لطالما كانت مدرّجات ملاعب كرة القدم منابر لإيصال رسائل سياسيّة مهما تم حظر ذلك، حيث يلتقي مشجّعو الكرة ليس فقط  لمناصرة أنديتهم ومشاهدة الكرة الجميلة، ولكن أيضًا في بعض الأحيان للتعبير عن الآراء السياسية، وربما انتقاد السلطة كما فعلت العديد من جماهير الأندية المصرية في السنوات الأخيرة، أو لاستخدام لغة مُجرّمة بقانون الدولة كما هو الحال مع أنصار برشلونة في عهد فرانكو، أو تأييد قضايا حقوقيّة كما يفعل جمهور سيلتك الأسكتلندي في مدرّجات ملعب «سيلتك بارك» الشهير.

كرّمت الفيفا في حفلها السنويّ لأفضل الوجوه الكرويّة جمهورَ نادي سيلتك بوصفه أفضل جمهور كروي لسنة 2017، وما يميّز الجماهير الخضراء لسيلتك ليس فقط جمالية التشجيع وأهازيجهم البديعة التي يعزفونها داخل الملعب بصوت واحد، لكن قد يتفاجأ الكثيرون حين يعرفون أن هذه الجماهير تدعم القضيّة الفلسطينية، وترفع العلم الفلسطيني جنبًا إلى جنب مع أوشحة النادي الخضراء في كل اللقاءات. عندما تشاهد الأعلام الفلسطينية وهي تغطّي ملعب سيلتك بارك سيخيّل لك أنك في أحد الملاعب الفلسطينية أو العربيّة ربما، فبُعد المسافة الجغرافية بين العالم العربي وأسكتلندا لم يمنع هذه الجماهير العريضة من التعبير عن مشاعرها وأحاسيسها تجاه هذه القضيّة.

وجاء تكريم جمهور النادي في حفل أقامته منظمة الفيفا لأفضل اللاعبين في العالم، إذ حضر الحفل أشهر نجوم الكرة مثل كريستيانو رونالدو، وميسي، ومارادونا، وقد نال جمهور سيلتك الجائزة بفضل اللوحة الفنيّة البديعة التي رسموها في مدرّجات ملعب السيلتك بارك خلال مباراتهم ضدّ نادي Hearts في بطولة الدوري الأسكتلندي الذي تصادف مع احتفالهم بمرور 50 سنة على فوزهم بالبطولة الأوروبية سنة 1967.

هذه الجائزة تأتي بعد إنجاز كروي مدهش لنادي سيلتك، وهو فوزه بالثلاثية الموسم الماضي: البطولة الأسكتلنديّة، والكأس، وبطولة الكأس (السوبر) بدون خسارة واحدة.

كرة القدم أفيون الشعوب؟ جمهور سيلتك لا يوافقون!

تقول أغنية «دع الشعب يغنّي» إحدى أشهر الأغاني التي يردّدها أنصار سيلتك:

«دع الشعب يغنّي قصصه وأغانيه

بموسيقى أراضيه الأصلية

….

هذه الأرض أرضك، هذه الأرض أرضي

من السهوب المرتفعة الشمالية، إلى الجزر الغربية

من تلال (كيري)، إلى شوارع تيري الحرّة

هذه الأرض خُلقت لي ولك».

تعود جذور تأييد جماهير سيلتك للقضيّة الفلسطينية إلى الجالية الأيرلندية الواسعة في مدينة غلاسكو الأسكتلندية، وتعتبر هذه الجالية نفسها معنيّة بالتضامن مع الفلسطينيين باعتبارهم يعانون من الاستعمار كما عانى منه أجدادهم الأيرلنديون سابقًا من طرف الإنجليز، بالتالي فإن مسؤوليّة الوقوف مع الشعوب المناضلة ضد الاستعمار تقع على عاتقهم من وجهة نظرهم، والجالية الأيرلندية التي ثارت على الاحتلال البريطاني منذ القرن 17 لن تُغفل النضال ضد إسرائيل التي قامت بعد وعد بلفور الذي أطلقته الإمبراطوريّة التي استعمرتهم يومًا. أسكتلندا لها تاريخ طويل من دعم القضيّة الفلسطينية، فالعلم الفلسطيني ارتفع فوق مجلس مدينة غلاسكو خلال العدوان الإسرائيلي على غزّة في صيف 2014 تعبيرًا عن التضامن مع الضحايا، كما أن المدينة شهدت توأمة مع مدينة بيت لحم الفلسطينية سنة 2007.

