يدّعي الحزب الديمقراطي أن الوجه السيئ للولايات المتحدة لا يظهر إلا في عهد سيطرة الحزب الجمهوري على البيت الأبيض، وقد جاءت سلوكيات الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب المتطرفة سياسيًا لتُعزّز هذا الادعاء لدى المتابع العادي، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها، خاصة بعد أن تسبّب في المظاهرات العنيفة التي اندلعت في مبنى الكابيتول الأمريكي في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، وكذلك حرمانه بعض الأمريكيين حقهم الانتخابي بهدف تعزيز فرصه الانتخابية، ناهيك عن تهديده بعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات، والذي ارتقى إلى درجة تهديد العملية الديمقراطية بأكملها في الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد عانت العديد من شعوب العالم من الآثار السلبية لفترة حكم ترامب، بما فيها الشعب الأمريكي، ولكن عند الحديث عن الوجه الأسوأ للولايات المتحدة، وهو سياساتها العسكرية، سنجد أن الحزب الديمقراطي كان دائمًا شريكًا مخلصًا للحزب الجمهوري في السياسات العدوانية، وبدون أصوات الحزب الديمقراطي داخل الكونجرس كان من المستحيل تنفيذ تمرير أسوأ سياسات الأمن القومي الأمريكي في العقدين الماضيين.
جورج بوش لحظة إعلان الحرب على العراق في 2003
فلو حاول الحزب الديمقراطي مقاومة رغبة بوش في شن حروبه العالمية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، بدلًا عن وقوف النائبة الديمقراطية عن كاليفورنيا «باربرا لي» وحيدة في الكونجرس ضد التفويض باستخدام القوة العسكرية، لكان شكل العالم قد تغيّر، ولتبدّل مصير العديد من شعوب العالم، كما أنه لو انضم باقي أعضاء الحزب الديمقراطي إلى السناتور «روس فينجولد»، النائب الديموقراطي من ولاية ويسكونسن، والذي صوّت ضد قانون باتريوت، لكان يمكن منع الحرب الأمريكية على العراق قبل أن تندلع.
في دراسته المنشورة على موقع «The Intercept» والتي جاءت بعنوان: «حزب الحرب: من بوش إلى أوباما، ومن ترامب إلى بايدن، العسكرة الأمريكية هي الموُحِّد الأعظم»، يرصد الصحافي والكاتب السياسي الأمريكي جيريمي سكاهيل كيف ساهمت سياسات الحزب الديمقراطي في تعزيز اتجاهات عسكرة السياسة الأمريكية، سواء من خلال الرؤساء الديمقراطيين بشكل مباشر، أو عن طريق دعم ومساندة الرؤساء الجمهوريين.
وسكاهيل هو أحد أهم المراسلين العسكريين والصحافيين الاستقصائيين في الولايات المتحدة، وهو ومؤلف كتابين كانا ضمن الأكثر مبيعًا على مستوى العالم: «الحروب القذرة: العالم ساحة معركة»، و«بلاكووتر: صعود جيش المرتزقة الأقوى في العالم»، وهو منْ قدّم تقارير وتحقيقات استقصائية للكشف عن أسرار الحروب التي اندلعت في أفغانستان، والعراق، والصومال، واليمن، ونيجيريا، ويوغوسلافيا، وفيما يلي نحاول استكشاف معالم السياسات العكسرية الأمريكية وصور مشاركة كلا الحزبين فيها.
حروب «11 سبتمبر» وتقنين «القتل المستهدف»
يُنظر إلى أحداث 11 سبتمبر 2001، وما تلاها من مغامرات عسكرية أمريكية، على أنها نقطة تحول في النظام العالمي بأسره، وهي كذلك بالطبع، ويبدو أن كل هذه الأحداث جاءت منسجمة مع رغبات وتطلعات إدارة جورج بوش الابن، والتي رغبت منذ يومها الأول في البيت الأبيض في تغيير النظام في العراق، ولكن المثير أن إرهاصات هذه الحقبة بدأت بشكل فعلي في عهد الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، والذي شنّ بانتظام – على مدار سنوات حكمه الثماني – هجماته العسكرية الجوية على العراق، بدعم جمهوري وديمقراطي داخل الكونجرس.
