أضافت الحرب بين روسيا وأوكرانيا أعباءً مضاعفة على اقتصادات دول العالم الثالث بفعل ارتفاع أسعار الطاقة والطعام، فضلًا عن الارتفاع الكبير في التضخم، وتشديد السياسة النقدية، وارتفاع معدلات الديون، ولم تسلم الاقتصادات القوية من تلك التأثيرات الجارفة أيضًا، حتى بات الاقتصاد العالمي في وضع مقلقٍ، فما الذي تخبرنا به المؤشرات الاقتصادية الحالية عن الوضع الراهن للاقتصاد العالمي؟
وكيف يمكننا فهم ما حصل بالفعل في الشهور القليلة الماضية عن طريق هذه المؤشرات؟ وكيف يمكننا فهم ما يحصل اليوم، وأكثر من ذلك توقع ما يمكن أن يحصل في المستقبل القريب بناءً على هذه المؤشرات؟ لذا سنستعرض في هذا التقرير تلك المؤشرات وما تخبرنا به، مع التركيز على الاقتصاد الأمريكي، ومن بعده على الاقتصادين الصيني والأوروبي، لكن لماذا التركيز على اقتصاد ما دون غيره؟
أمريكا والصين والاتحاد الأوروبي يمثلون 60% من الاقتصاد العالمي
يمثل الاقتصاد الأمريكي وحده 24% من إجمالي اقتصاد العالم لعام 2021؛ وذلك باستخدام الناتج المحلي الإجمالي بالسعر الحالي للدولار، بينما يمثل اقتصاد الصين 18.5%، والاتحاد الأوروبي 17.7%، وبالتالي تمثل هذه الاقتصادات الثلاثة 60% من الاقتصاد العالمي.
تفرض هذه النسبة الكبيرة لهذه الاقتصادات مجتمعة؛ أو حتى لكل اقتصادٍ منهم على حدة، قوة لا تُضاهى في تأثيرها على اقتصاد العالم؛ وخصوصًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار القوة الشرائية الهائلة لهذه الاقتصادات، وتعقد علاقاتها بدولٍ وتحالفاتٍ اقتصادية وسياسية أخرى من التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، ويضم كلًا من الاتحاد الأوروبي، ودولًا آسيوية كبرى، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، إلى التحالف الآخر (قيد التشكيل) والذي تقوده الصين وروسيا؛ وقد يضم دولًا أخرى مثل إيران، وكوريا الشمالية، وكوبا، وفنزويلا، وربما غيرها.
ويظهر تعقُّد الاقتصاد العالمي حاليًا في شكل العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدول المختلفة، وتأثير الاقتصاد المحلي لكل دولة على الدول الأخرى في العالم؛ ويظهر ذلك بوضوح في تأثير الاقتصاد المحلي للولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي والصين على باقي العالم، فهذه الأطراف الثلاثة هي المسؤولة عن النسبة الأكبر من نمو الاقتصاد العالمي، وتباطؤ نموها، أو وقوعها في أزمة اقتصادية، يعني وقوع باقي العالم في نفس المصير.
وتظهر بيانات بلومبرج المستقاة من منشورات صندوق النقد الدولي أن الصين وحدها تساهم بأكثر من 20% من إجمالي النمو العالمي بين 2021-2026، تتلوها الولايات المتحدة الأمريكية بما يقارب 15%، بينما لا تظهر المؤشرات جميع دول الاتحاد الأوروبي، لكن البيانات المتوافرة عن خمس دول فقط من الاتحاد الأوروبي تضع الاتحاد في المرتبة الثالثة بنسبة 9.2%، وإذا ما اضفنا المملكة المتحدة فإن النسبة تقفز إلى 11.3%.
