فَإِن يَكُ الجِنسُ يا اِبنَ الطَلحِ فَرَّقَنا …. إِنَّ المَصائِبَ يَجمَعنَ المُصابينا
في مطلع القرن العشرين الميلادي، أنشد أمير الشعراء أحمد شوقي ذلك البيت المؤثر في مقدمة قصيدته النونية الأندلسية الشهيرة، عندما كان يتوحَّد في أشجانه مع طائر شجيٍّ لفت أنظارَه في منفاه في إسبانيا، فصار شطر البيت الثاني «إنَّ المصائب يجمعْن المُصابينا» حكمة متداولة تؤكدها الشواهد والأحداث.
قبل ما يُقاربُ 11 قرنًا على بيت أحمد شوقي، كان عالم الحديث المصري، أبو سعيد عبد الغني بن سعيد الأزدي، يطبق مضمونه، ويجتمع ذهنيًّا مع من أصيبوا بمصيبته قبل ثلاثة قرون، إذ كان الأزدي آنذاك مُطارَدًا يخشى أن يقتله خليفة مصر الباطش الحاكم بأمر الله الفاطمي، فتسلَّى في رحلة فراره بتأليف كتابٍ غير كبير جمع فيه قصص أشهر الفارِّين من بطش حاكم العراق الدموي الحجاج بن يوسف الثقفي، والذين تمكَّن الكثير منهم من النجاة، وإن لم يحالف بعضَهم مثل هذا التوفيق، ويحمل الكتاب اسم «كتاب المتوارين»، وهي صفة مشتقة من التواري، وهي كلمة تعني الاختباء والاختفاء والاستتار من عدوٍّ متربِّص.
بطاقة تعريف بالمتواري صاحب الكتاب
وُلد عبد الغني بن سعيد الأزدي في مصر عام 332هـ على أرجح الروايات التاريخية، وتخصص في علم الحديث، يقول عنه ابن خُلَّكان في موسوعة «وفيات الأعيان»:
«كان حافظ مصر في عصره، وله تواليف نافعة منها (مشتبه النسبة) وكتاب (المؤتلف والمختلف) وغير ذلك وانتفع به خلق كثير»..
ووصفه الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» بقريبٍ من الوصف السابق قائلًا:
«الإِمَامُ الحَافِظُ الحُجَّةُ النَسَّابَة، مُحَدِّثُ الدِّيَار المِصْرِيَّةِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الأَزْدِيُّ المِصْرِيُّ»
كما نقل الذهبي أيضًا في ترجمة الحافظ الأزدي امتداحَ الإمام الدارقطني له، ولنشاطه العلمي، وسعة اطلاعه.
فعلى الرغم من محاولات عبد الغني بن سعيد الأزدي الدائمة للمُداراة، وتجنب الصدام مع السلطات الفاطمية، مع الاختلاف الكبير في المذهب بينه وبينهم، فإنه تعرَّض لمحنةٍ كبيرة في عهد الخليفة الفاطمي المثير للجدل الحاكم بأمر الله، والذي كان جريئًا على سفك الدماء لأهون الأسباب؛ إذ أمر بقتل اثنيْن من أقرب أصدقاء عبد الغني بن سعيد الأزدي، وهما أبو أسامة جنادة اللغوي، والذي كان ينتسب مثل عبد الغني إلى قبيلة الأزد اليمنية، وكان من أبرز علماء اللغة العربية في عصره، وأبو الحسن علي الأنطاكي، وكان من البارعين في النحو.
وكان هؤلاء الثلاثة تربطهم علاقة وثيقة، واشتُهرت مناظراتهم في العلوم والآداب، وكانوا من أبرز الأسماء اللامعة في «دار العلم» – والتي عرفت أيضًا بدار الحكمة – في القاهرة، والتي أسَّسَها للمفارقة الحاكم بأمر الله نفسه عام 395هـ.
فبأمر الحاكم قُتِل الرجلان في يومٍ واحد من شهر ذي القعدة من عام 399هـ دون أسباب وجيهة تستدعي تلك العقوبة القاسية، وقد شهدتْ تلك السنة الكثير من قرارات الحاكم المثيرة للجدل، مثل منع بيع أنواعٍ بعينها من السمك، وكذلك الفواكه لاسيَّما العنب لكيلا يُصنَع منه النبيذ، وتشديد القبضة الأمنية في القاهرة بفرض ما يشبه حظر التجوال قبل الفجر، وبعد العشاء مباشرة، واعتقل الكثيرون ممن خالفوا ذلك، كما صدر مرسوم من الحاكم بمنع الحديث عن قرارات الخليفة وأسرار المُلك كما يذكر المقريزي في كتاب «اتعاظ الحُنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخُلفا».
وبعد قتلهما خشيَ عبد الغني بن سعيد الأزدي أن يطولَه انتقام الحاكم بأمر الله، لكونِه أقرب الناس إلى المغدوريْن، فاختفى عن الأنظار لأشهرٍ طويلة، ولم يظهرْ مرة تانية حتى صدر قرار من الحاكم بتأمينه.
تُوفيَ عبد الغني بن سعيد الأزدي عام 409هـ، وهو في السابعة والسبعين من العمر، وكانت جنازته مهيبة، حضرها الآلاف من الناس، وتنادوْا إليها تكريمًا لمن كانوا يرونَه قد كرَّسَ حياتَه لحماية تراث الرسول عليه الصلاة والسلام من الكذب والافتراءات.
المتوارين من الحجاج.. ألم ودماء وبِشارة
كان الحجاج بن يوسف الثقفي من أشهر الحُكَّام المستبدين في التاريخ الإسلامي، وكان بحق رجل المهمات المشينة للدولة الأموية، فكُلِّف بالقضاء على معقل الخليفة المنافس للأمويين عبد الله بن الزبير في الحجاز، ولم يتورَّع في سبيل ذلك عن قصف الكعبة، وقتل ابن الزبير ومن صمد معه من أصحابه في الحرم عام 73هـ.
ثم كُلِّف بولاية العراق معقل المعارضين للأمويين وشيعة آل البيت العلوي، بين عاميْ 75- 95هـ، فقتلَ وسجن الآلاف من مناوئي الأمويين، وقمع الثورات بعنف مفرط، لاسيَّما ما عُرف بثورة القُرَّاء التي اشترك فيها الكثير من علماء العراق اعتراضًا على جرائم الحجاج واستبداد الأمويين، وانتهت بهزيمةٍ كبرى في موقعة دير الجماجم عام 82هـ، وأصدر الحجاج بعدها أمرَه بقتل كل من اشترك فيها، إلا من يأتيه ويتبرأ مما فعل، فرفض الكثير من شرفاء الثوار هذا، وفرُّوا في كل اتجاه، فمنهم من نجا، ومنهم من اعتُقِلَ بعد حين، وقتله الحجَّاج.
يقول الحافظ الذهبي – والذي اشتُهر في كتاباته بالموضوعية وتجنب الحدَّة في الأسلوب – عن الحجاج الثقفي في موسوعة «سير أعلام النبلاء»:
«أَهْلَكَهُ اللهُ: فِي رَمَضَانَ، سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِيْنَ، كهلًا. وكان ظلومًا، جبَّارًا، ناصبيًا، خبيثًا، سفاكًا للدماء، وَكَانَ ذَا شَجَاعَةٍ، وَإِقْدَامٍ، وَمَكْرٍ، وَدَهَاءٍ، وَفَصَاحَةٍ، وَبَلاَغَةٍ، وَتعَظِيْمٍ لِلْقُرَآنِ.. وَلَهُ حَسَنَاتٌ مَغْمُوْرَةٌ فِي بَحْرِ ذُنُوْبِهِ، وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ».
وإزاء الدولة القمعية التي ثبَّت الحجاج قبضتها الدامية في العراق وخراسان، لجأ العشرات من المطلوبين أمنيًّا للتواري والتخفي طلبًا للنجاة، وقد جمع الحافظ الأزدي في فترة فراره أخبار بعض هؤلاء المتوارين من الحجاج في كُتيِّب صغير، لاسيَّما من نجوْا بتواريهم من القتل أو الفتنة (وهي الاضطرار للتبرؤ من أفكارهم التي يرونَها الحق) خشية العقاب.
من أبرز أمثلة هؤلاء المتوارين، إبراهيم بن يزيد النخعي، والذي كان من أعلى طبقةٍ في علماء وفقهاء جيل التابعين، وقد ظلًّ مختفيًا عن الأنظار، خوفًا من قبضة الحجاج، لأعوامٍ طويلة بعد هزيمة «دير الجماجم»، وكان يتجنَّب صلاة الجماعة في المساجد حتى لا يتعرَّف إليه جواسيس الحجاج، وكان يلتقي أصحابه وطلبة العلم متنكرًا، وظلَّ على تلك الحال 13 عامًا، حتى جاءتْه الأنباء السعيدة بموت الحجاج عام 95هـ، فبكيَ بشدة من الفرح، وتُوفي بعد الحجاج بأربعة أشهر.
ومن المتوارين أيضًا عون بن عبد الله، الذي توفي عام 110هـ (أي بعد موت الحجاج بـ15 عامًا) وكان ممن اشتهروا في جيل التابعين بطلب العلم والزهد، وكان من المنهزمين أيضًا في «دير الجماجم» عام 82هـ، ففرَّ من الكوفة، ولم يجِد لنفسه مهربًا من الحجاج إلا إلى والي الجزيرة الفراتية محمد بن مروان الأموي، والذي أجاره، وكلَّفه بتربية ابنه يزيد وتأديبه، فبذل في تلك المُهمة الكثير من الوقت والجهد، فجعله محمد بن مروان واليًا على مدينة نصيبين جنوبي تركيا الحالية، لكنه لم يرتحْ بها كثيرًا، وكان يصفُها بأنها قليلة الأقارب كثيرة العقارب.