جورج بوش الأب، وأوباما، وجورج دبليو بوش، وبيل كلينتون، وجيمي كارتر
واستغلت إدارة بوش حالة الغضب الشعبي الناجمة عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتنفيذ أجندتها العسكرية، التي أيّدها الحزب الديمقراطي فيها عن طيب خاطر، بل منحها سلطات واسعة في الحرب والمراقبة، وعند وصول الرئيس الديمقراطي السابف باراك أوباما إلى البيت الأببض عام 2008 تصوّر الكثيرون أن الفرصة لاحت لتعديل مسار السياسة العسكرية الأمريكية المتطرفة، ولكن ما حدث كان العكس تمامًا.
فقد عملت إدارة أوباما على حماية وكالة المخابرات المركزية، والقادة العسكريين، وإدارة بوش بأكملها، من أية مساءلة قانونية عن جرائم الحرب والانتهاكات التي مارسوها خلال حروبهم وعملياتهم العسكرية منذ 2001، كما حشد أوباما المزيد من القوات الأمريكية في أفغانستان، ومكَّن كلًا من وكالة المخابرات المركزية وقيادة العمليات الخاصة المشتركة من الانخراط في عمليات «القتل المستهدف» العالمية الموسعة، وكذلك كثّف من ضربات الطائرات بدون طيار في كل من أفغانستان وباكستان، وأطلق حروبًا جوية في الصومال واليمن، وشن «حربًا كارثية» – وفقًا لتعبير سكاهيل – لتغيير النظام في ليبيا.
ولكن الإسهام الأهم لإدارة أوباما كان تطبيع «الاغتيال» باعتباره أداةً مقبولة، إن لم تكن مفضلة، في السياسة الأمريكية؛ إذ اعتمد أوباما بشدة على ضربات الطائرات بدون طيار، لدرجة أنها أصبحت سياسة خاصة به، وأكد علنًا حق الرئيس الأمريكي في تتبع واغتيال المواطنين الأمريكيين خارج حدود الوطن، عن طريق «القتل المستهدف»، إذا صنّفتهم الحكومة الأمريكية بأنهم «إرهابيون»، أو أنهم يُهددون الأمن القومي والمصالح الأمريكية، وهو تصنيف غامض يحتمل التأويل والتلاعب.
وبينما كانت الولايات المتحدة منخرطة بالفعل في مثل هذه العمليات منذ عقود أضفى أوباما الشرعية على مثل هذه العمليات، بعدما دافع عنها علنًا، وبحلول موعد خروج أوباما من البيت الأبيض كانت إدارته قد أسست ما يرقى إلى نظام قضائي موازٍ سري لتقنين عمليات القتل المستهدف والاغتيالات باعتبارها سياسة أمريكية طويلة الأمد.
تمويل الحروب بهدوء وإدانتها بصخب في العلن
مثّل وصول ترامب إلى البيت الأبيض صدمة كبيرة للمتابعين؛ إذ كان من الصعب تقييم سياسات ترامب قبل توليه منصبه؛ وذلك لأن رسائله وتصريحاته كانت تتعارض في كثير من الأحيان مع بعضها البعض، فتارة كان ينتقد الحروب الأمريكية في الخارج ويدعو إلى إنهائها فورًا، وتارة يتحدث عن محو دول بأكملها من الخريطة.
وخلال فترة حكمه لم ينحرف ترامب بعيدًا عن السياسات الأمريكية العسكرية التقليدية، وإن كان أكثر عدوانية بكثير من جيمي كارتر على سبيل المثال، لكنه يقع في مرتبة أدنى من بوش عندما يتعلق الأمر بعمليات القتل الجماعي العالمي؛ إذ لم يعتمد ترامب على العمليات البرية واسعة النطاق، والتي ميّزت سياسات بوش في العراق، ولكنه أظهر استعدادًا لاستخدام الجيش الأمريكي ووكالة المخابرات المركزية، لا سيما في مناطق الحرب غير المعلنة حيث أدارت قواته عمليات منتظمة خلّفت أعدادًا كبيرة من المدنيين.