وهذه الدول هي من أكبر المصدرين والمستوردين في العالم؛ أي أن هناك العشرات من الدول الأخرى التي تحتاج إلى هذه الدول لشراء ما تحتاجه من منتجات؛ بينما تحتاج هذه الدول المصنعة إلى تلك الأسواق الناشئة لتصريف ما تنتجه، ويظهر التفاوت في لحظات الأزمة، فإذا ما حلت أزمة بـ10 دول أفريقية مثلًا، فإن ذلك لن يعني بالضرورة تحولها لأزمة عالمية. أما وجود أزمة في أمريكا، أو الصين، أو الاتحاد الأوروبي، فيعني قطعًا تضرر الاقتصاد العالمي.
طبعًا تمتلك دول أخرى أوراقًا اقتصادية مهمة جدًا من الطاقة في كلٍ من روسيا والخليج العربي، إلى الغذاء في روسيا وأوكرانيا وغيرها من الدول، ولكن اقتصادات هذه الدول قد تقع في أزمة اقتصادية دون أن يعني ذلك بالضرورة انتقال الأزمة إلى كافة أرجاء العالم، بعكس كل من الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي.
والسبب الآخر للاهتمام بهذه الاقتصادات أكثر من غيرها، وتحديدًا الولايات المتحدة الأمريكية هو توافر جميع البيانات اللازمة لفهم المؤشرات الاقتصادية المختلفة عن واقع اقتصادها، بينما لا تتوافر جميع هذه المؤشرات بشكل دائم ويمكن الاعتماد عليه في كثير من الدول الأخرى؛ بل حتى الصين لا توفر جميع البيانات اللازمة، وقد يقتصر نشر بعض المؤشرات عن الاقتصاد الأمريكي دون الاتحاد الأوروبي أيضًا، ولكن أمريكا والاتحاد الأوروبي قطعًا أفضل في هذا المجال بكثير من الصين.
والسبب الأخير متعلق بالأسواق المالية، وتحديدًا السوق المالية للولايات المتحدة الأمريكية، وبدرجة أقل أسواق المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، وبدرجة أقل بكثير سوق الصين وغيرها من الأسواق الناشئة؛ فحتى لو لم يكن حتميًا انتقال أثر أزمةٍ اقتصاديةٍ ما من إحدى هذه الاقتصادات إلى العالم لعدم وجود علاقة مباشرة فإن مركزية الولايات المتحدة الأمريكية في السوق العالمية، فضلًا عن مركزية الدولار في النظام النقذي العالمي ستعني حتمًا انتقال الأزمة إلى كل مكان.
وبسبب كل ذلك فإننا سنركز في كثير من هذه المؤشرات على الولايات المتحدة الأمريكية خصوصًا، وربما نستطيع أيضًا تعميمها لتشمل كلًا من الاتحاد الأوروبي والصين في بعض الأحيان، وفي حالات قليلة سنستطيع إيجاد بيانات كافية لمؤشرات بخصوص العالم كوحدة واحدة أيضًا.
بم تخبرنا المؤشرات الاقتصادية عن الماضي والحاضر والمستقبل؟
تنقسم المؤشرات الاقتصادية إلى ثلاثة أقسام: الأول هو الذي يخبرنا عن الماضي القريب، وهو يخبرنا عن النمط الذي يتبعه الاقتصاد اليوم ويسمى بالـ«المتخلف Lagging»، بينما القسم الثاني هو ما يخبرنا عما يحصل الآن؛ ويمكننا من خلاله معرفة التغيرات الآنية وهو يسمى بالـ«المطابق/الموافق Coinditent»، وأخيرًا المؤشرات التي ستخبرنا عما سيحصل قريبًا والمسماة بالمؤشرات «القائدة leading».
والفكرة من اختلاف هذه المؤشرات هو اختلاف ما تقيسه، فبعض الأمور تحصل في الاقتصاد قبل حصول النمو أو الركود – مثلًا، وهي أمور مرتبطة جدًا بالتوقعات الاقتصادية، وبعضها يتزامن مع الحدث الاقتصادي نفسه، وأخيرًا بعضها لا يحصل إلا بعد حصول الأثر أو الحدث الاقتصادي.