Embed from Getty Images
العلم الفلسطيني يرتفع في مجلس مدينة غلاسكو الأسكتلندية بعد الاعتداء الإسرائيلي على غزة 2014.

اقرأ أيضًا: عبقري أيرلندا.. حين قاد رجلٌ واحد ثورةً هزمت احتلالًا كاملًا

وجماهير سيلتك لم يدعوا الكرة تُعميهم عن الدفاع عما يرونه قضايا الإنسان العادلة، وإن عنى ذلك انتقاد أعضاء فريقهم نفسه، فبعد أن نشر لاعب وسط ميدان النادي (ذو الجنسية الإسرائيلية) صورة في مواقع التواصل الاجتماعي يؤيّد فيها عمليّات الجيش الإسرائيلي في عدوانه على غزّة في صيف 2014، انطلقت موجة ضخمة من الانتقادات من طرف المشجعين ضد اللاعب، وقد طالبوا الإدارة بفسخ عقده سريعًا نتيجة هذه الغلطة التي لا تغتفر حسبهم، ورغم أن الإدارة لم تخضع لطلب الأنصار الغاضبين، إلا أنّها أكدت عدم سماحها بمثل هذه التصرّفات من طرف اللاعب في الأيّام القادمة.

الجالية الأيرلندية تعرف القمع وأهواله جيّدًا، فقد عانى الأجداد من المجاعة الكبرى التي ضربت أيرلندا، وكانت لحظة فارقة في تاريخها بوفاة مليون إنسان، وهجرة مئات الآلاف الآخرين الذين استقرّ بعضهم في مدينة غلاسكو الأسكتلندية، وقد كانت أيرلندا آنذاك ترضخ للحكم البريطاني الذي يقسّم الأراضي والممتلكات حسب قوانين الحكومة المركزية الملكيّة في لندن؛ مما جعل الأيرلنديين يعانون بين مطرقة الاحتلال البريطاني الذي يقمع ويصادر الأراضي والممتلكات، وبين سندان المجاعة التي أودت بحياة مليون إنسان على الأقل.

لكن الأيرلنديين بعد هجرتهم في أرجاء العالم وإلى مدينة غلاسكو تحديدًا لم يُستقبلوا بالورود، فتعرّضوا للعنصرية والتهميش، خصوصًا مع اختلاف عقيدتهم المسيحية بانتمائهم للكنيسة الكاثوليكية بدل البروتستانتية كما هو الحال مع الأغلبية في أسكتلندا، فعاش الكثير منهم في فقر وبؤس مدقع، ولعل لحظات المتعة الذهبيّة التي كان يقدّمها نادي سيلتك لكرة القدم كانت أوقاتًا نادرة لنسيان المآسي التي يعيشونها، والاحتفال بدل ذلك بهدف جميل للنادي الأخضر.

وقد أسّس النادي «الأخ ويلفريد»، رجل الدين الكاثوليكي، سنة 1887، من أجل استخدام مداخيل النادي لدعم المهاجرين الأيرلنديين المحرومين في مدينة غلاسكو، ليصبح النادي رمزًا وأملًا للطبقة الكادحة والمعدومة من الأيرلنديين الفارين بنفوسهم من المجاعة.

كل هذه المعاناة في التاريخ الأيرلندي جعلت التضامن مع الشعوب المقهورة أمرًا لا يقبل النقاش، فقد وقف أنصار سيلتك من قبل مع الجنوب إفريقيين في نضالهم ضد نظام الأبارتايد العنصري، كما وقفوا مع الأيرلنديين الشماليين خلال ثورتهم المسلّحة من أجل الاستقلال عن بريطانيا، لذلك بالنسبة لجماهير السيلتك، فإن الدفاع عن حقوق الفلسطينيين يعدّ مجرّد خطوة في طريق طويل يرون أنهم يقطعونه في الدفاع عن حقوق الشعوب، والوقوف معها في أشواقها نحو الحريّة، كما يبدو.

