في عام 1921، شهدت الولايات المتحدة الأمريكية واحدًا من أكبر الحوادث العنصرية في تاريخها؛ وذلك عندما تعرَّضت مدينة «تولسا» الصغيرة في ولاية أوكلاهوما للسرقة والنهب وجرى إحراقها عن آخرها؛ بعدما كانت مقرًّا لمجتمعٍ من الأثرياء الأمريكيين من أصلٍ أفريقي.
كانت «تولس» في ذلك الوقت تعجُّ بمقرات الأعمال والفنادق والمسارح والشركات؛ حتى إنهم أطلقوا عليها «بلاك وول ستريت»، لكن مجتمع الأثرياء السود سيجري تدميره في ليلة واحدة دامية؛ وإليك قصة ما حدث.
هكذا عاش السود «الحلم الأمريكي» في مطلع القرن العشرين
في القرن التاسع عشر، كانت ولاية أوكلاهوما موطنًا للعديد من المستوطنين البيض الذين كانوا يمتلكون العبيد قبيل «الحرب الأهلية الأمريكية»، وقد شهدت الولاية اندلاع نزاعات مسلحة تتويجًا لعقود من النزاع حول قضية العبودية.
ومع بدايات القرن العشرين، وعلى الرغم من انتهاء الحرب الأهلية؛ فإن ولاية أوكلاهوما ظلت مسرحًا لعمليات الإعدام خارج نطاق القانون، خاصةً من طرف جماعة «كو كلوكس كلان» البيضاء العنصرية، والتي عارضت تحرير العبيد عقب الحرب الأهلية، مما جعل منطقة «تولسا» بأوكلاهوما مسرحًا للنزاعات العرقية الدامية.
وفي ظل هذه الأحداث، وعلى الرغم منها، نشأ «المجتمع الأسود» في «تولسا» بدايةً من عام 1906، عندما انتقل شخص يدعى أو دبليو جورلي، وهو مواطن أمريكي ثري ذو أصول أفريقية، إلى تلك المدينة الصغيرة قادمًا من «أركنسا»، واشترى 40 فدانًا من الأراضي، وحرص على عدم بيعها لاحقًا إلا لمواطنينٍ من أصول أفريقية، مما أتاح الفرصة للمهاجرين السود الذين هربوا من الاضطهاد القاسي في ولاية ميسيسيبي، كي يبدؤوأ من جديد في «تولسا».
حينها كان المواطنون البيض في «تولسا» يعانون من البطالة عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، في وقتٍ كانت فيه العائلات السوداء تزدهر، بل تمكَّنت خلال فترة قصيرة من بناء اقتصادٍ قوي داخل المدينة، مما أثار حفيظة المواطنين البيض واستيائهم من جيرانهم السود.
لم تكن «تولسا» على الرغم من ذلك «جنة السود»، ففي عام 1916، أصدرت المدينة قانونًا محليًّا للفصل العنصري، وهو القانون الذي منع الأشخاص السود من العيش أو العمل في الأحياء البيضاء؛ وعلى الرغم من أن المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية اعتبرت هذا المرسوم غير دستوري عام 1917؛ فإن حكومة مدينة «تولسا» التي كان أعضاؤها بأكملهم من ذوي البشرة البيضاء طبقوا قانون الفصل العنصري بحذافيره.
وكان من نتائج هذا القانون أنْ تجمهر 10 آلاف من سكان «تولسا» من ذوي البشرة السوداء في منطقة جرينوود، والتي أصبحت بحلول عام 1921 منطقة تجارية مزدهرة تعج بالشركات ومقرات الأعمال التي يملكها أمريكيون من أصولٍ أفريقية، حتى إنهم أطلقوا عليها «بلاك وول ستريت»، ليرتكبوا مذبحة لا تُنسى.
كانت منطقة جرينوود مدينة منفصلة حديثة ومتطورة؛ أنشأ فيها المواطنون من ذوي البشرة السوداء البنوك والفنادق والمقاهي ودور السينما والمسارح والصحف والنوادي الليلية، ناهيك عن المنازل الفخمة والمعاصرة التي عاشوا فيها، وكان لديهم أطباء ومستشفيات ومحامون، كما نال أبناؤهم قدرًا من التعليم الراقي في مدارس المدينة؛ وهو ما أعطى المجتمع الأسود فرصة عيش «الحلم الأمريكي» كاملًا.
(تولسا قبل أحداث 1921)
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد انتخب سكان جرينوود أيضًا قادتهم الذين استخدموا ثرواتهم في تعزيز اقتصاد المنطقة، هذا فضلًا عن امتلاك ست عائلاتٍ من السود طائراتٍ خاصة في مطارات أوكلاهوما.
كل هذا أدى إلى جو مشحون من العداء العنصري من طرف السكان البيض، الذين شعروا حينها بالحقد على مجتمع جرينوود المزدهر الذي جعلهم يبدون إلى جانب جيرانهم السود، أقل حظًّا؛ إذ كان يُنظر إلى جرينوود وكأنها تمثل تهديدًا للرأسمالية الأمريكية التي يهيمن عليها ذوو البشرة البيضاء.
قدمت منطقة جرينوود دليلًا على أن رواد الأعمال السود قادرون على تكوين ثروة هائلة، رغم التمييز العنصري، وهو ما جعل الازدهار الاقتصادي للمنطقة يساهم في تدميرها وفقًا لوالتر ف. وايت، وهو من أعضاء الرابطة الوطنية للمواطنين الملونين.
«مذبحة تولسا».. عندما احترق حلم الأمريكان السود في 18 ساعة
تعرف تلك المذبحة تاريخيًّا بأحداث 31 مايو (أيار) 1921، وذلك عندما تعرَّض مجتمع الأمريكيين من أصلٍ أفريقي في تولسا لهجومٍ دموي من قبل جيرانهم من «الرجال البيض»، بعدما اتهمت فتاة بيضاء تدعى سارة بيج مراهقًا أسود بمحاولة الاعتداء عليها.
كان الحال في الولايات المتحدة الأمريكية عقب انتهاء «الحرب العالمية الأولى» متوترًا، كما كانت التوترات العرقية والاجتماعية بولاية أوكلاهوما في أوجها، ورغم ذلك لا أحد يعرف على وجه التأكيد ما الذي حدث بالضبط.
فقد ذكرت صحيفة «تولسا تريبيون» أن رجلًا أسود حاول اغتصاب أنثى بيضاء في مصعد مبنى دريكسيل، إذ قابلت سارة بيج داخل المصعد مراهقًا أسود يدعى ديك رولاند؛ ودوت صرخاتها في المبنى مدعية أنه حاول الاعتداء عليها، حينها خشي رولاند، الذي لم يتجاوز 19 عامًا، على حياته وركض نحو حي «بلاك وول ستريت».
في غضون ساعات كانت أنباء هذا الاعتداء قد انتشرت في كل مكان، ودون انتظار لنتائج التحقيقات؛ اندفع السكان البيض الغاضبون نحو الحي الأسود الثري وبدؤوا في نهب وحرق المباني والشركات ومقرات الأعمال؛ مما كان أشبه بـ«انتفاضة عنصرية كاملة».
استمر الهجوم 18 ساعة، حمل فيه الرجال البيض الأسلحة والبنادق واقتحموا منازل السكان السود الآمنين، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تحول إلى معركة دامية اضطر فيها أهالي «تولسا» ذوو الأصول الأفريقية – وبعضهم من المقاتلين العائدين من الحرب العالمية- إلى حمل السلاح والدفاع عن أنفسهم ضد الهجمات البيضاء؛ إلا أن جهودهم باءت في النهاية بالفشل، وانهار مجتمعهم الثري والمزدهر.
يروي شهود العيان أن حشودًا من الرجال البيض اتخذوا من حادثة الاعتداء تلك سببًا لمهاجمة مجتمع آمن ومستقر، فاقتحموا المنازل في منطقة جرينوود دون أن ينتظروا نتائج التحقيقات؛ وقد سُجلت تلك الأحداث في التاريخ بكونها «أحداث شغب» بحسب الوثائق الرسمية، وكأن كلًّا من السكان البيض والسود كانا مسؤولين بشكلٍ متساوٍ عما حدث.
(وثائقي عن أحداث تولسا 1921)
في هذا الهجوم قُتل أكثر من 300 مواطن أمريكي من أصل أفريقي، ونهبت ممتلكاتهم، احترق أكثر من 1265 منزلًا و150 شركة كان يمتلكهم مواطنون من ذوي البشرة السوداء، فضلًا عن تدمير المستشفيات والمدارس والكنائس التي شكلت المجتمع المعاصر لهذه المنطقة، كما اعتقل نواب السكان البيض وأعضاء الحرس الوطني 6 آلاف فرد من أهالي «تولسا» السود، وأجبروا 9 آلاف مواطن على أن يصبحوا بلا مأوى، وعاشوا في خيامٍ حتى شتاء عام 1921.
لم يستطع الوضع الاقتصادي المزدهر لمجتمع «تولسا» الأسود أن ينقذهم من العداء العنصري السائد في ذلك الوقت؛ إذ يروي الناجون من أحداث منطقة جرينوود المأساوية تفاصيل تلك الليلة؛ مشيرين إلى أن المنطقة تعرضت للقصف بالكيروسين والنتروجليسرين، مما تسبب في اندلاع حرائق أشبه بالجحيم؛ في حين كانت الطائرات الخاصة تطوف بالجو لمسح المنطقة ومعرفة ما جرى.
وعلى الرغم من كل الأضرار الاقتصادية التي طالت مجتمع «تولسا» الأسود، يوضح هانيبال جونسون مؤلف كتاب «بلاك وول ستريت»، أن الناجين وعائلاتهم لم يتلقوا أية تعويضات عما تعرضوا له؛ وذلك على الرغم من توصيات لجنة مكافحة شغب «تولسا»، التي اقترحت دفع تعويضات للأشخاص الذين فقدوا ممتلكات، فإن تلك الاقتراحات لم تخرج من حيز التوصيات إلى الواقع الملموس.
كل هذا العداء! هكذا تسبب «الحقد الأبيض الدفين» في المذبحة
يستكشف عالم الاجتماع كريس م. ميسر الأسباب الكامنة وراء المذبحة قائلًا إن الهجرات الجماعية من المواطنين ذوي البشرة السوداء كانت تزداد مدفوعة جزئيًّا بالبحث عن فرصة عمل في مجتمع جرينوود؛ حتى أصبحت «تولسا» تضم أكبر عدد من الأمريكان الأفارقة في الولاية؛ وقد أدى التغيير السريع الذي شهدته مدينة «تولسا» في التركيبة السكانية العرقية إلى جعل المدينة على شفا أعمال شغب مدفوعة بالعداء الأبيض ضد التقدم الاقتصادي للسود.
(مدينة تولسا المدمرة)
كان المواطنون البيض يخشون على تفوقهم بعدما شعروا بالتهديد من أن النمو الاقتصادي لمجتمعات السود سيجعلهم تدريجيًّا يتمردون على التمييز العنصري ولن يقبلوا في المستقبل أن يصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية.
كان السبب الآخر وراء اندلاع أعمال الشغب هذه يتمثل في اتجاه الشركات التي أدارها المواطنون السود نحو الاكتفاء الذاتي، وعن ذلك يقول كريس ميسر إن الحفاظ على الفصل العنصري للأعراق في المجالات الاجتماعية والأعمال التجارية والتعليم والمناطق السكنية، ساهم في ازدهار مجتمعات السود الثرية؛ إذ كان تسوق السود في المتاجر المملوكة للبيض مخالفًا للقانون، وهو ما شجعهم على بناء مؤسساتهم الخاصة بأنفسهم من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي.
يشير كريس إلى أن الشرطة ساهمت هي الأخرى في أعمال العنف؛ إذ اتخذت إجراءات قانونية لاعتقال المواطنين السود، كما شاركت بنشاطٍ في تفويض المواطنين البيض وتسليحهم بالبنادق أثناء أعمال الشغب بحجة مضاعفة قوة الشرطة؛ وعلى الرغم من أن الهجمات في أصلها كانت بيضاء فإنه لم يجر اعتقال مواطن أبيض واحد خلال الأحداث.
في ذلك الوقت، قام السياسيون ووسائل الإعلام بتأطير أعمال الشغب في «تولسا» على أنها انتفاضة بدأها السود الخارجون عن القانون، وقد أشارت صحف «تولسا» بانتظام إلى منطقة جرينوود باسم «أفريقيا الصغيرة»، وجرى تصنيف الأمريكيين من أصل أفريقي في المنطقة على أنهم مجرمون، يشربون الخمر ويتعاطون المخدرات والمنشطات ويركضون بالبنادق.
أتت تلك الصورة المقيتة والمغلوطة عن مجتمع «تولسا» الأسود نتيجة للخطاب النمطي للمسؤولين الحكوميين والتقارير المتحيزة لوسائل الإعلام، إذ كان المواطنون البيض يرون أن هناك حاجة ملحة للعنف العنصري، وذلك لأنهم كانوا ينظرون إلى المجتمع الأسود على أنه مهيأ للجريمة وبحاجة إلى السيطرة الاجتماعية.
بعبارة أخرى، يشرح كريس ميسر أنه نظرًا إلى التنميطات الشائعة عن إجرام السود، فإن البيض برروا العنف المميت في بلاك وول ستريت، بحجة أن السود كانوا بحاجة لأن يجري إخضاعهم، إذ أدى التأطير العنصري للسود كمجرمين إلى إضفاء الشرعية على التدمير اللاحق لمنطقة جرينوود.
أدت كل هذه الأسباب الاجتماعية والثقافية والهيكلية مُجتمعةً إلى نمو العداء الأبيض ضد مجتمع جرينوود؛ لتصبح تلك المنطقة شاهدة على واحدة من أكثر المذابح العنصرية مأساوية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية؛ وعلى الرغم من أن ذكريات مجتمع «تولسا الأسود» ما زالت حاضرة في أذهان المواطنين من ذوي الأصول الأفريقية؛ فإن هذا الجزء المتعلق بالمذبحة عادةً لا يجري ذكره في التاريخ.