دونالد ترامب
على عكس كافة رؤساء الولايات المتحدة السابقين، كانت خطابات ترامب بالغة الصدامية، ولكن حينما تعلق الأمر بسياسة الأمن القومي، فإنه عمل ضمن معايير الرئاسة الأمريكية الحديثة، بل حظي بالثناء على تلك السياسات؛ فحين ضربت الصواريخ الأمريكية مواقع تابعة للرئيس السوري بشار الأسد في أبريل (نيسان) 2017 (أي بعد أسابيع من توليه الرئاسة) أعلن النقّاد والمسئولين أن ترامب – منذ هذه اللحظة – «أصبح رئيسًا».
وألغى ترامب العديد من القواعد المتواضعة التي كانت تهدف إلى تقليل وفيات المدنيين في الضربات الجوية الأمريكية، وأعطى حرية أكبر للقادة الميدانيين والمسؤولين من المستوى المتوسط للسماح بمثل هذه الضربات، واستغنى عن سياسات أوباما «الزائدة عن الحاجة» للاعتراف بالوفيات الناجمة عن عمليات وكالة المخابرات المركزية.
ورغم ادعاء شخصيات من الحزب الديمقراطي على مدار أربع سنوات أن ترامب كان عميلًا روسيًا، وأخطر رئيس في التاريخ، فإن الحزب دعّم الميزانيات العسكرية الضخمة التي وضعها ترامب، وعارض أي تعديل على القوانين التي تطلق يد السلطات العسكرية الأمريكية في الداخل والخارج، كذلك انضم بعض الديمقراطيين البارزين إلى الجمهوريين من المحافظين الجدد في الأيام الأخيرة من رئاسة ترامب في محاولة لمنعه من إنهاء الحرب في أفغانستان، لذلك يمكن التأكيد على أن الأجندة الأساسية للحزب الديمقراطي فيما يتعلق بالمسائل العسكرية وقضايا الامن القومي تتفق إلى حدٍ كبير مع مثيلتها في الحزب الجمهوري، رغم الادعاءات الظاهرية والخطابية بخلاف ذلك.
بايدن من هندسة الغزوات الكبرى إلى تيكتيكات القتل الهادئ
لم يكن من الممكن النظر إلى الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن على أنه المُنقذ الذي سيُخلِّص البلاد من سوءات ترامب العسكرية، فبايدن هو ابن بار للمؤسسة السياسية الأمريكية، وأحد أكثر السياسيين تأثيرًا في تشكيل السياسة الأمريكية الخارجية للأمن القومي على السنوات الماضية؛ إذ كان لاعبًا أساسيًا في كارثتي أفغانستان والعراق، سواء على مستوى التأييد أو صياغة أجزاء كبيرة من قانون باتريوت، وكان بايدن أحد أكثر المدافعين المتحمسين عن العدوان الإسرائيلي وجرائم الحرب التي تُرتكب في حق الفلسطينيين، كما ساهم – بصفته نائبًا للرئيس – في تقنين السياسات الكارثية لأوباما.
جو بايدن
ورغم إتمام بايدن لعمليات الانسحاب من أفغانستان، في 30 أغسطس (آب) 2021، فإنه أوضح أن الولايات المتحدة ستستمر في استخدام ضربات الطائرات بدون طيار وغيرها من الأساليب العسكرية في البلاد، وقد اعترف أنه نفّذ هذا الانسحاب مُكرهًا؛ لأنه كان يرغب في التعامل مع أفغانستان بشكل مختلف، ولأنه يريد أن يُظهِر أن الولايات المتحدة تحترم اتفاقياتها الدولية.
وعلى جانب آخر تعهّد بايدن في وقتٍ مبكر من دخوله إلى البيت الأبيض بإنهاء كل الدعم الأمريكي للعمليات الهجومية في حرب اليمن، ولكن على أرض الواقع واصلت الولايات المتحدة دعم «حملة الأرض المحروقة» السعودية، من خلال التظاهر بأنها حملة دفاعية، بينما هي ليست كذلك على الإطلاق.
