في يوليو (2021)، نشر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقالًا طويلًا، تناول فيه تاريخ العلاقات بين روسيا وأوكرانيا، وكانت الحجة الرئيسية للمقال تدور حول «الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين»، واعتبر بوتين أن الروس والأوكرانيين شعب واحد، مُلغيًا بذلك الاختلافات في اللغة والتاريخ والثقافة السياسية بين الشعبين، ونافيًا حق الأوكرانيين في الدولة المستقلة.
لكن ما ذهب إليه بوتين ليس وليدًا للحظة التوتر الحالية بين البلدين، ولكنه يضرب بجذوره في التاريخ الروسي، نظرًا لأهمية هذه البقعة الجغرافية بالنسبة لموسكو، وهي الأهمية التي عبّر عنها مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، زبجنيو بريجينسكي، في أوائل عام 1994، حينما قال إن «أوكرانيا السليمة والمستقرة» هي قوة موازنة حاسمة لروسيا؛ فبدون أوكرانيا لم تعد روسيا إمبراطورية، ولكن إذا تمكنت موسكو من إخضاع كييف ستتجدد الآمال الإمبراطورية الروسية.
نقطة ارتكاز المشروع الإمبراطوري الروسي
في منتصف القرن التاسع عشر، صاغ المفكرون الروس مفهوم «الأمة الروسية»، وذلك من أجل استيعاب الحركة الوطنية الأوكرانية الصاعدة، وكان يحوي ثلاثة مكونات أساسية:
- الروس العظام (الروس في عالم اليوم).
- الروس الصغار (الأوكرانيون).
- الروس البيض (البيلاروسيين).
وبعد ذلك بدا أن عمليات الاستيعاب، هي في حقيقة الأمر عمليات طمس للهوية الأوكرانية، إذ حظرت السلطات الإمبراطورية الروسية المطبوعات المكتوبة باللغة الأوكرانية، وكذلك أوقفت تطور الحركة السياسية والثقافية الأوكرانية تمامًا.
ورغم ذلك، اتضح لاحقًا أن هذه الممارسات الروسية أبطأت المشروع الوطني الأوكراني الحديث ولم تُوقِفه تمامًا، فعندما اندلعت ثورة 1917، وسقطت الإمبراطورية الروسية، أنشأ النشطاء الأوكرانيون دولة خاصة بهم، وفي يناير (كانون الثاني) 1918 أعلنوا الاستقلال، وفي النمسا والمجر، أعلنت العرقية الأوكرانية في البلاد الاستقلال، باسم جمهورية أوكرانيا الغربية.
بحلول الوقت الذي سيطر فيه البلاشفة الروس (قادة الثورة الروسية والحُكّام الجُدد) على معظم ما كان يُعرف بـ «أوكرانيا الروسية» في عام 1920، كان فكرة الاستقلال قد اكتسبت شعبية بين الجماهير الأوكرانية، ولم تكن السلطة الجديدة تملك رفضها تمامًا، الأمر الذي أجبر البلاشفة على الاعتراف بأوكرانيا دولةً مستقلة، ولكن ضمن جمهوريات الاتحاد السوفيتي. وفيما بعد لم يستطع الأوكرانيون ممارسة هذا الاستقلال، وإنما جرى استيعابهم بالكامل داخل الاتحاد السوفيتي.
ديموغرافيًا، تعتبر أوكرانيا هي الأكثر اكتظاظًا بالسكان بعد روسيا، وهو ما جعلها تلعب دورًا محوريًّا داخل الاتحاد السوفيتي في السابق، وبالمثل عند حله، ففي استفتاء ديسمبر (كانون الأول) عام 1991، صوّت أكثر من 90% من الأوكرانيين على مغادرة الاتحاد السوفيتي، الأمر الذي أدى بدوره إلى تفكك الاتحاد في غضون أسبوع، ولم يكن الأوكرانيون يريدون تفكك الاتحاد السوفيتي، ولكنهم فقط أرادوا الاستقلال، ونظرًا لأهمية أوكرانيا الإستراتيجية للسوفييت، فإن انفصالها كان إيذانًا بانهيار هذه القوة العظمى.
نقطة ضعف وقوة.. ما الذي تمثله أوكرانيا لروسيا
تعتبر أوكرانيا نقطة ضعف روسيا ونقطة قوتها في الوقت ذاته؛ ففي حال سيطرة الروس على كييف، تصبح روسيا دولة آمنة، لأن مناطق «جبال الكاربات»، التي تفصل أوكرانيا عن أوروبا، لا يمكن اختراقها بسهولة.
أمّا إذا كانت كييف تحت تأثير أو سيطرة قوة غربية، فإن الجناح الجنوبي لروسيا (وبيلاروسيا) مفتوح على مصراعيه، على طول قوس يمتد من الحدود البولندية شرقًا إلى فولغوجراد ثم جنوبًا إلى بحر آزوف، على مسافة تزيد عن 1000 ميل، أكثر من 700 منها تقع على طول روسيا.
الجيش الروسي
لذلك، فإن أوكرانيا بالنسبة لروسيا هي مسألة أمن قومي، أمّا بالنسبة للغرب فكييف ذات قيمة فقط إذا كانت هناك خطط لحصار روسيا وتقليم قوتها. صحيح أن هذه الفرضية لا تنطبق على الوضع الحالي، فليس هناك أي قوة غربية ترغب في الاشتباك عسكريًا مع روسيا حاليًا، لكن الذاكرة الروسية ما زالت تحمل تاريخ الغزو النازي، عبر البقعة الجغرافية نفسها.
ففي عام 1932، لم تكن ألمانيا قوة عسكرية يُعتد بها، ولم تكن تمثل تهديدًا حقيقيًّا للاتحاد السوفيتي، ولكن بحلول عام 1941، كانت قد غزت القارة الأوروبية وتوغلت في عمق روسيا. وهنا تعلّم الروس درسًا تاريخيًا، وهو عدم التخطيط أبدًا بناءً على ما يستطيع الآخرون فعله حاليًا، وعدم ترك مصيرهم بيد الآخرين.
لذلك فإن مستقبل كييف هو مسألة حاضرة دائمًا في التخطيط والفكر الإستراتيجي الروسي، خاصةً وأن انضمام كييف إلى الناتو حاليًا، يجعل صواريخ الحلف على مسافة لا تزيد عن 200 كيلومتر من سان بطرسبرج.
إضافة إلى ما سبق، فإن أوكرانيا هي بوابة وصول روسيا إلى البحر الأسود، وبالتالي إلى البحر الأبيض المتوسط، حيث توفر موانئ أوديسا وسيفاستوبول منافذ عسكرية وتجارية للصادرات، لا سيما من جنوب روسيا، وكذلك تعتمد روسيا على خطوط الأنابيب الأوكرانية لضخ الغاز إلى العملاء في وسط وشرق أوروبا منذ عقود من الزمن.
هذه الروابط الجغرافية، ترافقت مع أبعاد ثقافية واجتماعية هامة، إذ يمتلك السكان في كل من روسيا وأوكرانيا روابط عائلية قوية تعود إلى قرون، كما يشار إلى كييف، عاصمة أوكرانيا، أحيانًا على أنها «أم المدن الروسية»، وذلك على قدم المساواة من ناحية التأثير الثقافي مع موسكو وسانت بطرسبرج.
ففي كييف في القرنين الثامن والتاسع، جرى جلب المسيحية من بيزنطة إلى الشعوب السلافية، وكانت المسيحية بمثابة العقيدة الرسمية لـ«روس كييف»، الدولة السلافية المبكرة التي ينحدر منها الروس والأوكرانيون والبيلاروسيون، وكذلك يعيش ما يقارب من ثمانية ملايين مواطن من أصل روسي في أوكرانيا، معظمهم في الجنوب والشرق، وطالما زعمت موسكو أن تسعى لحماية هؤلاء الأشخاص.
ونتيجة لكل ما سبق، فقد كانت موسكو -لفترة طويلة- الشريك التجاري الأكبر لكييف، وعلى الرغم من أن هذا الارتباط قد تلاشى بشكل كبير في السنوات الأخيرة، فإن موسكو ما زالت تأمل في جذب كييف إلى سوقها الموحدة (الاتحاد الاقتصادي الأوراسي) الذي يضم اليوم أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان.
أمة على الحافة.. هكذا وقعت أوكرانيا على خارطة الصراع
اسم «أوكرانيا» يعني حرفيًا «على الحافة»، وقد كان لتاريخ الدولة نصيبًا كبيرًا من اسمها، فهي دولة على حافة دول أخرى، وأحيانًا جزء من دول أخرى، ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر، جرى تقسيمها بين روسيا وبولندا والإمبراطورية العثمانية، وفي القرن التاسع عشر، جرى تقسيمها بين روسيا والإمبراطورية النمساوية المجرية، وفي القرن العشرين، باستثناء فترة قصيرة من الاستقلال بعد الحرب العالمية الأولى، أصبحت جزءًا من الاتحاد السوفيتي.
على مدار تاريخها على حافة الإمبراطوريات، بحثت أوكرانيا عن استقلالها وامتلاك ناصية مصيرها، لذلك لا عجب أن نجد أن الفترة الحالية هي استثنائية بحق في التاريخ الأوكراني، فهي دولة مستقلة منذ 30 عامًا تقريبًا، وهذه هي أطول فترة استقلال لأوكرانيا منذ قرون.
يرغب الأوكرانيون في التعبير عن هذا الاستقلال، بتأكيد انفصالهم عن روسيا ومصالحها، حتى لو اتخذ هذا التأكيد شكل الانضمام إلى المعسكر الأوربي المناظر لروسيا، ولكن ما زالت الجغرافية تحكم مصيرها، وتفرض قيودها على السيادة الوطنية الأوكرانية وبالتالي على حياة الأوكرانيين.
جندية أوكرانية في الحرب العالمية الثانية
صحيح أن نسبة كبيرة من الأوكرانيين يرغبون في التخلص نهائيًا من العباءة الروسية، لكن لا يبدو أنها رغبة سائدة بين الشعب الأوكراني، وهنا نتحدث عن الأوكرانيين المتحدثين بالروسية، الذي يعيشون في المناطق الصناعية في الشرق.
ففي دونباس (المتنازع عليها حاليًا بين انفصاليين مدعومين روسيًا وبين الحكومة الأوكرانية)، يبدو أن المواطنين يفتقدون الأيام السوفييتية القديمة الجيدة، ولكنهم نقلوا حنينهم إلى روسيا بوتين اليوم.
وعلى مدار السنوات الماضية، حاول الزعماء السياسيون في دونباس، بمساعدة الروس، تغذية المخاوف الأيديولوجية من النزوح الأوكراني إلى الغرب، بما يهدد فقدان المنطقة لثقافتها الروسية ومجدها الإمبراطوري.
ولا عجب في أن الاستبداد على الطراز الروسي المدعوم بعائدات النفط والغاز لا يزال يبدو جذابًا للكثيرين في شرق أوكرانيا، حيث لا تزال الهويات الوطنية متقلبة، كما أن خيار الانحياز إلى الغرب لا يحمل أي دعم مالي أو لوجستي، فقد كشفت الأزمة الأوكرانية الاخيرة أن الغرب خذل أوكرانيا.
فبعد الانتصار في الحرب البادرة وانهيار الاتحاد السوفيتي، لم تستثمر القوى الغربية في بناء اقتصاد السوق والديمقراطية في دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، وبتعبير المُنظّرين الغربيين، «لم تكن هناك خطة مارشال لأوكرانيا (أو دول الاتحاد السوفيتي السابق الأخرى)»، ولم يقدم الاتحاد الأوروبي مسارًا واضحًا لانضمام هذه الدول إليه، وفي ظل كل هذه المعطيات السابقة، نصل إلى السؤال المحوري: ماذا يريد أطراف الأزمة؟
يعتقد المفكر الأمريكي، جورج فريدمان، أن الروس لا يحاولون إعادة إنشاء الإمبراطورية الروسية، إنهم يريدون صيانة مجال نفوذهم فقط، وضمان أمنهم القومي، فروسيا غير مستعدة لتحمل مسئولية الدولة الأوكرانية أو غيرها من الدول، فهم يرون أن هذه المسئولية هي منْ استنزفت القوة الروسية في السابق.
ما يريده الروس هو درجة كافية من السيطرة على أوكرانيا، لضمان عدم سيطرة القوات المعادية عليها، خاصة «الناتو» أو أي كيانات تتأسس لاحقة، ولا يعارض الروس منح أوكرانيا السيادة على المستوى الداخلي، طالما أن حكومتهم لا تشكل تهديد لروسيا، وطالما أن خطوط أنابيب الغاز التي تمر عبر أوكرانيا تخضع للسيطرة الروسية.
أمّا أوكرانيا، فترغب في أن تكون دولة مستقلة، وأن تمارس هذا الاستقلال الذي طالما حُرمت منه تاريخيًا، ويبدو أن ترجمة هذا الاستقلال في المخيلة الأوكرانية السياسية الحديثة، يعني التخلص من الإرث الروسي، والانتماء إلى المعسكر الغربي.
الأمر المثير هو أن المعسكر الغربي غير مستعد لاستيعاب أوكرانيا، على الرغم من الرغبة الغربية في عدم انخراط أوكرانيا مُجددًا تحت السيادة الروسية، لكنه غير قادر على تحمل عبء أوكرانيا، والدخول في مواجهات سياسية وعسكرية واقتصادية -مجهولة المصير- مع روسيا، في وقت يواجه فيه أزماته الخاصة المتفاقمة.