وكان لسليمان بن مهران المشهور بالأعمش، وهو من رموز العلم ورواية الحديث النبوي في عهد التابعين، قصة هروب من الحجاج لا تخلو من المغامرة، أشار إليها عبد الغني بن سعيد الأزدي في الكتاب، فذكر أن الأعمش كان يختبئ في الغابات والأحراش، ويعتمد في طعامه على صيد الطيور والحيوانات البرية.
ولم تخلُ الأحداث التي تعرَّض لها «المتوارون» من الحجاج من بعض القصص اللطيفة التي نقلها عبد الغني بن سعيد الأزدي في الكتاب، فقد حكى عن أبي عمرو بن العلاء، أنه قد هرب إلى اليمن ليبتعد كثيرًا عن الحجاج، واختبأ في منزلٍ في مدينة صنعاء، وكان يتخفى داخل المنزل طوال ساعات النهار، ويخرج إلى سطح المنزل في سترة الليل لتغيير الجو، فبينما كان على السطح، سمع أحدهم يُنشد بيت شعرٍ عن الأمل وتفريج الكرب يقول:
رُبمَا تجزع النُّفُوس من الْأُمـْرِ …. لَهُ فُرْجَة كحلِّ العِقالِ
فسرى التفاؤل في أوصاله، ثم ما لبث أن سمع مُنادٍ يُبشر بورود الأنباء بموت الحجاج بن يوسف الثقفي، وانفراج أمر أزمته، كما نقل عبد الغني بن سعيد الأزدي في هذا الكُتيِّب أيضًا روايات عن ردود أفعال بعض رموز جيل التابعين عندما بلغتهم أنباء موت الحجاج الثقفي، فذكر أنَّ التابعي الشهير الحسن البصري خرَّ ساجدًا عندما سمع الخبر، ودعا الله قائلًا:
اللَّهُمَّ أَنْتَ قتلْتَهُ، فاقطعْ سُنَّتَهْ
وكان الحسن البصري وفقَ ما يروي الأزدي في كتابه، قد أفتى لمن كان يمتحنهم الحجاج بأن يعلنوا أنهم كانوا كفارًا عندما ثاروا ضده وضد الخليفة الأموي حتى يعفوَ عنهم، وأفتى لهؤلاء أن يأخذوا بالرخصة (إلا من أُكرِهَ وقلبُهُ مُطمئنٌ بالإيمان) وأن يقولوا للحجاج ما شاء.
ودوَّن عبد الغني بن سعيد الأزدي أيضًا من قصص التواري ذات النهايات المؤلمة، فأشار في فصلٍ في الكُتيِّب إلى قصة هروب التابعي الشهيد سعيد بن جُبيْر الطويلة بعد «دير الجماجم» أيضًا، والتي انتهت بعد 12 عامًا، عندما سلَّمه والي مكة للأمويين خالد بن عبد الله القسري إلى الحجاج الثقفي.
ويصف عبد الغني بن سعيد الأزدي مشهد طواف سعيد بن جبير في قيود والي مكة طوافَه الأخير قبل المغادرة إلى مصيره في العراق، ولم يكن غريبًا أن يفعل خالد القسري هذا، وهو الذي ينقل عنه الحافظ الأزدي جزءًا من خطبةٍ على منبر المسجد الحرام يذكر فيها أنه لو طلب منه الخليفة هدم الكعبة حجرًا حجرًا لفعل.
وهناك في مجلس الحجاج دارت محاججة تاريخية بين سعيد بن جبير، وقاتله الحجاج، انفعل خلالها الأخير، ووصف سعيدًا بأنه شقي بن كُسيْر، ولما طلب سعيد أن يصلي ركعتيْن قبل تنفيذ حكم القتل فيه، أمر الحجاج بأن يوجهه زبانيته إلى غير القبلة تنكيلًا معنويًّا به، فصلى سعيد بن جبير في تلك الجهة، وقال أينما تُولَّوا فثمَّ وجه الله.
وكان مشهد تنفيذ القتل مؤثرًا للغاية حتى على جنود الحجَّاج أنفسهم، فقد كان سعيد من أبرز رموز التابعين وعُبَّادهم، فنقل عبد الغني بن سعيد الأزدي رواية عن بعض جنود الحجاج الذين حضروا إعدام الشهيد بن جبير أنهم أقسموا أن رأسه بعد إطاحتها بالسيف تحرك فمها بنطق الشهادة مرتيْن أو ثلاثة.