ولم تزل البحرية الأمريكية تدعم الحصار السعودي الكارثي لليمن، والذي خلّف أوضاعًا إنسانية مأساوية هناك، خاصة بالنسبة للأطفال، مع وجود 5 ملايين يمني على بعد خطوة واحدة من المجاعة والأمراض المصاحبة لها، بالإضافة إلى 10 ملايين آخرين على وشك دخول مرحلة الخطر تلك.
بعد أقل من عام من ولايتها وافقت إدارة بايدن على صفقات لبيع السلاح لما يقرب من 20 دولة، بما في ذلك مجموعة من الدول ذات السجلات السوداء في مجال حقوق الإنسان، كما دافعت إدارة بايدن عن حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وعقابها الجماعي لمواطني غزة خلال حملتها الأخيرة في مايو (آيار) 2021. واحتضن بايدن اتفاقات التطبيع «المخادعة» التي قام بها ترامب بين إسرائيل وبعض الدول العربية، وخلال هذه الفترة استمرت الأغلبية الكبيرة من الحزبين في الكونجرس في تأييد السياسات العسكرية لبايدن.
أمّا فيما يتعلق بالقضية الأهم والأخطر على مستوى السياسة العسكرية الأمريكية حاليًا، وهي قضية الصين، لا يفعل بايدن شيئًا سوى السير في مضمار السياسة الأمريكية العدائية تجاه بكين، والتي برزت بشدة في عهد ترامب، لا سيما لمواجهة تصرفات الصين في تايوان المتمتعة بالحكم الذاتي.
«نعم ونعم، عسكريًا. تعرف الصين وروسيا وبقية العالم أن لدينا أقوى جيش في تاريخ العالم. لا تقلق بشأن ما إذا كنّا سنفعل ذلك. ما يجب أن تقلق بشأنه هو ما إذا كانوا سيشاركون أم لا في أنشطة من شأنها أن تجعلهم يرتكبون أخطاءً فادحة» *بايدن في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، عند إجابته عن سؤال حول إمكانية مواجهة الولايات المتحدة للصين عسكريًا وما إذا كانت ستدافع عن تايوان.
ورغم التأكيدات الأمريكية بشأن خطورة السياسات العسكرية الصينية، من المثير أن الولايات المتحدة – على مدار العقد الماضي – قد أنفقت على الدفاع أكثر من: الصين، وروسيا، والهند، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، مجتمعين.
فالساسة الأمريكيون يبذلون قصارى جهدهم للتأكيد على الطبيعة العدوانية والمُهدِّدة لروسيا والصين على المسرح الدولي، لكن تظل الحقيقة أن الولايات المتحدة هي أكبر تاجر أسلحة في العالم؛ إذ وجد تقرير حديث صادر عن «معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام» أنه منذ عام 2011 زادت الولايات المتحدة بشكل كبير حصتها من مبيعات الأسلحة العالمية، وكذلك الحال بالنسبة لألمانيا وفرنسا (أعضاء حلف الناتو)، ولكن المثير أنه خلال نفس الفترة انخفضت صادرات الأسلحة الروسية والصينية.
فعلى الرغم من أن شعار بايدن الانتخابي كان «أمريكا عادت» (في إشارة إلى تجنب الانعزالية وعودة انخراط الولايات المتحدة في المسائل الدولية)، ولكن الحقيقة كما يرويها ويراها سكاهيل أن أمريكا لم تغادر قط؛ ففي عهد بايدن لن يكون هناك خروج كبير عن المسار التاريخي لعسكرة السياسة الأمريكية: ستستمر حروب الطائرات بدون طيار، وستتسارع وتيرة الحرب البادرة مع الصين في أوروبا وآسيا، وسيحتفظ بايدن بموقفه العدائي تجاه حركات اليسار، ومعظم حكومات أمريكا اللاتينية، ومنطقة الكاريبي.
حتى في قضية المناخ، ورغم تصريحاته الإيجابية، يستمر بايدن في انتهاج السياسات التي تعطي الأولوية لأرباح الشركات الكبرى والصناعات العسكرية على حساب مستقبل الكوكب، فالحقيقة الصارخة هي أن عسكرة السياسة الأمريكية تتفوق على أي خلافات سياسية بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري.