تتذكر الأسترالية ريبيكا شروك الغطاء الوردي الذي ضمها في الأسبوع الأول لها في هذه الحياة وتقول: «دائمًا ما كنت أعرف من يحملني.. أمي أم أحد غيرها» تبلغ ريبيكا اليوم 27 عامًا من عمرها وهي لا تنسى أي شيء مر بها منذ الأسبوع الأول لميلادها، بسبب حالة مرضية تسمى متلازمة فرط التذكر (هايبرسيميثيا).

بينما تبدو ذكريات الأشخاص العاديين وكأنها صور فوتوغرافية، وتبهت مع الوقت صور أهم ذكرياتهم، لتبدو شاحبة في أذهانهم شيئًا فشيئًا وتحلّ محلها ذكريات جديدة أخرى، هناك من يبدو شريط حياتهم ماثلًا أمامهم دائمًا، وكأنه فيديو تم تصويره بدقة.

حكاية ريبيكا

يبدو ما تتذكره ريبيكا وكأنه حلم أو من نسج خيالها، إذ يبدأ الشخص العادي في تكوين ذكريات عند سن الرابعة، بينما تتذكر هي كل ما حدث لها منذ كانت رضيعة، وهي تحكي كيف أنها كانت تعتقد أن كل الناس مثلها يتذكرون كل تفاصيل حياتهم الدقيقة، ولم تعرف أنَّه أمرٌ نادر إلا حين طلب منها والداها مشاهدة أحد البرامج حول متلازمة فرط التذكر، كان ذلك في يناير (كانون الثاني) عام 2011.

وعرضت الحلقة حديثًا مع أناس يعانون من متلازمة فرط التذكر، حينها أدركت ريبيكا أنها لا تحمل ذاكرة عادية وأدرك والداها في الوقت نفسه أن لديها هذه المتلازمة، توجّهت ريبيكا لإجراء عدة اختبارات وفي عام 2013 أكد الأطباء أنها تعاني من متلازمة فرط التذكر.

جيل برايس.. اكتشاف متلازمة فرط التذكر

في بداية الألفية فقط أدرك العلماء وجود هذه المتلازمة وأطلقوا عليها اسم متلازمة فرط التذكر (هايبرسيميثيا) أو «الذاكرة الذاتية بالغة القوة»، يمكن للأشخاص الذين يعانون من فرط النشاط مثل ريبيكا أن يتذكروا دون جهد منهم كل ما مر بهم؛ ما ارتدوه وأين كانوا وماذا فعلوا وفي أي وقت، إنهم يتذكرون الأحداث بالتفاصيل وبدقة، كما لو أن دماغهم قد التقط صورًا فوتوغرافية عالية الجودة أو سجّلها بكاميرا فيديو.

أما أول من تم تشخيصه بهذه المتلازمة عام 2000 فهي جيل برايس وهي تحكي عما يحدث داخل عقلها وتقول «يبدو دماغي وكأنه شاشة مزدوجة؛ على اليمين أرى الحاضر وعلى اليسار أرى الماضي بكل التفاصيل، كل كلمة أسمعها تستدعي غالبًا ذكريات وأيامًا أخرى».

 تتذكر برايس تفاصيل كل الأيام منذ عام 1980. كان لدى جيل 34 عامًا حين أرسلت إلى الدكتور جيمس ماكجو مدير مركز البيولوجيا العصبية للتعلم والذاكرة في جامعة كاليفورنيا تصف له حالتها، وهي بالطبع تذكر كل ما جرى؛ كان ذلك في يوم الخميس  الثامن من يونيو (حزيران) 2000.

أخبرته جيل أنها تعاني من مشكلة في ذاكرتها، فأجابها سريعًا بأنه مدير لمركز بحثي، وأن بإمكانه توجيهها لأحد العيادات، لكن ردها جاء سريعًا على رسالته فراحت تذكر له ما تحفظه ذاكرتها، تابع حالتها في ذهول ثم دعاها إلى مكتبه للتحدث في الأمر.

تحكي جيل عن اللقاء، وكيف أن الدكتور جيمس كان قد أحضر معه كتابًا يتضمن سردًا للأحداث العالمية خلال القرن الماضي بأكمله لاختبار ذاكرتها، وقد استطاعت بعد قراءة الكتاب أن تجيب عن كل الأسئلة.

أصحاب المتلازمة يجتمعون

بعد أن أعلن الدكتور جيمس عن اكتشافه متلازمة فرط التذكر (هايبرسيميثيا) في الصحف، وصلته رسائل إلكترونية لبعض من يعانون من قدرات مماثلة في الذاكرة، وتم التوصُّل إلى مجموعةٍ منهم؛ حوالي 20 في الولايات المتحدة و60 حول العالم، وقد انبهروا من تشابه ما يحدث معهم، وأدرك كل منهم أن هناك من يعاني مثله.

يمكن لمن يعانون من متلازمة فرط التذكر استدعاء التفاصيل شبه الكاملة لأيام حياتهم، وكيف كان شعورهم فيها وحين يقفز إلى ذهنهم تاريخ ما، «يشاهدون» في عقولهم تصويرًا حيًا لذلك اليوم ويحدث هذا بطريقة لا واعية دون محاولة أو جهد منهم.

متلازمة فرط التذكر.. هؤلاء يتذكرون كل التفاصيل منذ الولادة

كارديف أورلين هو طالب بريطاني يعاني من المتلازمة أيضًا، وكان يظن أن كل الناس تتذكر مثله تفاصيل كل الأيام، ويشرح أن ما يحدث له حين يسأله أحدهم عن تفاصيل أي يوم بعيد، هو أن التفاصيل تقفز إلى ذهنه تمامًا، وكأنه شخص يُسأل عن اسمه؛ بهذه البساطة دون الحاجة إلى تفكير.

يختلف أصحاب هذه المتلازمة عن غيرهم ممن يمتلكون ذاكرة استثنائية أو ذات قدرات خاصة، البعض يستخدم استراتيجيات معينة تساعدهم على التذكر، لكن الأمر يحدث لدى المصابين بمتلازمة فرط التذكر دون أي وعي أو رغبة منهم.

لا تزال أسباب متلازمة فرط التذكر غير معروفة على وجه التحديد لكن العلماء لاحظوا أن الفص الصدغي المسؤول عن الذاكرة يكون أكبر من العادي لدى الأشخاص المصابين بهذه المتلازمة، كما أن النواة المذنبة المسؤولة عن التعلم تكون أكبر أيضًا، وهو ما يلعب دورًا في الإصابة بالوسواس القهري،أمر رائع بالنسبة للعلم أن يتكمن الدماغ من الاحتفاظ بذكريات بهذه الدقة والتفصيل لكنها عذاب يعيشه أصحابها.

عقلٌ لا يهدأ أبدًا

يقول من يعانون من متلازمة فرط التذكر (هايبرسيميثيا) إن دماغهم يعمل بشكل دائم، ويتذكرون أحداثًا كثيرة مما يسبب لهم الصداع والأرق والتعب، فالدماغ تعمل وكأنها آلة زمن مثقلة بالعواطف. معاناتهم في عدم نسيان الحزن أبدًا تجعل صورة الماضي ماثلة أمامهم دائمًا وبدقة عالية جدًا، بحيث تبقى كل جراحهم مفتوحة دائمًا وهو يجعل تغلّبهم على الألم والحزن صعبًا للغاية.

ظهرت سلبيات الأمر على نيما فيسيه فقد ظهرت سلبيات الأمر عليه، لا يزال إلى اليوم يحفظ جيدًا اليوم الذي تعرف فيه على حبه الأول؛ 15 ديسمبر (كانون الأول) عام 2000، حتى اليوم لم ينس نيما الآلام التي يسببها له تذكر هذا اليوم. جيل أيضًا تقول إنها ورغم أن الكثيرين يعتبرون قدراتها منحة، لكنها تعاني من عمل دماغها المستمر «إن كل حياتي تمر داخل رأسي يوميًا وهذا يدفعني إلى الجنون».

تقول ريبيكا «أتذكر أحيانًا موقفًا محزنًا حدث لي في الثالثة من عمري، وحينها ينتابني أنا الشخص البالغ شعوري حين كنت طفلًا بكل الحزن وعدم الفهم»، وهكذا لا تعود ريبيكا روك قادرة على السيطرة على مشاعرها وهذا التناقض بين قلبها وعقلها يؤدي بها إلى القلق والتوتر.

عام

منذ 7 سنوات
مترجم: تريد تحسين ذاكرتك؟ هذه نصائح من أحد أقوى الناس ذاكرةً في العالم

كيف نوقف القلق؟

بعد 18 عامًا من الكشف عنه لا يزال البحث عن علاج له جاريًا، وما يجعل الأمر صعبًا هو أن بعض هؤلاء الأشخاص يصنعون ذكريات «مزيفة» لأحداث لم يمروا بها أبدًا.

إن القدرة المذهلة لدى هؤلاء الأشخاص على التذكر تثري تجاربهم الحياتية وتصقل بسهولة بعض الجوانب التي يودون تعلمها، مع ذلك فهم يعتبرون أن تذكر كل التفاصيل ليست ميزة أبدًا، فالأكثر أهمية من التفاصيل التي عشناها يومًا هو ثمرة هذه التجارب والحكمة التي تضيفها إلينا، لا أن يحمّل الرأس بالحدث ذاته.

في رأسهم تتراكم جميع البيانات: المهمة والتافهة، وتختلط كل المشاعر؛ السعادة والحب والخيانة والألم، رأس لا يهدأ أبدًا، تتصارع الأفكار دون أن يتمكن الشخص من الانفصال عن حقائق حياته لبعض الوقت. مع ذلك تقول ريبيكا إنها تريد أن تعرف كيف تعيش حياتها بهذه الطريقة وهذه القدرات ولا تريد لها أن تتغير، فهي لا تعرف نفسها إلا هكذا بهذه القدرات وهذا الطريقة في التفكير.

وتتفق معها خيمينا باث من البيرو، وهي تعاني من المتلازمة أيضًا في أنها لا تريد أن تتغير حياتها التي عرفتها، وإن كانت تتمنى أن تتخلص من معاناة تذكر كل المشكلات والأحزان التي مرت بها، تذكر خيمينا كل التواريخ والمواقف.

ومع الوقت اعتادت جيل أن تنظر إلى يمين الشاشة بقدر الإمكان؛ حيث الحاضر، لكنها الإرهاق على وجهها يبدو بسبب الأحداث التي تدور طوال الوقت داخل عقلها، وتعلّمت ريبيكا أن تحارب هذا التوتر بالذكريات السعيدة «في بداية كل شهر أتخير ذكريات سعيدة مرت بي في مثل هذا الشهر في السنوات الماضية، وبها أحاول مواجهة الذكريات الحزينة التي تهاجمني رغمًا عني».

أسرار الدماغ لا تنتهي

يمنحنا أصحاب هذه المتلازمة منظورًا جديدًا للأطفال وكيف يفكرون ويشعرون، تتذكر ريبيكا: «كنت أفكر ما الذي قد يكون يحدث حولي، كان الأمر يثير فضولي وأريد أن أدير رأسي لأراه، حين أكملت عامًا ونصف العام أخذت أفكر لماذا لا أستيقظ لأرى ما يمكن أن يكون هذا؟».

المثير أن ريبيكا ورغم تذكرها لتفاصيل كثيرة لا تتذكر يوم ميلادها وتؤكد «هذا هو اليوم الوحيد الذي لا أتذكره أبدًا ولا أتذكر أين كنت قبله، ولا أريد».

أصبحت حالة ريبيكا الآن جزءًا من مشروعين بحثيين في جامعة كوينزلاند وجامعة كاليفورنيا، والمتوقع أن تساعد نتائجهما الأشخاص المصابين بمرض ألزهايمر، وانطلق الدكتور جيمس أيضًا مع فريقه في البحث عن آليات عمل الذاكرة ومن ثم البحث عن علاج لمشكلات الذاكرة وألزهايمر، وفتحت هذه الحالة آفاقًا جديدة للبحث في أسرار العقل التي لا تنتهي.

علوم

منذ 6 سنوات
كيف تزيد من سعة ذاكرتك إلى الضعف خلال 40 يومًا فقط؟

المصادر

تحميل المزيد