وسنبدأ بذكر أهم هذه المؤشرات من كل قسم مع شرح ما تعنيه في الاقتصاد ضمن كل تصنيف لكل منها، طبقًا لآخر ما جرى الإفصاح عنه على الأقل؛ فالبيانات الاقتصادية لا يمكن نشرها بشكل مباشر عند حصولها، ولكنها تنشر بشكل شهري، ربع سنوي، نصف سنوي أو سنوي، وبعد انتهاء الفترة بطبيعة الحال.
بعد الجائحة.. مؤشرات ما حصل في الاقتصاد العالمي
ولهذا الغرض سنبدأ من عام 2021، لكننا وبشكل استباقي سنستخدم التوقعات الاقتصادية لعام 2022؛ لأن المؤشرات اللازم استخدامها في هذا القسم لا تنشر عادة بكل دوري، ولكن تغيير المؤسسات الاقتصادية – الخاصة والعامة والدولية – لتوقعاتها مفيد جدًا لفهم ما حصل في الشهور الماضية؛ فتغيرات الشهور الماضية من العام الحالي يؤثر جدًا على التوقعات الاقتصادية للعام ككل.
فمثلًا إحدى هذه المؤشرات هو «معدل البطالة Unemployment Rate»، وهو يقيس نسبة العاطلين عن العمل إلى إجمالي «قوة العمل Labor Force» لا إجمالي السكان، وقوة العمل تشمل من هم في عمر العمل المناسب؛ وهم على رأس عملهم حاليًا، أو متوقفون عن العمل لأمر طارئ، وهم يعملون على الأقل ساعة واحدة في الأسبوع، وتشمل أيضًا العاطلين عن العمل ممن يبحثون عن عمل بشكل فعال، وهذا لا يشمل من يختار عدم العمل، أو من تجبره الظروف الاقتصادية على التوقف عن البحث عن عمل.
فلماذا يعتبر هذا المؤشر دلالة على ما حدث وليس ما يحدث الآن في الاقتصاد؟ باختصار لأن الشركات عمومًا لا تقدم على بدء توظيف عمالة جديدة، إلا بعد أن تتحسن أوضاعها بالفعل، ويزيد الطلب على منتجاتها، وبالتالي يرتفع إيرادها، وربما حتى تصبح غير قادرة على الوفاء بالطلب الحالي بعدد العمال الحاليين، فتبدأ الشركات عندها بالتوظيف.
وهذا يعني أن مسار تحسن الاقتصاد قد يبدأ قبل شهور – قد تصل إلى ستة لتسعة شهور – قبل أن يبدأ معدل البطالة بالتحسن والانخفاض، وتبدأ الشركات بخلق وظائف جديدة في الاقتصاد، وهو ما يعني أن تحسن معدل البطالة – أي انخفاضه – قد لا يعني أن الاقتصاد اليوم يمر بحالة جيدة، بل قد يعني أنه مر بالفعل بحالة جيدة في الشهور الماضية، وقد يستمر ذلك أو لا يستمر.
وتوفر قاعدة بيانات البنك الدولي المؤشر بشكل سنوي لأغلب دول العالم، وأيضًا للعالم كوحدة واحدة، ورغم أن فترة عام كامل قد تكون أكبر قليلًا مما نريد توضيحه، ولكننا سنحاول لاحقًا الحصول على بيانات شهرية في حالات أخرى.
ولكن لننظر الآن إلى بيانات عام 2021 من البنك الدولي، سنرى أن البطالة للعالم انخفضت من 6.6% في عام 2020 لتصبح في العام المهم بالنسبة لنا 6.2%، وهو يزال بعيدًا عن النسبة قبل الجائحة في عام 2019، والذي كان 5.4%، وهو ما يعني أن العالم بدأ بالفعل بالتعافي في عام 2021، ولكن لأن الأثر في معدل البطالة يظهر لاحقًا فإننا لم نر تحسنًا كبيرًا في عام 2021.
ويعد مؤشر الناتج المحلي الإجمالي مؤشرًا يخبرنا عما يحصل الآن في الاقتصاد، وعندما ننظر إلى كل من مؤشري نمو الناتج المحلي والبطالة نعلم أن الناتج في عام 2021 نما بنسبة جيدة جدًا في العالم، ولكن ذلك لم ينعكس مباشرة على شكل تحسن مباشر في التوظيف.
