تمر في هذه الأيام الذكرى الأولى لبدء معركة الموصل، معركة لم ولن ينساها الموصليون، وستخلدها كتب المؤرخين، معركة طال انتظارها من قطاع عريض من الموصليين لتخلصهم من غمة حلت بهم، لكنهم لم يكونوا يعلموا أن ثمن خلاصهم لن يكون أقل وطأة مما عاشوه تحت حكم تنظيم الدولة الإسلامية «داعش».
«لم أكن أتخيل يومًا أن أسمع خبر بدء معركة تحرير الموصل، لكثرة ما سمعته عن مواعيد كاذبة لبدء المعركة، عامان ونصف من الذل والهوان عشتهما تحت حكم تنظيم داعش في الموصل، كل شيء حرام»، هذا ما قاله سمير البدراني لـ«ساسة بوست» عند سؤاله عن ذكرى بدء معركة الموصل.
يضيف سمير: «ذقت مرارة السجن أربع مرات تحت حكمهم، أولى هذه المرات كانت عندما عوقبت على عدم إطلاق لحيتي، والثانية لطول إزار بنطالي، أما الثالثة والرابعة فكانت السجن مدة طويلة وصلت لشهر، وكانتا بسبب محاولتي الهروب من أرض خرافتهم»، ما لبث سمير أن اغرورقت عيناه بالدمع، ليضيف «ثمن خلاصي كان غاليًا، فقدت كل عائلتي أثناء المعركة في قصف تعرض له منزلنا في الجانب الأيمن من الموصل، لم ينجُ أحد من عائلتي، أنا الآن أعيش غربة في مدينتي، غربة شبيهة بالتغريبة، كأني هجرت بلادي وأنا فيها، جدران المدينة والأسواق والشوارع تذكرني بهم، كلما أرى بناية مهدمة أتذكرهم، لا أعلم ماذا أفعل، الموصل تحاصرني من خلالهم، نار مستعرة في داخلي، لا سبيل لي بإطفائها».
معركة الموصل
كان فجر الاثنين 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2016 موعد انطلاق معركة تحرير الموصل من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، حيث أعلن رئيس الوزراء العراقي بدء المعركة فجرًا تحت مسمى «قادمون يا نينوى»، وكان تنظيم الدولة قد بسط سيطرته على الموصل في هجوم خاطف في يونيو(حزيران) 2014، لينسحب إثرها الجيش من محافظات بأكملها، وليغدو جزء كبير من العراق تحت سيطرة التنظيم في أيام قلائل.
Embed from Getty Images
صورة للمدينة القديمة بعد الحرب
امتدت معركة الموصل تسعة أشهر وانتهت رسميًا في العاشر من يوليو (تموز) 2017، حينما أعلن رئيس الوزراء العراقي بيان النصر من مدينة الموصل، لتطوى بذلك صفحة المعارك ولتتكشف القصص الإنسانية التي رافقت المعركة وأعداد الضحايا والخسائر الاقتصادية الفادحة.
الحصاد المر
الموصل، ثانية كبريات المدن العراقية، يبلغ عدد سكان الموصل المدينة قرابة مليوني نسمة، مدينة يشطرها نهر دجلة إلى شطرين اثنين، تربط شطري المدينة جسور تصل ضفة المدينة الغربية بالشرقية، وتقع الموصل شمال العراق وتبعد عن العاصمة بغداد قرابة 400 كيلومترا، وما إن انتهت المعركة حتى بدأ الناس يعون حجم الخسائر الفادحة التي ألمت بالمدينة والتي تحتاج الى سنوات وسنوات لإعادتها إلى وضعها السابق، فالموصل ما قبل داعش ليست الموصل الآن.
الخسائر البشرية.. أرقام مفزعة
تتضارب المعلومات والإحصائيات المتوافرة حول عدد المدنيين الذين قتلوا خلال معركة الموصل، حيث تشير تقارير استخباراتية كردية حصلت عليها صحيفة الإندبندنت البريطانية نقلًا عن مصادر في الاستخبارات الكردية أن عدد من قتل من المدنيين وصل إلى أربعين ألف قتيل فضلًا عن عدد أكبر من ذلك من المصابين والمعاقين، وأشار التقرير إلى أن هذا العدد من الضحايا سقط نتيجة القصف الجوي والاشتباكات الأرضية فضلًا عن أعداد كبيرة سجلت لاستهداف تنظيم داعش للمدنيين الفارين خلال المعركة.
تقارير أخرى تشير إلى سقوط نحو 16 ألف مدني منذ بدء المعركة وحتى مايو (أيار) 2017، في حين ترفض الحكومة العراقية هذه الأرقام وتعتبرها مبالغًا فيه، وذكرت تقارير حكومية أن عدد من قتل في المعركة لم يتجاوز 4000 مدني.
يقول الصحفي العراقي أحمد الدليمي لـ«ساسة بوست»، من خلال التقارير التي اطلعنا عليها ومن خلال المعاينة الميدانية للمدينة، فإن الرقم الذي أوردته صحيفة الإندبندنت البريطانية أقرب للواقعية إذا ما أضفنا عدد من قتلهم التنظيم خلال فترة سيطرته على المدينة، ودليل ذلك أن عدد من انتشلتهم فرق الدفاع المدني حتى الآن وصل إلى أكثر من 1900 قتيل انتشلوا من تحت ركام منازلهم في المدينة القديمة في الجانب الغربي (الأيمن) من الموصل.
تشير تقارير صحفية إلى أن فرق الدفاع المدني في الموصل انتشلت حتى شهر سبتمبر(أيلول) قرابة 2100 جثة كانت مدفونة تحت أنقاض البيوت المهدمة في المدينة القديمة في الموصل.
يقول الرائد سعد حامد وهو ضابط بالدفاع المدني في نينوى، إن فرق الإنقاذ تواجه صعوبات لوجستية تتعلق بالمعدات، فضلًا عن عقبات أخرى أمنية تتمثل بوجود مخابئ وأنفاق أو سراديب ما زال مقاتلو تنظيم داعش يختبئون فيها داخل المدينة القديمة، ويضيف الرائد أن عملية انتشال الجثث قد تنتهي في غضون شهرين، مرجحًا انتشال من 400 إلى 500 جثة أخرى، بحسب سجلات المفقودين لعوائل الضحايا الذين يطلبون الوصول إلى مصير جثث أقاربهم في المدينة القديمة.
أما عدد من قتلوا من القوات الأمنية العراقية، فتشير تقارير إلى أنه وصل إلى أكثر من 8 آلاف قتيل حتى نهاية أبريل (نيسان) 2017 باستثناء قتلى الحشد الشعبي، ويضيف التقرير أن الخسارة الأكبر كانت في صفوف قوات الشرطة الاتحادية التابعة لوزارة الداخلية العراقية تليها قوات الجيش العراقي ومكافحة الإرهاب.
الخسائر الاقتصادية.. المدينة تعود إلى العصر البدائي!
نشر موقع «ستارز آند سترايبس» الأمريكي، تقريرًا عن مدى الدمار الناجم عن العمليات العسكرية لاستعادة مدينة الموصل، مشيرًا إلى أن عدد المنازل والأبنية التي انهارت بفعل قيام عناصر التنظيم بتفخيخها، أو التي هدمت نتيجة الضربات الجوية والميدانية للقوات العراقية والتحالف الدولي في الساحل الأيمن يصل إلى 32 ألف منزل في الجانب الغربي من المدينة (الجانب الأيمن الذي يضم المدينة القديمة)، ويضيف التقرير أن أكثر من 120 ميلا من الطرق تضرر بفعل الحرب، فضلًا عن دمار مطار الموصل وجزء كبير من جامعة الموصل ومحطة السكك الحديدية والجسور والمستشفيات.
كما نشر موقع UN HABITAT التابع للأمم المتحدة معلومات عن عدد الوحدات السكنية المدمرة بين الـ18 يونيو (حزيران) 2017 والـ8 يوليو (تموز) 2017 وتفيد المعلومات بأن هذه الفترة شهدت تدمير 5393 وحدة سكنية في «الموصل القديمة» فقط، أي خلال معركة الموصل القديمة، بما يعادل مساحةً 126 هكتارا من المباني.
كيف هي الموصل بعد مرور عام على بدء معركتها؟
يقول الباحث والمؤرخ علي الرفاعي لـ«ساسة بوست» إن ما جرى في مدينة الموصل هو تدمير ممنهج، اشتركت فيه كل الجهات بدءًا من تنظيم داعش الذي تفنن في تدمير وتخريب المدينة؛ حيث دمر آثارها وحرق مستشفياتها وفجر جسورها، وأضاف أن الجانب الغربي «الأيمن» من المدينة لن يعود إلى سابق عهده على الإطلاق، فالدمار الذي شهده لا تستطيع الكلمات وصفه، كما أن إعادة المدينة القديمة أو بنائها وإعادة أهلها إليها يعد من الخيال، فلا الإمكانيات الاقتصادية للحكومة العراقية تسمح بذلك ولا الجدوى الاقتصادية من إعادة بناء المدينة القديمة مجدية.

جامع النبي يونس في الموصل قبل أن يفجره تنظيم الدولة
البنى التحتية للموصل.. المدينة منكوبة لكننا سننكر!
يقول المهندس في دائرة طرق وجسور نينوى عمار الحمداني لـ«ساسة بوست»: «ليست لدينا القدرة حاليًا على إعادة ترميم الجسور إلى وضعها السابق، فالحرب أتت على كل المعدات الثقيلة والآليات اللازمة للإعمار» وأضاف الحمداني أن الجسور التي دمرت في الموصل هي خمسة جسور رئيسية تربط جانبي المدينة عبر نهر دجلة، إضافة إلى عشرات الجسور والقناطر الأخرى التي تجسر الطرق وتتوزع داخل وفي محيط الموصل، وأوضح الحمداني أن إعادة الجسور إلى سابق عهدها سيحتاج إلى سنوات وأن البديل الآن هو جسر حديدي عائم نصب عبر نهر دجلة أنشأته الهندسة العسكرية، إضافة إلى تجسير حديدي آخر للجسر الخامس المتضرر وذلك لتسهيل حركة المرور بين الجانبين الشرقي والغربي للمدينة.
Embed from Getty Images
صورة للدمار في مدينة الموصل
رغم أن الموصل اشتهرت منذ عقود بتقدم مستوى الرعاية الصحية فيها، إلا أن الحرب أتت على المؤسسات الصحية أيضًا، يقول مدير صحة نينوى السابق الدكتور ليث عزيز أن نسبة الضرر التي أصابت مستشفيات المدينة متفاوتة، فالمستشفى الجمهوري الذي يقع ضمن المدينة الطبية دمر 100% ، في حين بلغت نسبة الأضرار في مستشفى ابن سينا التعليمي والأورام 90%، فيما تتفاوت نسب الدمار في المستشفيات الأخرى، لكن جميع المستشفيات تضررت.

مستشفى السلام التعليمي بعد الحرب من موقع ارفع صوتك
وأضاف مدير صحة نينوى أنه رغم الصعوبات الكبيرة إلا أن المؤسسات الصحية بدأت تستعيد عافيتها إلى حد ما، فالجانب الأيسر من الموصل يضم حاليًا 19 مركزًا صحيًا رئيسيًا وأربعة فرعية، أما الجانب الأيمن فضم 13 مركزًا صحيًا، وكلها فعالة، حسب قوله.
يقول الخبير الاقتصادي أنمار العبيدي لـ«ساسة بوست» «إن الموصل مدينة منكوبة، فالبنى التحتية مدمرة وآثار المدينة مدمرة بنسبة تصل إلى 80% وتضم المساجد والكنائس والمدن التاريخية كالحضر والنمرود ورغم كل هذا ترفض الحكومة المركزية إعلان المدينة منكوبة»، وعن إمكانية إعمار المدينة مرة أخرى يرى العبيدي أن لا أمل يُرى في الأفق لإعادة إعمار أي جزء من المدينة وتعويض أهلها في ظل الظروف الحالية والوضع السياسي الراهن، فخزينة الدولة خاوية، وما تأخر رواتب الموظفين الحكوميين في بعض الوزارات إلا دليل على عجز الحكومة ماليًا، إضافة إلى فقدان الدول المانحة الثقة في الحكومة نتيجة الفساد المالي والسياسي المستشري والذي يعد الأعلى عالميًا، بحسبه.
أما التعليم في الموصل فله حكاية أخرى، تقول الأستاذة خولة الإبراهيم لـ«ساسة بوست» وهي مدرسة تعمل في مديرية تربية نينوى، إنه على الرغم من انقطاع الطلاب عن الدراسة لثلاث سنوات ورغم تضرر أعداد كبيرة من المدارس، إلا أننا استطعنا خلال فترة وجيزة أن نعيد الطلاب إلى مقاعد الدراسة من جديد.
وتضيف الإبراهيم: رغم أن العام الدراسي بدأ متأخرًا جدًا في الموصل، إلا أنه من خلال الحصص الدراسية الإضافية وتكاتف المدرسين، استطعنا أن نجري الامتحانات النهائية للطلاب، وبالتالي حافظنا على السنة الدراسية التي كان يتوقع الكثير أن تضيع مثل السنوات السابقة.
Embed from Getty Images
معركة الموصل في المدينة القديمة
النزوح ومخيمات اللاجئين
تبعات الحرب في أي بلد لا تقف عند بعد واحد، ولعل أكثر ما لفت الأنظار في معركة الموصل هو عدد النازحين الذين اضطروا لترك دورهم والتوجه إلى مخيمات النزوح، فقد أعلن المجلس النرويجي للاجئين الأحد 15 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري أن حوالى 700 ألف عراقي من الموصل، ومناطق مجاورة للمدينة لا يزالون نازحين رغم استعادة الجيش العراقي المدينة في يوليو (تموز) الماضي.
Embed from Getty Images
نزوح المدنيين أثناء الحرب
وأفاد تقرير المجلس النرويجي أنه بعد مضي عام على بدء معركة استعادة الموصل من تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، لا يزال 637 ألف عراقي من المدينة والمناطق المحيطة بها غير قادرين على العودة إلى أحيائهم المدمرة، ورجح المجلس أن يكون أكثر من نصف النازحين قد فقدوا وثائقهم المدنية الرسمية، من شهادات الميلاد والملكيات العقارية خلال الحرب ما سيزيد من صعوبة استعادة حياتهم ووضعهم إلى سابق عهده.