فيما اعتبره البعض أول اختبار حقيقي أمام مشروع رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، لتحويل إثيوبيا إلى بلد ديمقراطي مستقر، في نموذج يحتذى به داخل القارة السمراء، شهد إقليم أوغادين (الصومال الغربي) – أحد أقاليم إثيوبيا التسعة – توترات كبيرة خلال الأسابيع الماضية، وتصاعدت فيه الاضطرابات إلى الدرجة التي اضطرت الحكومة المركزية في أديس أبابا للدفع بالجيش لضبط الأوضاع؛ وهو ما ألقى ظلالًَا من الشك حول إمكانية تحقيق «حلم آبي» بتلك السهولة التي بدت بها الأمور للوهلة الأولى.
تسلط السطور القادمة الضوء على قضية إقليم أوغادين، وكيف كان على الدوام أحد مصادر عدم الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، كما نستعرض الأزمة الأخيرة التي عصفت بالإقليم، ومدى تأثيرها على المسار الإصلاحي الذي دشنته الحكومة الإثيوبية الحالية.
«كعكة» أوغادين من نصيب أديس أبابا
أدى الصراع بين القوى الإمبريالية على منطقة القرن الأفريقي إلى انعقاد مؤتمر برلين عام 1884، والذي أفضى إلى تقسيم «الصومال الكبير» إلى خمسة أقسام؛ فسيطرت بريطانيا على المنطقة الواقعة حاليًا في شمال الصومال وشرق كينيا، وسيطرت إيطاليا على الصومال الجنوبي، فيما كان الجزء الشمالي الغربي – جيبوتي حاليًا – من نصيب فرنسا، أما المنطقة الغربية من الصومال، والتي تعرف باسم منطقة «أوغادين» فقد كانت مع حلول نهاية القرن التاسع عشر من نصيب الإمبراطورية الإثيوبية.
في الحقيقة، لطالما كانت منطقة أوغادين – التي تعرف باسم «الصومال الإثيوبي» – في قلب المطامح الإمبراطورية الإثيوبية، التي نجحت بقيادة منليك الثاني في هزيمة الإيطاليين عام 1896 في معركة عدوة – فيما عُد الهزيمة الأولى لقوة أوروبية في أفريقيا خلال الحقبة الاستعمارية – وأجبرت إيطاليا على التقهقر شرقًا؛ لتحتفظ إثيوبيا بالسيادة على أوغادين حتى عام 1935 حينما شنت إيطاليا غزوًا موسعًا على أوغادين؛ فسيطرت عليها قبل أن تضم إثيوبيا نفسها بعد ذلك إلى ما عُرف بمستعمرة «شرق أفريقيا الإيطالية». لكن الانهيار الإيطالي في الحرب العالمية الثانية قد نقل السيادة على أوغادين إلى بريطانيا حتى العام 1948، قبل أن تعود مجددًا إلى السيطرة الإثيوبية.

خريطة أوغادين – المصدر: الجزيرة نت
غير أن الأوضاع لم تستقر لإثيوبيا في الإقليم الذي ظلت قلوب أغلب أهله معلقة بالصومال، ونال الاستقلال بدوره عام 1960، ومنذ ذلك الحين بدأ الحكم الأثيوبي يئن تحت ضربات «جبهة تحرير الصومال الغربي»، والتي بدأت في شن حرب عصابات ضد القوات الإثيوبية المرابضة في أوغادين. وفي عام 1977 دفع الصومال الذي كان تحت حكم الجنرال محمد سياد بري بـ50 ألف جندي للسيطرة على أوغادين، وبحلول نهاية العام كان الصوماليون قد سيطروا على الغالبية العظمى من أراضي الإقليم وسط دعم ملحوظ من السكان.
