شرعت الصين في استثمار مليارات الدولارات في القارة الأفريقية من خلال مشاريع بنى تحتيّة عملاقة وقروض طويلة الأمد وإعفاءات من الديون، وفي حين يحذّر البعض ممّا أسموه «احتلالًا صينيًّا لأفريقيا» بغطاء اقتصاديّ؛ يفرض التنين الصيني وجوده بقوّة في الساحة الأفريقية ويوسّع نفوذه بخطى ثابتة للتغلغل في اقتصادات الدول الأفريقية والاستفادة من مواردها الطبيعية.
لكن ما يثير القلق من حالة التوافق بين التنين الصيني والقادة الأفارقة الغارقين في الفساد، إنّ هذا التعاون الاقتصادي بين الطرفين قد لا يخلو من غرض سياسي للصين في أفريقيا، مما يُهدد آفاق التنمية المستقبلية فيها، فيما ترى الصين أن استغلالها للموارد الأفريقية خاصة المعادن والطاقة ما هو إلا استثمار اقتصادي لا تحصل عليه بالمجان، وإنما تدفع فاتورته من ضخ أموالها في الدول الأفريقية على شكل قروض ومشاريع تنموية واستثمارات تُحقق لها النمو الذي رجته أفريقيا بعد سنوات عجاف من الاستعمار.
الصين في أفريقيا.. النفوذ والدوافع
شهد سبتمبر (أيلول) الحالي وحده العديد من التحركات الصينية المتسارعة في أفريقيا، ففيه أعلنت الصين عن أكبر مشاريعها الاقتصادية في القارة السمراء بقيمة إجمالية تصل 60 مليار دولار، وكذلك أعفت دولًا أفريقية محددة من سداد ديونها المستحقة لعام 2018، فالسودان وحدها أعفيت من ديونها المتراكمة منذ العام 2015 وحتى العام 2018، كما عقد في ذات الشهر المنتدى الاقتصادي الصيني الأفريقي السابع (فوكاك) الذي حضره مسؤولون من 53 دولة أفريقية.
هذه التحركات لم تكن مفاجئة على الجهود الصينية الآخذة بالتزايد في أفريقيا، وبالاستعانة بالأرقام يمكننا القول إن أفريقيا التي يبلغ عدد سكانها حاليًّا أكثر من 1.7 مليار نسمة بلغ حجم تجارتها مع الصين 154.57 مليار دولار خلال الفترة من يناير (كانون الثاني) إلى نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، بزيادة قدرها 14.8% على أساس سنوي، وهي الأرقام التي نقلت الصين لتكون الشريك التجاري الأول للقارة الأفريقية بعد ما يقرب من عقد من الزمن، إذ زاد مؤخرًا حجم التبادل التجاري بين البلدين أربعة أضعاف حجم التجارة بين الولايات المتحدة وأفريقيا.
ووصل الأمر لحد امتلاك المؤسسة الوطنية للنفط في الصين حصصًا ضخمة في أفريقيا، تصل إلى 40% من مؤسسة النيل الأعظم للنفط، التابعة للحكومة السودانية، واستثمرت الصين مليارات الدولارات في مشاريع البناء والبنية التحتية والطاقة في كل بلد تقريبًا في القارة.
وحسب التقرير الصادر عن «المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية» فإن: «بكين تدير حوالي 2500 مشروع تطوير وأعمال مدنية ومشاريع إنشائية بقيمة 94 مليار دولار في 51 دولة أفريقية»، ويضيف التقرير: «في عام 2009، تجاوزت الصين الولايات المتحدة باعتبارها أكبر شريك تجاري لأفريقيا، وبحلول عام 2015، بلغت تجارة الصين مع أفريقيا 300 مليار دولار»، ولا يقتصر الجهد الصيني في أفريقيا على التغلغل الاقتصادي، فبكين تعمل على استخدام أدوات قوة ناعمة ثقافية ودبلوماسية، فهي تمنح الطلبة الأفارقة فرصة جيدة للدراسة في الصين، كما تأتي إليهم في عقر دارهم فتنشر معاهد كونفوشيوس لتعليم اللغة الصينية في المدن الأفريقية.
وفي قراءة لدوافع المضي الصيني نحو أفريقيا، يمكن القول إن الصين تنظر بأهمية لهذه القارة، فهي توفر 10% من الاحتياطات العالمية من النفط، و8% من احتياطات الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى أنها تنتج 80% من بلاتين العالم، وأكثر من 40% من ماسه، و20% من الذهب والكوبالت، وبما أن الموارد الطبيعية لأفريقيا تشكل الدافع الرئيس نحو استغلال القارة من قبل الصين، فالظروف الاقتصادية للقارة أيضًا تسهل مهمة الصين، فما يقارب من 47% من سكان الدول الأفريقية يعانون من الفقر، وتصل نسبة البطالة بين سكان هذه الدول إلى 70% من القوى العاملة في جنوب الصحراء.

صينيون يعملون في أفريقيا
بالإضافة إلى المنافع الاقتصادية والسياسية التي تستهدفها الصين من تركيزها على أفريقيا، تهدف الصين إلى «تبيض وجهها» وتلميع سمعتها الدولية لتخفيف حدة التغطية الإعلامية السلبية ضدها في قضايا كقمع تيانانمين ووضع دلاي لاما.
ولا يمكن تجاهل الأهمية الدبلوماسية التي قد تمنحها الصين للدول الأفريقية، فهي تحظى بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن، أي تمتلك امتياز استخدام الفيتو لصالحهم، حتى تضمن مساندتهم في قضاياها، مقابل منحهم القروض الميسرة، والتسهيلات الائتمانية ومشروعات التنمية والبنى التحتية.
يقول الأمين عبد الرزاق آدم في كتابه «الصين في أفريقيا.. حسابات الربح والخسارة» أن تعاون الصين مع نظم دكتاتورية وقمعية في أفريقيا أفشل جهود نشر الديموقراطية، وحسب الكتاب الذي تناول علاقات القارة السمراء بالصين منذ العام 1950 وحتى 2010، فالصين قدمت لدول مع القروض الميسرة أسلحة واستثمارات مكنتها من مقاومة رياح التغيير، فـ«الفائض المالي الناتج عن علاقات الصين بهذه الأنظمة لا يتجه إلى رفاه الشعب، وإنما لاستجلاب مزيد من السلاح لاستدامة الاستبداد»، حسب الكتاب.
هل تقع أفريقيا في «استعمار جديد» بفعل الديون الصينية؟
شهد مايو (أيار) 2017 افتتاح أحد أهم المشاريع التي يمكن أن تخدم سكان كينيا، إنه خط السكة الحديدية القياسي الذي تم بناؤه وتمويله من قبل الصين، والذي يوصل العاصمة مع مدينة مومباسا الساحلية.
في الظاهر أن هذا المشروع الذي يعد أكبر مشروع في تاريخ البلاد، والبالغ تكلفته 3.2 مليار دولار يبدو موفرًا للمزيد من فرص العمل والتوظيف، وسيعمل على تطوير الاقتصاد الكيني، لكن يرى بعض الخبراء أنه كان من الأولى أن يتم الاستغناء عنه مقابل تجديد الخط الحالي لتوفير الكثير من المال، إذ إن كينيا دفعت للصين ثلاثة أضعاف المبلغ اللازم لتجديده، ولذلك ينضم هذا المشروع لمجموع مشاريع البنية التحتية التي زادت بسببها مشكلة الديون المتصاعدة للاقتصادات الأفريقية، فمن الموانئ في سريلانكا إلى السكك الحديدية في كينيا، هناك العديد من المشاريع التي تمولها الصين بالديون، حتى أصبحت الصين واحدة من أكبر المستثمرين عبر الحدود في العالم وأكبر ممولي البنية التحتية.
وبينما يرحب العديد من القادة الأفارقة باستثمار الصين في البنية التحتية، يظهر استطلاع أن 63% من المواطنين الأفارقة يرون تأثير الصين إيجابيًا، هذا الاستطلاع تعزو نتائجه الإيجابية إلى استثمارات الصين في البنية التحتية الأفريقية بشكل كبير.
لكن في المقابل، أضحت هذه الدول بشكل مفرط مدينةً للصين، وما دمنا نتحدث عن أحد المشاريع في كينيا، فينبغي الإشارة إلى أن هذا البلد الأفريقي بلغ دينه 50 مليار دولار، 72 % من قيمة هذا الدين مستحقّ للصين وحدها، وتحذو العديد من الدول حذو كينيا في استنزاف مشاريع البنية التحتية لأموالها مؤجلة الدفع، فالسنغال اقترضت لبناء الطرق السريعة والمجمعات الصناعية ومشاريع البنية التحتية الأخرى مبلغًا بقيمة 1.6 مليار دولار، فيما حصلت جيبوتي على قروض بقيمة 1.1 مليار دولار لتطوير مينائها البحري وبناء خط سكة حديد إلى أديس أبابا.
مسألة توظيف العمالة المحليّة تبقى أيضًا من بين المشاكل التي يطرحها التواجد الصيني في أفريقيا، فـقد استخدمت الشركات الصينية عمالة محلية أقل من الشركات الأخرى، واعتمدت على جلب الكثير من الصينيين للعمل في البنية التحتية الأفريقية، وذلك في وقت تعاني الدول الأفريقية من بطالة مرتفعة، إذ يعيق التدهور الاقتصادي للدول الأفريقية عملية سداد ديونها، ولذلك يستمر تراكم الديون التي تخطت حاجز 400 مليار دولار ، فيما بلغت نسبة خدمة الديون من 35% إلى 60% من الناتج المحلي الإجمالي.
ولا يمكن تجاهل أن الصين تعتمد سياسة تنموية مدفوعة، فالصين ما بين عامي 2000 و2014، قدمت مساعدات تقليدية حوالي 75 مليار دولار، فيما كانت القروض المشروطة بالفوائد حوالي 275 مليار، وتشير الأرقام إلى أن الصين قدمت حوالي 400 مليار يوان (58 مليار دولار) في مساعدات التنمية إلى 166 دولة ومنظمة دولية على مدى العقود الستة الماضية، ويمكننا هنا الاستشهاد بتسليم سريلانكا ميناء هامبانتوتا البحري رسميًا إلى الصين بموجب عقد إيجار مدته 99 عامًا في أواخر عام 2017، وهو عقد يجعل امتلاك الصين للميناء يقوض سيادة البلاد.
وفي حين تؤكد المصادر الغربية أن الصين تعمل بشكل متزايد على إنفاذ الملكية شرطًا في حالة عدم قدرة البلد المتلقّي على تسديد القروض، تحاول بكين الدفاع عن نفسها، فأكدت في أكثر من فرصة أن سياسات الإقراض خاصتها غير مرتبطة باعتبارات السياسة، وأنها تعمل على تعزيز الاستقرار واحترام حقوق الإنسان في أفريقيا بالتنمية، واعتبر المسؤولون الصينيون مثل هذه الادعاءات ضربة سياسية، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية غانغ شوانغ إن: «دين بعض الدول الأفريقية هو نتيجة تراكم طويل الأمد وليس حديث الظهور، والصين ليست المقرض الرئيسي للدول الأفريقية، بذلنا قصارى جهدنا لتجنب إثقال كاهل أفريقيا بالدين».
وسط انزعاج أمريكي.. أفريقيا ساحة لأولى القواعد العسكرية الصينية
في أغسطس (آب) 2017، افتتحت الصين رسميًا أول قاعدة عسكرية خارج حدودها، لقد كانت هذه القاعدة في جيبوتي، الدولة التي تمتلك فيها الولايات المتحدة منشأها العسكري الاستراتيجي، قاعدة «كامب ليمونير» الأمريكية. هذه الخطوة التي أتت في إطار سعي بكين لمنافسة الأمريكيين في نفوذهم العسكري في القارة السمراء أقلقت الإدارة الأمريكية، فاعتبروها «غزوة عدوانية» للصين، وعلامة متنامية على طموحات الصين في جميع أنحاء أفريقيا.
فيما يتعلق بجيبوتي، النقطة المحورية للقلق الأمريكي، كانت حسب دراسة أعدها مركز التنمية العالمية (CGD) رقم واحد في قائمة الدول الأفريقية الثمانية المعرّضة بشكل خاص لديون مستحقّة للصين، إذ ارتفع الدين العام لجيبوتي في العامين الأخيرين من 50% إلى 85% من الناتج المحلي الإجمالي، ومعظم هذه الديون مستحق للصين، لذلك تنظر واشنطن لهذا الدَين بأنه يأتي ضمن النفوذ السياسي للصين على الدول الأفريقية الفقيرة، ومع إنشاء قاعدة عسكرية صينية قريبة من القاعدة الأمريكية في جيبوتي يبدو أن الوضع دخل في مستوى جديد من التأهب ينقل قلق واشنطن من السيطرة الاقتصادية الصينية إلى مس قضية الأمن القومي لها.
فحسب المصادر الأمريكية التي ترى الصينيين منذ 2015 ثاني أكبر مزوّد للأسلحة في أفريقيا بعد روسيا، أضحت العمليات العسكرية الصينية في جيبوتي تهدد الأنشطة العسكرية الأمريكية، وقد أعربت واشنطن عن تخوفها من سيطرة الصين على ميناء دوراليه، الأمر الذي يعني سهولة تقيد استخدامه من قبل الأمريكيين، لكون سفن البحرية الأمريكية تعتمد على الميناء للتزود بالوقود، وبشكل عام يهدد الوجود الصيني في أفريقيا الولايات المتحدة التي يتواجد يفها ما يقرب من 6500 جندي أمريكي، يقومون بتدريب القوات المتحالفة المحلية.
وعكفت واشنطن على التحذير من النشاط التجاري الصيني في أفريقيا، وقالت إنّه يهدد استقلال دول القارة، ويحض على تبعيتها لبكين، واعتبرت أن الاستثمارات الصينية مهمة لتنمية أفريقيا وتعزيز بنيتها التحتية، لكن ذلك دفع أفريقيا إلى هاوية الديون بدرجة رهيبة، ولذلك قال وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون: «خلال هذه الفترة قدموا ديونًا ملغمة وقاموا بالفساد ودخلوا في اتصالات خطيرة».
ورغم إعلان واشنطن حالة الطوارئ تجاه النفوذ الصيني في جيبوتي على سبيل المثال، إلا أنها لم تضع استراتيجية لمعالجة طموحات الصين في أفريقيا، بل يبدو أن إدارة ترامب ماضية نحو تقليص حجم المساعدات المقدمة للبلدان الأفريقية تحت ذريعة اعتماد مبدأ تعزيز التجارة والاستثمارات في أفريقيا بدلًا من سياسة المساعدات والمعونات، إذ لم يعبأ ترامب بالتحذيرات الأمريكية التي أكدت أن ذلك يشكل خطرًا على المصالح الحيوية الأمريكية في أفريقيا.
التنين الصيني نحو إحكام الخناق على أفريقيا
هنا رجل (شي جين بينج) يمثل بلدًا كانت تسمى في يوم من الأيام فقيرة، وهي دولة لم تكن مستعمرة لنا أبدًا، يفعل لنا ما توقعنا من الذين استعمرونا أمس القيام به.
هذا ما قاله رئيس زيمبابوي آنذاك روبرت موغابي بعد توقيع اتفاقيات اقتصادية مع الصين.
تريد الصين أن يراها الجميع كما يراها رئيسها شي جين بينج، أن تظهر فقط كمن يسعى لتمكين شركائها وخدمة الطرف الآخر، لكن الحقيقة أن الوجود العسكري الصيني السريع في أفريقيا مصمّم لتحصين نفوذ بكين السياسي والاقتصادي، وتقويض الوجود الأمريكي، فالصين التي حطت في الدول التي عاني اقتصادها من التبعية السياسية والاقتصادية للاستعمار الكلاسيكي، دفعت نحو أفريقيا على الأقل جزئيًا من المصالح الذاتية، وعلى رأسها حماية حقول النفط، ثم انطلقت لاختبار سياسة خارجية جديدة تمكنها من حماية مصالحها الخارجية، وتحقيق نفوذها في شؤون الأمن الدولي، فالتوسع التجاري والسيطرة على اقتصاد العديد من الدول النامية من وجهة نظر بكين، يحول الصين إلى حلقة حاكمة في السياسة الدولية.
ولتحقيق المزيد من الأهداف السياسية، ركزت الصين في مشاريعها التنموية على المناطق التي يعيش فيها القادة الأفارقة التي تتهم حكوماتهم بالفساد، من أجل استغلال أوضاع هذه البلدان وتجنّب الرقابة القضائية على نشاطاتها، والتدخل في الشؤون السياسية، وهي بسبب ذلك قد اتخذت من إرهاق الدول الأفريقية بالديون وسيلة لخلق آلية النفط مقابل المشروعات، ولجعل الدول الأفريقية رهينة لإمداد نفطي دائم، وامتلاك أراض استثمارية واسعة، ليبدو أن الصين ماضية بخبث نحو حماية وإحكام الرباط الخانق الذي تضعه أمريكا والدول الأوربية حول رقاب الرؤساء الأفارقة، ولا تهدف لتخليصهم منه نهائيًا كما تدّعي، وذلك بغية الاحتفاظ بهم تحت رحمتها، حتى تحصل على ما تريد بسهولة.