أما إذا نظرنا إلى البيانات التفصيلية؛ فإننا سنجد أن الأثر في الولايات المتحدة كان قريبًا مما حصل بالنسبة للعالم ككل، فمعدل بطالة فيها بلغ 3.7% في عام 2019، ولكنه قفز مرة واحدة في عام 2020 إلى 8.1% (الأقل قبل الجائحة والأعلى بعد الجائحة) ولكنه تحسن بشكل ملحوظ، بل بشكل أفضل إلى 5.5% في عام 2021.
أما في الاتحاد الأوروبي فإن النسبة ارتفعت من عام 6.7% في 2019 إلى 7% في عام 2020، وبقيت على حالها في عام 2021، ورغم أن هذا يعني أن الاتحاد الأوروبي لم يتأثر بنفس عمق تأثر الاقتصاد الأمريكي بالجائحة – بناء على معدل البطالة فحسب – إلا أنه لم يستطع تحقيق تحسن يذكر في عام 2021؛ ومرة أخرى هذا بالنظر إلى مؤشر واحد فحسب.
أما الصين أخيرًا فقد ارتفعت فيها البطالة من 4.5% في عام 2019 ارتفاعًا بسيطًا في عام 2020 إلى 5%، ثم انخفضت إلى 4.8% في عام 2021، وكأن الصين لم تتأثر بشكل حقيقي بالجائحة من ناحية التوظيف، وقد يعود ذلك بالدرجة الأولى إلى الإجراءات الحكومية الاستثنائية؛ ولكنه يعود أيضًا إلى أن القطاع العام يمثل نسبة مهمة جدًا في الاقتصاد الصيني، ومن الأسهل على الحكومة وشركاتها الإبقاء على موظفيها مقارنة بالقطاع الخاص المعني بالربح وتقليل الخسائر في أوقات الأزمات الاقتصادية.
ولكن ماذا عن الشهور الستة الأولى من عام 2022؟
خسر الاقتصاد الأمريكي في شهر مارس (آذار) من عام 2020 مليونا ونصف مليون وظيفة، ولم تكن تلك إلا بداية آثار الجائحة؛ إذ خسر بعدها في شهر أبريل (نيسان) من العام نفسه أكثر من 20 مليون وظيفة، واحتاج الاقتصاد الأمريكي إلى أكثر من عامين، أي يونيو (حزيران) 2022 لخلق نفس كمية الوظائف التي خسرها الاقتصاد في ذلك الحين، أي أن ما خسره الاقتصاد من وظائف في شهرين فقط احتاج عامين وشهرين لإعادته إلى نفس الوضع، وإن كانت الوظائف التي خلقها الاقتصاد بعد الجائحة مختلفة عن الوظائف التي تم فقدانها بسبب الجائحة، ولكن هذا موضوع آخر.
بسبب هذا الخلق الكثيف للوظائف فإن نسبة البطالة في الولايات المتحدة الأمريكية ثبتت في شهر يونيو 2022 عند نسبة 3.6%؛ وهي من أقل نسب البطالة في تاريخ الاقتصاد الأمريكي منذ عام 1994، ولم يحقق ما هو أقل منها منذ شهر فبراير (شباط) من عام 2020، أي قبل الجائحة، وبنسبة 3.5%.
وظل الاقتصاد الأمريكي محافظًا على خلق المزيد من الوظائف في الأشهر الستة الأولى من عام 2022، وأفضل هذه الشهور كان شهر فبراير، وعدد الوظائف التي أنتجت حينها كان 714 ألف وظيفة، مقارنة بأكثر بقليل من نصف مليون وظيفة في الشهر الذي سبقه، ولكن هذا الرقم تضاءل إلى أقل من 400 ألف وظيفة في جميع الشهور التالية حتى يونيو 2022.
وقد يكون الاقتصاد الأمريكي قد وصل إلى حده الأعلى من إمكانية خلق الوظائف وتخفيض البطالة؛ وإذا ما أضفنا إلى ذلك أن هذا المؤشر يتخلف عن مؤشر الناتج المحلي الإجمالي – الذي يخبرنا عن مراحل الاقتصاد من نمو وتعاف وركود وغيره – فقد يكون القادم أسوأ، وقد يكون الاقتصاد الأمريكي قد استنزف ما يمكنه فعله.
بم تخبرنا بيانات التضخم؟
يخبرنا مؤشر التضخم أيضًا عما حصل للاقتصاد سابقا للشهر الذي جرى تسجيله فيه، وهذا يعود أيضًا إلى أن الأسعار تميل إلى أن تتأخر في التغير عن حال الاقتصاد نفسه، ولكن استقراء بيانات التضخم قد يعطينا صورة مختلفة عن استقراء بيانات التوظيف والبطالة.
ففي عام 2021 لم يكن التضخم بذلك السوء لا في العالم ولا في الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي أو الصين، مع الأخذ بعين الاعتبار أن نسبة 2% هي النسبة «الصحية» كما يقرر الفيدرالي الأمريكي، وتظهر البيانات أن العالم بمجمله حقق نسبة 3.4%، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن العالم منقسم إلى دول متقدمة وأخرى نامية فإن هذه النسبة ليست بعيدة كثيرًا عن النسبة الصحية.
ولكن النسبة في الولايات المتحدة في عام 2021 كانت أكثر من ضعف هذه النسبة الصحية وعند 4.7%، وخصوصًا لأن الفيدرالي الأمريكي كان يرى أن التضخم في ذلك العام كان انتقاليًا وضروريًا للخروج من آثار الجائحة؛ وبالتالي لم يفعل شيئًا لمكافحته قبل عام 2022، عندما بدأ برفع أسعار الفائدة، واتباع سياسة نقدية انكماشية بالمجمل.
أما الاتحاد الأوروبي فحقق نسبة مقاربة جدًا لـ2% بنسبة 2.6%، وعلى اعتبار أن تلك النسبة تحققت في ظل محاولة الخروج من أزمة الجائحة فهي جيدة جدًا، وأخيرًا كانت النسبة في الصين منخفضة جدا وعند 1% فقط في ذلك العام.
ولكن التضخم في شهر يونيو 2022 وصل إلى 9.1%؛ رغم كل محاولات الفيدرالي الأمريكي للتحكم به برفع أسعار الفائدة واتباع سياسة نقدية انكماشية، وذلك قد يتماشى قليلًا مع مؤشرات نمو الوظائف وانخفاض معدل البطالة، ولكنه لا يستقيم تمامًا معه لأن النظرية الاقتصادية تقول بالفعل إن التضخم سيرتفع في حالات النمو – التي يرتفع فيها التوظيف، ولكن ليس إلى هذه النسبة الضخمة جدًا وغير المسيطر عليها.
وباختصار يمكن القول إنه إذا ما أثبت الاقتصاد الأمريكي في قادم الأيام أنه استنفذ قدرته على خلق الوظائف، وأن الاقتصاد كان يتعافى بالفعل في الشهور الماضية، ولذلك كان مؤشر التوظيف جيدًا حتى اليوم، فإننا أمام واحد من سيناريوهين اثنين: الأول هو أن تبدأ معدلات التضخم بالانخفاض بالفعل، ولكن على حساب الوقوع في الركود، والثاني هو أن يدخل الاقتصاد في الركود دون انخفاض معدلات التضخم وهو ما يعرف باسم «الركود التضخمي».
وباختصار لو كانت معدلات التضخم مرتفعة نسبيًا عن النسبة الصحية، ولكن دون وصولها إلى الحد الضخم جدًا الذي وصلت إليه اليوم يمكننا حينها القول إن الاقتصاد كان يتعافى بالفعل؛ وهو ما تدعمه بيانات عام 2021، ولكن بيانات عام 2022 تقول أمرًا آخر، فمعدلات التضخم مرتفعة جدًا، والاقتصاد وصل إلى حده الأعلى في خلق الوظائف؛ مع تغيير نمط الوظائف المقدمة في الاقتصاد، وهو ما قد يعني إمكانية حصول الركود مع بقاء معدلات التضخم مرتفعة في المستقبل أيضًا، وهو أمر خطير جدًا.
مؤشرات الاقتصاد الحالي.. هل وقعنا في الركود؟
سننظر الآن إلى مؤشري «الناتج المحلي الإجمالي Gross Domestic Product»، و«الإنتاج الصناعي، واستغلال القدرات Industrial Production and Capacity Utilization»، أما المؤشر الأول فهو يقيس القيمة المضافة التي أنتجها اقتصاد ما خلال فترة معينة، والثاني فهو مختص بالإنتاج الصناعي تحديدًا.
ولن نطيل الحديث في هذا القسم من المؤشرات، ورغم أن هناك مؤشرات أخرى لقياس ما يحصل في الاقتصاد اليوم، لكننا عادة نستخدم الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي – أي بعد استثناء أثر التضخم – لقياس ما يحصل في الاقتصاد الآن، فإذا كان هناك نمو إيجابي فالاقتصاد في حالة جيدة، وإذا كان النمو سالبًا فهو في حالة انكماش، وإذا كان النمو أقل من نسبة 2% فهذا يعني أن الاقتصاد في حالة من التباطؤ، وقد يقع في الركود حتى إذا ما استمرت الحالة على ما هي عليه.
وفي عام 2021 حقق الاقتصاد معدل نمو جيدًا جدًا بالفعل؛ نتيجة لمعدل الانكماش السيئ المحقق في عام 2020، بمعنى أنه وبمجرد فتح الاقتصاد أطلقت إمكانياته التي كانت مقيدة بشكل كامل على الأقل في جزء من عام 2020، ومقيدة بشكل جزئي في باقي العام بعد بدء الجائحة، ولكن عام 2021 جاء بانفراجة لهذه الإغلاقات، فحقق الاقتصاد نموًا 5.7% في الولايات المتحدة، وهي نسبة ممتازة والأعلى منذ عام 1984، ولكنها مفهومة لكونها أتت بعد عام انكماش.
ولكن ما الذي حصل في الأشهر الستة من عام 2022؟ في الربع الأول من العام الحالي عاد الاقتصاد للانكماش بنسبة 1.5% بعد إزالة أثر التضخم – وهو أمر مهم في هذا العام نظرًا لمعدلات التضخم المرتفعة جدًا، ولكن هذا لا يكفي للقول بأن الاقتصاد قد يكون بدأ بمرحلة جديدة من الانكماش والهبوط، ولكن بيانات الربع الثاني كانت أسوأ مما سبقها بانكماش نسبته 1.6% أيضًا.
وهذا قد يعني أن الاقتصاد قد دخل بالفعل في مرحلة الركود، فقد كان الركود سابقًا معرفًا بتحقيق انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لربعين متتالين، ولكن السلطات الأمريكية المختصة غيرت هذا التعريف لاحقًا، ويجب علينا انتظار إعلانها الرسمي عما إذا كان الوضع الحالي كافيًا لوصفه بالركود أم لا، لكن قطعًا فإن بيانات الربعين الماضيين يؤشران إلى إمكانية حصول الركود أو أنه بدأ بالفعل.
وقد لا يكون الأمر بهذا السوء إذا ترافق الركود مع بدء معدلات التضخم بالانخفاض ولو تدريجيًا، ولكن إذا استمرت معدلات التضخم بالارتفاع أو البقاء على ما هي عليه فهي مرتفعة بالفعل، وبقي الاقتصاد يحقق نموًا سالبًا في الناتج المحلي الحقيقي، فهذا هو التعريف الطبيعي للركود التضخمي.
وأخيرًا فإن بيانات الإنتاج الصناعي لم تكن بذلك السوء طوال الربعين الماضيين، بل هي ظلت تحقق بالفعل نموًا موجبًا حتى شهر أبريل من العام الحالي، ولكنها بدأت بالانخفاض في شهر مايو (أيار)، واستمرت بالانخفاض في يونيو، ولكن بنسب غير ضخمة.
وذلك يعني أنه وإن لم تكن معدلات الانكماش في الناتج الحقيقي في الربعين الماضيين كافية للقول إن الاقتصاد دخل في مرحلة من الركود؛ خصوصًا أن بيانات الإنتاج الصناعي لم تكن سيئة في الربع الأول، والشهر الأول من الربع الثاني، لكن بيانات الشهرين الأخيرين من الربع الثاني تقول أمرًا آخر.
رحلة في الضباب.. ماذا سيحدث في الاقتصاد العالمي؟
هناك المؤشرات التي قد تنجح في إخبارنا عما سيحصل مستقبلًا، وهي المؤشرات «القائدة Leading»، وهي مؤشرات تستبق الحدث وتساعد في فهم ما قد يحدث لاحقًا؛ وهي في أغلبها تتعلق بتوقعات المستهلكين والمستثمرين، ومعهم المؤسسات النقدية، لكن غالبًا بشكل غير مباشر.
فمثلًا تعتمد بعض المؤشرات على قياس قيمة الدين المقدم من قبل المؤسسات النقدية المختلفة، فذلك يقيس توقعات مدراء البنوك – على سبيل المثال، وأخرى تتعلق بأسعار الأسهم في الأسواق المالية، والتي تعكس توقعات المستثمرين عن مستقبل الاقتصاد؛ فعندما يتوقعون هبوط الاقتصاد يبدأون بالانسحاب من هذه الأسواق، وبيع حصصهم ما يعني انخفاض أسعار الأسهم، وأيضًا يعني كونه مؤشرًا على توقعهم لمصير الاقتصاد.
والمشكلة في هذه التوقعات أنها قد تعمل كنبوءة محققة لذاتها؛ فبسبب أنهم يتوقعون أن الاقتصاد سيبدأ بالركود يبدأون ببيع حصصهم، وبيع حصصهم يعني انخفاض أسعار الأسهم بسبب ازدياد العرض، وذلك يؤدي لخسائر في سوق الأسهم، وهذه الخسائر تساهم في تحقيق الركود، وربما الانكماش.
وهناك مؤشرات أخرى تتعلق بعدد الأبنية المراد تشييدها، أو طلبات المستهلكين من المنتجات عالية الثمن، وغيرها من المؤشرات التي تعكس ثقة المستهلكين بالاقتصاد؛ فهذه المنتجات تكلف ثمنًا باهظًا نسبيًا، ولن يشتريها المستهلكون ما لم يكونوا واثقين بقدرتهم المالية المستقبلية؛ خصوصًا أن كثيرًا منها يشترى عن طريق الدين، وإذا كانت توقعاتهم سيئة تجاه النمو – وبالتالي مرتباتهم – فسيقللون من شرائهم لهذه المنتجات.
وهكذا تعمل هذه المؤشرات على قياس أمور تؤشر على مستقبل الاقتصاد، ولكنها نهاية مؤشرات لا أكثر، فهي ليست دائمًا صحيحة وصادقة، وقد تخطئ في تقديرها، وقد تبدأ بالانخفاض بشكل كبير أو صغير ثم تعود للارتفاع لاحقًا.
وكوننا سنقتصر هنا على الاقتصاد الأمريكي لنفس الأسباب المشروحة سابقًا – أهمية الاقتصاد وتوافر البيانات – فإن الاقتصاد الأمريكي يوفر مؤشرًا ممتازًا لمجموعة من المؤشرات «القائدة Leading» للاقتصاد، والتي تظهر لنا مستقبله؛ وهو المؤشر الصادر عن مؤسسة بحثية أمريكي تعرف باسم «The Conference Board».
وتستخدم هذه المؤسسة 10 مؤشرات قائدة مختلفة، وتنتج منها مؤشرًا واحدًا لاستقراء مستقبل الاقتصاد القريب، والواضح أن هذا المؤشر وصل إلى أفضل حال له في شهر أبريل 2022، ثم بدأ بالانخفاض في الشهرين التاليين، وبشكل متزايد أيضًا.
ويمكننا فهم ما يعنيه هذا المؤشر بالقول إنه ولكون هذا المؤشر يسبق حصول الركود نفسه، وعادة بستة أشهر – بشكل تقريبي – فإن المؤشر يقول إن الركود قد يبدأ في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الحالي؛ وهو يعني أن الركود لم يحصل بعد، وأن ما حصل سابقًا لم يكن إلا ممهدًا للركود الحقيقي الذي يرجح المؤشر حصوله في نهاية العام.
أخيرًا تحاول المؤسسات البحثية تعديل توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي في المستقبل بناء على هذه المؤشرات المستقرئة للمستقبل؛ ولذلك فإن هذه المؤسسة البحثية خفضت توقعاتها للناتج الحقيقي من 2.3% إلى 1.7% للعام الحالي، وإلى 0.5% من 1.8% للعام القادم.
وإذا أضفنا ذلك إلى ما تقوله بيانات الناتج المحلي الحقيقية للربعين الأولين من العام الحالي، وكونهما سالبين؛ فهذا يعني أن النصف القادم من العام الحالي يجب أن يحمل نموًا حقيقيًا كبيرًا لتحقيق هذه النسبة المتوقعة، ولكن المؤسسة تقول إن الركود سيبدأ في النصف الثاني من العام الحالي؛ وغالبًا في نهايته؛ ولذلك فقد تكون توقعاتها – رغم كونها سلبية – مفرطة ولو قليلًا في التفاؤل للأسف.
وهذا يقودنا إلى الأمر الأخير في هذا التقرير؛ وهو ما تعكسه دراسة مجلة «Wall Street Journal» التي تستقرئ توقعات الاقتصاديين عن مستقبل الاقتصاد القريب؛ والتي تظهر أن الاقتصاديين كانوا يتوقعون حصول الركود بنسبة 18% فقط في يناير (كانون الثاني) 2022، ولكنهم أصبحوا يتوقعون الركود بنسبة 49% في يوليو (تموز) 2022.
وهذه النسبة مطابقة لما كانت عليه في شهر فبراير 2008؛ عام بدء الأزمة المالية العالمية، قبل أن ترتفع توقعاتهم إلى أكثر من 60% بعد شهرين فحسب؛ وتصل إلى 100% في نهاية العام، ليتحقق الانكماش بالفعل في عام 2009، بينما مر عام 2008 بنمو ضعيف، لكن دون تحقيق معدل نمو سالب.
ولكن المجلة تقول إن الاقتصاديين عادة ما يخطئون في تفاؤلهم بقدرة الاقتصاد على خلق وظائف جديدة قبل حصول انكماش، وتشير المجلة أيضًا إلى تقديرات 40% من الاقتصاديين إلى حصول ركود مدته ستة أشهر أو أكثر، ولكنها تشير إلى أن معدل استمرار الركود في العقود السبعة الماضية كان أكثر بقليل من 10 أشهر؛ ما يعني أن هناك احتمالية أن الاقتصاديين ما يزالون مفرطين في التفاؤل عن مصير الاقتصاد.
ولكن معظم الاقتصاديين والمؤسسات المعنية ببحث الأمر وخلق التوقعات الاقتصادية يتوقعون ركودًا معتدلًا؛ وأقل أثرًا من الأزمة المالية العالمية لعام 2008، ولكن الوضع السياسي للعالم اليوم أكثر سوءًا بكثير من عام 2008، ولا يستبعد أن يحصل أمر ما يعقد المشهد أكثر، ويدفع بالأزمة الاقتصادية للتفاقم أكثر وأكثر؛ طبعًا مع بقاء احتمال عدم حصول الركود من أساسه، أو حصوله مع بقائه ركودًا معتدلًا لا أكثر؛ لكن المؤشرات الحالية غير مطمئنة كثيرًا بهذا الاتجاه.