أمام السيطرة الصومالية على أوغادين، نجح النظام العسكري الشيوعي الوليد بإثيوبيا في استجلاب العون من الاتحاد السوفيتي، الذي رفع غطاء دعمه عن الصومال مقابل وقف الحكومة الإثيوبية تعاونها مع الولايات المتحدة، نجح هذا التحول الدولي في قلب المعادلة، وانهالت المساعدات من الدول الشيوعية على إثيوبيا، (وبخاصة من كوبا، وكوريا الشمالية، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، أي: اليمن الجنوبي)، وبحلول مارس (آذار) 1978 كانت أديس أبابا قد نجحت في طرد القوات الصومالية والميليشيات المتحالفة معها، وتمكنت من إعادة بسط السيطرة على الإقليم.
شعب أوغادين يأبى الاستسلام
منذ ذلك الحين والإقليم يقع تحت السيادة الإثيوبية، وهو يعرف بالإقليم الخامس ضمن التقسيم الإداري لدولة إثيوبيا، وسكان الإقليم – الذين لا توجد إحصاءات مؤكدة حول أعدادهم، لكن التقديرات تتحدث عن حوالي 7 ملايين نسمة – ينتمي أغلبهم إلى الأعراق الصومالية، ويشتركون بروابط قبلية وثيقة مع الصوماليين، ويتحدثون اللغة الصومالية، كما يدين معظمهم بالإسلام الذي وصلهم قديمًا عبر التجار العرب من الحضارمة واليمنيين، ومما يزيد من ارتباط سكان أوغادين بالصومال ما خلفته الحرب الإثيوبية – الصومالية من أعداد ضخمة من اللاجئين (بلغ عددهم نحو 1.5 مليون لاجئ، غالبيتهم من النساء والأطفال) نزح معظمهم إلى الصومال.
وإلى جانب الرغبة التقليدية لإثيوبيا في التوسع شرقًا بهدف الوصول إلى البحر والتغلب على عقدة كونها حبيسةً بلا منفذ على العالم، وتعاظمت أهمية الإقليم بعد الكشف عن الثروات الطبيعية التي يمتلكها من الغاز الطبيعي والنفط الخام، فقد قدرت شركة «بولي – جي سي إل» (وهي شركة حكومية صينية منحتها الحكومة الإثيوبية حق التنقيب عن النفط في بعض المناطق، ومن بينها أراضي أوغادين) احتياطات الغاز الطبيعي التي يملكها الإقليم بحوالي 8 تريليون قدم مكعب؛ الأمر الذي يشكل ثروة هائلة، وتتوقع إثيوبيا أن تحصل على أكثر من مليار دولار من تصدير الغاز الطبيعي بتلك المنطقة في أول عام من عملية الإنتاج التي تم تدشينها في أبريل (نيسان) الماضي.
ظلت أوغادين مصدرًا للاضطراب وعدم الاستقرار في إثيوبيا؛ فشعبها يعتبر نفسه امتدادًا لشعب الصومال، وفي عام 1984 تشكلت «الجبهة الوطنية لتحرير أوغادين» التي عُدت امتدادًا لـ«جبهة تحرير الصومال الغربي»، ورفعت الجبهة – التي ترفض حتى أن توصف بأنها (صومالية إثيوبية)، وتؤكد أنها منظمة صومالية خالصة – راية «الكفاح ضد المحتل الإثيوبي»، وقد تصاعد التوترات في الإقليم مع الغزو الإثيوبي للصومال عام 2006، وفي العام التالي – أبريل 2007 – صعدت الجبهة من نشاطها بمهاجمة إحدى منشآت التنقيب عن النفط، في هجوم راح ضحيته 74 شخصًا (65 إثيوبيًا، وتسعة صينيين)؛ وهو ما أدى إلى رد فعل إثيوبي عنيف بحق الإقليم وسكانه.
