرانيا في 16 مارس العام الماضي غير قانوني، وأن حل الأزمة التي تشهدها أوكرانيا يتم من خلال الوفاء بالتزامات القانون الدولي والاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف، إلى جانب مطالبتها بتدخل مجلس الأمن الدولي ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبية ومجلس وزراء الاتحاد الأوروبي؛ لحل الأزمة.

وقوف تركيا إلى جانب وحدة الأراضي الأوكرانية ناتج عن رفضها أي تدخل عسكري روسي لفصل شبه جزيرة القرم، حيث ترى الأولى أنها منطقة عازلة طبيعية مع روسيا، وفي الوقت نفسه تسعى إلى عدم تحويل القرم لساحة تصارع القوى العالمية.

لكن تركيا تعاملت بحذر مع الأزمة؛ لاعتبارات كثيرة، أبرزها العلاقة الاقتصادية الوطيدة مع روسيا: إذ تعتمد تركيا على روسيا في الحصول على ما يقرب من نصف وارداتها من الغاز الطبيعي، و12 % من الواردات النفطية مصدرها روسيا.

ومن المعروف أن تركيا ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي، والذي أقر بفرض عقوبات اقتصادية كبيرة على روسيا حيال الأزمة الأوكرانية، فكان موقفها غير ملزم لذلك، بحكم العلاقة الاقتصادية بينهما.

رابعا: جورجيا


عرفت باسم” حرب الأيام الخمسة في أوسيتيا الجنوبية” عام 2008، حينما شنت روسيا هجوما عسكريا على مقاطعتي جنوب أوسيتيا وأبخازيا، وبعدها هجوما مضادا سريعا على جورجيا، إذ تعود جذور العلاقة المتوترة منذ عقود بين أوسيتيا الجنوبية وجورجيا، مع مطالبة الأخيرة الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي، والذي رفض ذلك.

موقف روسيا من غزو جورجيا، منتصف أغسطس عام 2008م، بآلاف من الجنود ومئات الدبابات باتجاه العاصمة” تبليسي”، والسيطرة على أوسيتا وأبخازيا، وهو ما لم يرق لتركيا التي تربطها علاقات خاصة مع جارتها جورجيا.

حيث تعيش جالية أبخازية من أصول تركية مسلمة كبيرة في جورجيا، كما هي المكان الذي يمر منه أنبوب النفط الآذري الواصل إلى ميناء جيهان التركي، فضلًا عن ممر خط الحديد الذي سيربط تركيا وأذربيجان، سيكون منها أيضًا.

وتنظر تركيا إلى أن هذه العلاقة تشكل عنصر توازن مهم في دعم علاقاتها بدول القوقاز، ومن ثم وجدت نفسها في موقف صعب حينما اجتاح الروس جورجيا، فأخذت تدعو إلى تشكيل حلف متعدد الأطراف والأقطاب؛ للتعاون والشراكة والأمن في منطقة القوقاز؛ بهدف تقليص تأثيرات المواجهة الروسية مع الغرب على مصالحها الاستراتيجية.

خامسا: العلاقة مع أمريكا


الصراع الجاري بسوريا، طبيعة العلاقة التركية مع أمريكا، والمتفقتين على عدم بقاء نظام الأسد، وهو ما يتعارض مع الهدف الروسي الداعم بقوة للنظام السوري، وهو ما جعل العلاقات تحت ضغط هائل؛ ناتج عن الأولويات المختلفة لدى الدولتين.

وبالتالي في حين تريد أنقرة إسقاط نظام الرئيس السوري، حدّدت واشنطن أهدافها بمحاربة تنظيم “داعش”؛ لخشيتهما أن تتبنى أهداف الدولة الأخرى فتهمّش بذلك أهدافها الرئيسة الخاصة، خاصة بعد معارضة تركيا الهجمات الجوية التي شنتها أمريكا ضد تنظيم الدولة.

لذلك فإن العلاقات بينهما” تركيا، وأمريكا” آخذة في التطور والخصوصية بما يتعلق بالجهود المشتركة في الصراع السوري، وهو ما يفرض على تركيا أن تحسم خياراتها بشأن تقاربها مع روسيا.

لذلك، إن كان صحيحًا أن وقوف تركيا إلى جانب روسيا قد يعزز فرصها في أن تصبح مضخة لتدفقات النفط القادمة من منابع احتياطات النفط والغاز الكبرى في العالم في آسيا الوسطى، وبحر قزوين وكازاخستان، إلا أنه من الصحيح أيضًا أن تقاربها يؤدي إلى تعاظم النفوذ الروسي ومعه الإيراني في المنطقة.

وصحيح أن تركيا تحافظ حتى اللحظة على بقاء العلاقة الاقتصادية مهما اختلف الأبعاد السياسية مع روسيا، إلا أن هذا التقارب سيتعارض بدوره مع مواقف الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة، وتراجع للنفوذ الأمريكي، وهو ما سيشكل خسارة استراتيجية نوعية لها.

سادسا: أرمينيا


لا بد من الإشارة إلى أن العلاقات الأرمنية التركية توترت؛ بسبب عدد من القضايا التاريخية، والسياسية، ومنها الإبادة الجماعية للأرمن، والمحاولات المستمرة من جانب تركيا لإنكارها، لكن، وعلى الرغم من ذلك، سجل عام 2009 بداية جديدة لإقامة علاقات دبلوماسية بين الدولتين.

لكن، وبعد زلزال أرمينيا الكبير، الذي حدث عام 1988، والذي أسفر عن مقتل 25 ألف شخص، قدمت تركيا كل ما تملك من مساعدات، وفتحت ممرا جويا لإغاثة أرمينيا وأهلها، وقبلتها ضمن منظمة التعاون الاقتصادي لدول البحر الأسود، برغم عدم تواجد شواطئ لها على البحر الأسود، من أجل أنْ تقدم تركيا إثباتا لحسن نواياها.

أمام كل ذلك تتهم تركيا روسيا بإعاقة تحسن العلاقات التركية الأرمينية، خاصة أن أرمينيا اليوم هي منطقة تخضع للسيطرة الروسية الكاملة، حيث يمكن لروسيا التدخل كوسيط؛ لتسوية أزمة العلاقات التركية ـ الأرمينية، لكن روسيا في الوقت الحالي لا تسعى إلى فقد سيطرتها على حارس مصالحها في القوقاز وهي أرمينيا، بل إلى إعاقة أي تقارب ممكن بين الغرب وأرمينيا.

سابعا: الأزمة القبرصية


يشار إلى أن قبرص عبارة عن جزيرة صغيرة، متنازع تاريخيا على هويتها وتبعيتها، بين تركيا واليونان، حيث يدور صراع سياسي بين المكونين الرئيسين لسكان الجزيرة، وهما: القبارصة ذوو الأصول اليونانية، والقبارصة ذوو الأصول التركية.

أما علاقة روسيا في الصراع، فهي تدعم حكومة قبرص اليونانية ضد قبرص التركية؛ لأسباب استثمارية، بيد أن هذا الأمر لم يؤثر كثيرا على وضع تركيا، بل بات وضع قبرص المتدهور اقتصاديا أحد أسباب حماس روسيا المتزايد للاستثمار في تركيا.


المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد