«التاريخ يعيد نفسه»؛ مقولة كتبها الفيلسوف والخبير الاقتصادي كارل ماركس قبل 100 عام، في كتابه الشهير «الثامن عشر من برومير»، ومنذ ذلك اليوم وتلك المقولة تصدق على أحداث سياسية كثيرة حتى الآن، منها تفاصيل خطة انقلاب النازيين الجدد التي سترد في هذا التقرير.
عندما نفذ أدولف هتلر في 1923 انقلابه المعروف بـ«انقلاب حانة البيرة»، في محاولة للانقضاض على السلطة في ولاية بافاريا جنوبي ألمانيا، عبر احتجاز حكومة الولاية وخلق فراغ سياسي، لم يكن يعلم أن أتباعه بعد 97 عامًا، سيسيرون خلف الفكرة ذاتها، وإن بطريقة مختلفة تعرف بـ«اليوم إكس».
«حانة البيرة».. الانقلاب الفاشل
لفهم حقيقة ما يجري في عالم اليوم، نحتاج أولًا إلى العودة لما حدث قبل قرابة قرنٍ من الزمان:
في خريف 1923، كانت الأوضاع السياسية متدهورة في ألمانيا بسبب ضعف سيطرة الحكومة المركزية على مقاليد الحكم، وتمتع الولايات بسلطات واسعة، في وقت كان الشعب ساخطًا على تسويات الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وفرض تعويضات باهظة على ألمانيا باعتبارها الطرف المنهزم في الحرب.
وفي ذلك الوقت، كانت حانات البيرة نقطة الالتقاء والتجمع الرئيسية في جميع أنحاء ألمانيا، حيث يجتمع فيها الناس ويتبادلون الرؤى السياسية، وأطراف الحديث، بل إن المسؤولين والسياسيين كانوا يعقدون الندوات ويلقون الخطابات فيها.
ومتأثرًا بنجاح «مسيرة» بينيتو موسوليني إلى روما في الإطاحة بالحكومة الايطالية الليبرالية في أكتوبر (تشرين الأول) 1922، خطط هتلر زعيم الحزب النازي للاستيلاء على السلطة في بافاريا، ثم السير في مسيرة إلى برلين بقيادة الجنرال بالجيش الألماني، أريخ لودندورف، للاستيلاء على السلطة.
وفي الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) 1923، نفذ هتلر انقلابه عن طريق اقتحام حانة بيرة شهيرة في مدينة ميونخ، حيث كان جوستاف فون كار، زعيم الولاية وأفراد حكومته، في ندوة سياسية في الحانة. وبعد إطلاق النار في الهواء، نجح هتلر في السيطرة على الوضع في الحانة واحتجاز الحكومة، وإعلان سيطرته على السلطة في بافاريا.
ورغم التخطيط الجيد، فشل انقلاب هتلر بسبب تصدي الجيش لمحاولات النازيين للسيطرة على المقرات الحكومية في ميونخ، ونجاح أفراد الحكومة في الفكاك من الاحتجاز في حانة البيرة. وبعد فشل الانقلاب، تعرض الزعيم النازي للمحاكمة بتهمة الخيانة، وقضى عامًا في السجن أعاد فيه صياغة أفكاره، وكتب كتابه الشهير «كفاحي»، وخرج بعدها لإعادة تأسيس الحزب النازي وبدأ طريقه نحو السلطة.
«النازيون الجدد».. الفكرة لا تزال تنبض
رغم مرور عقود طويلة على سقوط النظام النازي بقيادة هتلر إثر هزيمته في الحرب العالمية الثانية في 1945، إلا أن الأيديولوجية النازية لا تزال تلقى صدى، وتجذب الأتباع، بل ما زالت فكرة العودة للسلطة من الجديد تراود النازيين الجدد.
والنازية الجديدة هي امتداد للأفكار الاشتراكية القومية للحزب النازي الذي حكم ألمانيا في الفترة بين 1933 و1945، وتهدف لإعادة الحكم النازي في الدول الناطقة بالألمانية، وبالتحديد ألمانيا والنمسا.
لكن هل هذه الأفكار منتشرة بالفعل؟
بلغة الأرقام، وبحلول عام 2016، وصلت نسبة المتعاطفين من الألمان مع النازيين الجدد واليمين المتطرف إلى 5.4%، يشكل العنصر النسائي وكبار السن العدد الأكبر منهم، ولا سيما من الطبقات الفقيرة في المناطق الريفية وشرق ألمانيا.
وبلغة الجغرافيا، نجد أن النازيين الجدد يتواجدون في ولايات براندنبورغ، ومكلنبورغ فوربومرن، وهيسن، وسكسونيا السفلى، وشمال الراين ويستفاليا، وراينلاند بفالتس، وبادن فورتنمبرغ، وبرلين، ويجتمعون على مبادئ رئيسية هي: العنصرية وضرورة الاستبداد والشوفينية وتمجيد النازية وكره الأجانب ورفض التعددية في القيم الليبرالية.
وصلت إلى الجيش.. طفرة عددية ونوعية في مسيرة النازية
عبر إطلالة من منظور عين الطائر، يتبين أن الحركات النازية تتصدر المشهد في ألمانيا خلال الأعوام الأخيرة، حيث يزداد عدد المنضمين لها زيادة كبيرة، توثقها الجهات الرسمية: إذ تقدر هيئة حماية الدستور «الاستخبارات الداخلية» عدد المنضوين تحت لواء هذه الحركات حتى العام الماضي بـ25 ألف شخص. وتمثل «النازيين الجدد»، و«مواطني الرايخ»، و«الهوية» أبرز الحركات النازية في البلاد.
وترصد الشرطة الألمانية أسلحة بشكل متزايد بين أيدي نشطاء الحركات النازية، فخلال 2018، رصدت قوات الأمن 1091 قطعة سلاح في حوزة نشطاء من هذه الجماعات، مقارنة بـ676 في 2017.
والأهم، أن هذه الحركات نجحت في اختراق الجيش الألماني، وتجنيد جنود داخله، ما يثير قلقًا كبيرًا. ليس هذا فقط، بل حتى أغسطس (آب) الماضي، سجلت الاستخبارات الحربية 477 حالة انتماء لليمين المتطرف بين جنود الجيش.
ومؤخرًا تطورت أعمال العنف التي ترتكبها حركات اليمين المتطرف، من مجرد جرائم كراهية واعتداء بدني أو لفظي، لاغتيالات سياسية وهجمات بالأسلحة النارية. ووفق تقرير للإذاعة الألمانية «دويتشه فيلا»، فإن الشرطة سجلت 1156 جريمة مدفوعة بدوافع يمينية متطرفة في 2018، بينها جرائم الكراهية ضد الأجانب والمسلمين في الأراضي الألمانية.
ووقعت آخر جريمة في أكتوبر الماضي، حين أطلق مسلحون من النازيين الجدد النار من أسلحة متعددة الطلقات بكثافة أمام المعبد اليهودي في هاله شرقي ألمانيا، ما أدى لمقتل شخصين وإصابة شخصين بإصابات خطيرة.
وفي يونيو (حزيران) الماضي، اغتال أحد نشطاء «النازيين الجدد» السياسي المحلي بولاية هيسن «وسط»، فالتر لوبكة، بالرصاص، بسبب مواقف الأخير الداعمة للاجئين، في سابقة لم تحدث منذ عقود.
وفي وقت سابق هذا العام، أوقفت السلطات الألمانية رجلًا أرسل 200 خطاب تهديد بأعمال عنف وتفجيرات إلى مؤسسات حكومية وشخصيات سياسية عامة في ألمانيا موقعة بـاسم «الاشتراكيين القوميين» وهي أيديولوجية النظام النازي، حسب صحيفة دي فيلت الألمانية.
كما أعلنت الشرطة الألمانية في يوليو الماضي، أن حركة يمينية متطرفة تسمى «نوردكرويتس» (صليب الشمال) أعدت قوائم اغتيالات سياسية في كل أنحاء ألمانيا ضمت 25 ألف شخص، ونقلت شبكة التحرير الإخبارية الألمانية «خاصة» عن المكتب الاتحادي للشرطة الجنائية أن «حركة نوردكرويتس خططت لعمليات قتل ذات دوافع سياسية في جميع أنحاء ألمانيا».
وفي مدينة كيمنتس شرقي البلاد، استطاعت السلطات قبل عدة أشهر، رصد خلية يمين متطرف مكونة من ثمانية أشخاص تتراوح أعمارهم بين 21 و32، تخطط للإطاحة بالنظام الديمقراطي، وكان المتهمون يخططون لأهدافهم عبر محادثات عبر الإنترنت «شات»، ويتحدثون عن ارتكاب عمليات قتل.
«نُشراليوم إكس».. التاريخ يعيد نفسه
لا تعدو جرائم النازيين الجدد المتطورة كمًّا وكيفًا خلال الفترة الأخيرة، إلا جزءًا صغيرًا من الخطة الأكبر التي تستعيد فكرة انقلاب «حانة البيرة» وتطورها لتواكب العصر والأوضاع السياسية الراهنة.
ففي نوفمبر 2018، نشرت مجلة فوكس ملامح «المؤامرة»، التي تعتبر عقيدة أساسية لدى النازيين الجدد، وهدفًا يستعدون له بشكل دائم، حيث كانت خلية في الجيش مكونة من 200 جندي وضابط تخطط لعمليات اغتيال واسعة لسياسيين ورموز مجتمع ولاجئين، تحدث هزة كبيرة وفراغًا سياسيًّا، وتسمح للنازيين بالتقدم لاحتلال مفاصل الدولة.
وأطلق النازيون الجدد على المؤامرة اسم «اليوم إكس»، ووضعوا خططًا واضحة لاغتيال سياسيين في مقدمتهم وزير الخارجية هايكو ماس، وعدد كبير من نواب البرلمان والرئيس السابق يواكيم غاوك.
وبصفة عامة، كان أساس الخطة هو إحداث هلع وفوضى كبيرة في البلاد تشغل الجيش والأمن، وتسمح للنازيين بالتحرك بحرية للسيطرة على مفاصل الدولة وإعلان عودة النظام النازي، وتقويض النظام الديمقراطي الحالي.
وفي مارس (آذار) الماضي، قال تقرير يستند لبيانات هيئة حماية الدستور «الاستخبارات الداخلية» إن النازيين الجدد يتدربون بشكل متزايد على مواجهات الشوارع استعدادًا لـ«اليوم إكس».
وأوضحت هيئة حماية الدستور في تقرير نشرته مجموعة فونكة الإعلامية «خاصة»، إنها تملك دلائل على تدريبات متزايدة في صفوف جماعات النازيين الجدد على مواجهات الشوارع، متابعة أن «تلك الجماعات تستعد بذلك لمواجهات مع خصومها السياسيين، وخاصة جماعات اليسار في يوم سقوط الدولة».
ونقلت مجموعة فونكة عن الخبير في جماعات اليمين المتطرف، هنري كرينتس، قوله: إن الجماعات النازية «تستعد لليوم إكس، الذي يحدث فيه انهيار كامل لنظام الدولة، وتصعد فيه للسلطة». وتابع أن «هيئة حماية الدستور تلاحظ اتجاه متزايد للتدريب على مواجهات الشوارع»، مضيفًا «الهيئة تراقب ذلك عن كثب وتحذر من التقليل من استعداد النازيين الجدد للعنف».
وفي الشهر ذاته، جرى تسريب رسائل داخلية بين أعضاء حزب البديل لأجل ألمانيا، وهو حزب المعارضة الرئيسي في البلاد ويصنف بوصفه يمينًا متطرفًا، كما يوصم بأنه معبر عن النازيين الجدد، تتحدث عن الإعداد لـ«ثورة» في ألمانيا، وتأسيس «الرايخ الثالث» (الإمبراطورية الألمانية الثالثة).
وفي تصريحات خاصة عبر الهاتف لـ«ساسة بوست»، قال الخبير في شؤون اليمين المتطرف وكاتب المقالات في مطبوعات عدة منها مجلة فوكس، هايو فونك، إن «النازيين الجدد يطمحون بشكل واضح في العودة للسلطة»، مضيفًا «النازيون يعيشون في الماضي».
وتابع «لست متفاجئًا من محاولاتهم استنساخ تجربة هتلر الانقلابية في 1923 بأساليب جديدة، حيث يبحثون دائمًا عن أفكار من خلال التنقيب في حقبة الحزب النازي»، موضحًا «اليوم إكس يشبه انقلاب حانة البيرة في الفكرة العامة، ويرمي للسيطرة على مفاصل الدولة بعد إحداث فوضى وتحييد الحكومة أو إغراقها في أحداث دموية غير مسبوقة».
واستدرك: «فكرة اليوم إكس تبدو نظرية، وصعبة التطبيق في ظل امتلاك ألمانيا لجهاز أمني كبير وقوي، ووجود الجيش»، مضيفًا: «حتى في حال حدوث فوضى واغتيالات كبيرة وخروج النازيين للشوارع للسيطرة على مفاصل الدولة، سيكون الأمن قادرًا على السيطرة على الأوضاع إلا إذا انضم جزء من عناصره للنازيين»، وهو ما يُخشى حدوثه في ظل الاخترقات المشار إليها آنفًا.