اتحاد الكرة يعاقب وجمهور سيلتك يردّ: سندعم فلسطين أكثر وأكثر

في أغسطس (آب) من السنة الماضية، جاءت قرعة تصفيات دوري أبطال أوروبا لتضع نادي سيلتك مع أحد الأندية الإسرائيلية، فما كان من جماهير سيلتك إلا استغلال فرصة تواجد الإعلام الدولي لتغطية هذه المسابقة الكروية من أجل إيصال صوتهم الداعم للقضيّة الفلسطينية ضد إسرائيل. تنظّم أكثر من 100 مشجّع وحملوا الأعلام الفلسطينية عاليًا في وجه اللاعبين الإسرائيليين وأمام الصحافة العالمية، في رسالة تضامن وصلت أصداؤها إلى كل أرجاء العالم؛ مشهد ارتفعت فيه أعلام فلسطين عاليًا لتؤكّد أمام العالم رفض جماهير سيلتك الانتهاكات الإسرائيلية في حق الفلسطينيين.

Embed from Getty Images
جمهور سيلتك يحمل الأعلام الفلسطينية في مباراة ضد نادٍ إسرائيلي.

لكن البيروقراطيين في مكاتب اتحاد كرة القدم الأوروبي «UEFA» لا يتسامحون مع الرسائل السياسية التي يصدح بها جمهور الكرة، ولو كانت مجرّد حمل قطعة قماش يحيّون من خلاله كفاح الشعب الفلسطيني، ويستخدمون لعبة كرة القدم لتجسيد تضامن الشعوب فيما بينها، بغض النظر عما يفرّقها من جغرافيا، أو لغة، أو لون بشرة، أو دين؛ فقرّر اتحاد كرة القدم الأوروبي معاقبة النادي على تصرّف أنصاره بفرض غرامة ماليّة على النادي من أجل إجبار المشجعين على إيقاف هذا التصرّف والعدول عنه وعدم تكراره مجددًا، مشهد ذكر البعض بتصرّفات نظام الجنرال فرانكو في إسبانيا، الذي كان يحكم على من يحمل العلم الكتالوني بالتنكيل في السجون.

الجماهير الأسكتلندية لن تخضع لقرارات اتحاد الكرة الأوروبي، ففي الواقع زادتهم هذه العقوبة تمسّكًا بدعمهم للقضية الفلسطينية، فقد بدأ أنصار نادي سيلتك حملة تبرعات يجمعون من خلالها المال لمنظّمات خيرية فلسطينية، ليصبح ردًّا بليغًا على العقوبات المسلّطة على ناديهم، ولإظهار اقتناعهم التام بهذا المسار الذي اختاروه وعبّروا عنه من خلال رفع الأعلام الفلسطينية.

وقد بدأ أنصار سيلتك ممثلين في جماعة التشجيع (ألتراس) Green Brigade حملة التبرعات بهاشتاغ «#MatchTheFineForPalestine»، واستطاعوا جمع مبلغ قياسي بلغ أكثر من 100.000 جنيه إسترليني بعد 48 ساعة فقط من بدأ الحملة، لترتفع إلى 170.000 عند نهايتها. مبلغ أهداه الأنصار إلى جمعيّتين فلسطينيّتين: جمعية الرعاية الصحيّة للفلسطينيين «MAP» و«مركز لاجئ».

وقد صرّح المؤرّخ الأسكتلندي توم ديفين للجزيرة بأن دعم أنصار سيلتك للقضية الفلسطينية له جذور تعود إلى تاريخ الأيرلنديين أنفسهم، بقوله: «الوضع في فلسطين هو مثال كلاسيكي لأرض أخذت من أصحابها الذين سكنوها لأجيال كثيرة؛ مما يتطابق مع التاريخ الأيرلندي».

المصادر

تحميل المزيد