وإلى جانب رفضهم لقيام السلطات الإثيوبية بالتنقيب عن النفط أو الغاز في أوغادين، واعتبار ذلك «استغلالًا» غير مشروع، ونهبًا لثروات الإقليم، فقد ظل سكان أوغادين يشتكون من الممارسات التمييزية بحقهم من قبل السلطات الإثيوبية، ويشتكون من التهميش والاستبعاد، (وهو ما كانت تعاني منه تقريبًا كل الأعراق في إثيوبيا التي تتكون من نحو 100 مجموعة عرقية؛ إذ كانت تسيطر على مقاليد السلطة فيها منذ عشرات السنين أقلية التيقراي)، وبحسب تقارير حقوقية فقد أدت هجمات القوات الإثيوبية إلى نزوح عشرات الآلاف من السكان إلى كينيا أو الصومال، وتصف بعض التقارير ممارسات الحكومة الإثيوبية بحق سكان الإقليم بأنها «جرائم حرب» أو جرائم ضد الإنسانية».
مسار الأزمة الحالية.. هكذا انفجر «برميل البارود»
على مدار الأسابيع الماضية، كان إقليم أوغادين مسرحًا لاضطرابات واسعة راح ضحيتها عشرات القتلى؛ إذ اندلعت مظاهرات معارضة لرئيس الإقليم عبدي محمود عمر، وهو الذي يتهم بارتكاب انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في حق أبناء الإقليم، كما يتهمه بعض أبناء الإقليم بأنه موالٍ للحكومة الإثيوبية «المحتلة» – بحسبهم – على حساب أبناء قوميته. رفض عبدي عمر التنحي، وهو ما أدى إلى اضطرابات أمنية وأحداث عنف قررت الحكومة المركزية على إثرها إرسال قوات الجيش الفيدرالي إلى الإقليم لضبط الأوضاع، قبل أن يضطر عمر إلى التنحي في نهاية المطاف بعدما حاصرت قوات الجيش الإثيوبي مقر إقامته؛ ليجري بعد ذلك اعتقاله ونقله إلى العاصمة أديس أبابا.
ووفقًا للمتحدث باسم الحكومة الإثيوبية، فقد جاء اعتقال حاكم الإقليم بعدما «اعترض اجتماعًا لشيوخ القبائل والأعيان، وحاول إعلان انفصال الإقليم ورفض التنحي عن السلطة، وارتكب أخطاء تمس سيادة للدولة»، كان هذا في الوقت نفسه الذي سرت فيه أنباء عن نية «مجلس كبار السن» (برلمان الإقليم) مناقشة تفعيل المادة 39 من الدستور الأثيوبي، وهي المادة التي تعطي الأقاليم حق تقرير المصير، ولم يمنع دخول قوات الجيش الإثيوبي إلى مدينة جيجيغا – عاصمة الإقليم – التوتر؛ إذ استمرت الاضطرابات والاحتجاجات التي هتف من خلالها البعض «يسقط آبي»، في إشارة لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد.

احتجاجات مناصرة لأوغادين في جنوب أفريقيا
احتجاجات مناصرة لأوغادين في جنوب أفريقيا
كما اندلعت اشتباكات بين قوات الشرطة المحلية التي تدعى «شرطة ليو» (وهي ميليشيات شبه عسكرية أنشأتها الحكومة الفيدرالية تعمل كحائط صد محلي ضد جبهة تحرير أوجادين وضد تمدد حركة الشباب المجاهدين الصومالية) وبين قوات الجيش الإثيوبي، وهو ما اعتبره البعض مثل «انقلاب للسحر على الساحر»، حيث ينظر إلى «شرطة ليو» باعتبارها موالية لرئيس الإقليم المعزول الذي حكم أوغادين مدة ثماني سنوات كاملة، ومن المفارقات أن «جبهة تحرير أوغادين» نفسها قد أصدرت بيانًا تدعو فيه للتهدئة ووقف القتال بين القوات الفيدرالية والشرطة المحلية، رغم أن الجبهة كانت، ولسنوات طويلة مضت، تناصب الطرفين العداء.
وكان نحو 40 قتيلًا من عرقية الأورومو قد راحوا ضحية هجمات شنها مقاتلون في إقليم أوروميا المجاور، والذي يتمتع بحدود مشتركة مع إقليم أوغادين (تكررت بين الحين والآخر اشتباكات بسبب نزاعات حدودية بين الإقليمين، وشهد عام 2017 اشتباكات مسلحة بين الطرفين كان من نتائجها نزوح الآلاف من السكان) كما تم استهداف بعض أبناء الأقليات غير الصومالية في الإقليم، وقد تم اتهام عناصر «شرطة ليو» كذلك في تلك الهجمات التي ربما جاءت كرد فعل غاضب من «شرطة ليو» على عزل عمر.
طريق الإصلاح مليء بالأشواك
بالنسبة للكثيرين فإن نظام الحكم الحالي في أديس أبابا برئاسة آبي أحمد يمثل فرصة واحدة لتحويل إثيوبيا إلى «جنة» حقيقية، يمكن أن تصبح مضرب المثل في القارة السمراء، فعلى مدار شهور قليلة منذ وصوله إلى منصبه، عمل آبي أحمد على تفكيك عرى الدولة السلطوية في إثيوبيا؛ فأطلق سراح المعتقلين السياسيين، وخفف القيود على حرية الصحافة، وانتهج سياسة أكثر توافقًا مع حقوق الإنسان.
وعلى صعيد السياسة الخارجية تمكن أحمد من إنجاز مصالحة «تاريخية» مع الجارة إريتريا، طوى خلالها صفحة عقود من الحرب والدماء بين الجانبين، من الطبيعي إذًا أن يعلو سقف التوقعات من آبي أحمد ونظامه، وأن يأمل الكثيرون في أن يتمكن الرجل أخيرًا من إيجاد حل للعلل المزمنة التي تنهش في جسد الأمة الأثيوبية، وفي مقدمتها مسألة «الصومال الغربي» (إقليم أوغادين).
وتظهر مؤشرات على رغبة إثيوبية حقيقية في معالجة القضايا العالقة، ومن أبرزها قرار البرلمان الإثيوبي في يوليو (تموز) الماضي بشطب اسم «الجبهة الوطنية لتحرير أوغادين» من قائمة المنظمات الإرهابية، فيما نظر إليه كبادرة حسن نية من الحكومة تجاه الإقليم، وقد ردت الجبهة في 13 أغسطس الجاري بإعلان وقف إطلاق النار من جانبها «لإتاحة المجال للجهود السلمية لحل الأزمة»، وذلك في استجابة لدعوة رئيس الوزراء آبي أحمد للمشاركة في الجهود الرامية لتسوية مشكلة الإقليم.
لكن، وبرغم بوادر «حسن النية» هذه من الطرفين، فإن أحداث الأسابيع الماضية التي شهدها الإقليم تسلط الضوء على الصعوبة الهيكلية للمهمة الملقاة على عاتق النظام الإثيوبي الحالي، فوفقًا للخبير في الشأن الأفريقي، الدكتور حمدي عبد الرحمن، فـ«الداخل الإثيوبي بتعقيداته وتشابكاته المتنوعة سوف يمثل أكبر تحدٍ للنظام الحاكم في أديس أبابا، فقرار نشر الجيش في الإقليم الصومالي يمثل رسالة للأقاليم الأخرى، ولاسيما التيقراي التي قد تهدد بخيار الانفصال إعمالًا للنص الدستوري».
ويستطرد عبد الرحمن في تحليله للأزمة الحالية في الإقليم بمنشور له عبر حسابه على «فيسبوك» :«يأتي الإعلان عن استقالة الرئيس محمود عبدي، سيئ السمعة، واحتمال أن يخلفه وزير مالية الإقليم أحمد عبدي، ليؤكد أن رئيس الوزراء الإصلاحي آبي أحمد لن يضحي بخيار الوحدة، وإن اضطر لتبني خيارات تسلطية قديمة».