على صفحات مجلة «أخبار لندن» المصورة «The Illustrated London News» بتاريخ 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 1920، ظهرت خرائط وصور أرشيفية لأول مرة تشير إلى وجود مدينة «باريس الوهمية»؛ المدينة الزائفة التي أرادت بها فرنسا خداع الألمان خلال الحرب العالمية الأولى، فما قصة هذه المدينة؟ وهل كان هناك مدن زائفة أخرى غير باريس الوهمية؟

«باريس الوهمية» تحمي باريس من قنابل الألمان

خلال الحرب العالمية الأولى، بدأ الألمان في قصف مدن كل من تسول له نفسه الوقوف أمام القوة الألمانية الغاشمة، واتجهت الأنظار إلى باريس، فقد كانت أقرب عاصمة إلى جبهات الحرب؛ مما يجعلها أسهل هجوم، حيث كان على القاذفات الألمانية أن تطير لمسافة 30 كم تقريبًا لتضرب المدينة.

تعرضت باريس للقصف الألماني لأول مرة في 30 أغسطس (آب) 1914، عندما ألقت طائرة ألمانية أربع قنابل على المدينة، ورغم قلة الخسائر، فإن حدة القصف ارتفعت فيما بعد، وظهر القصف الليلي، وفي مارس (آذار) 1915، استخدم الألمان مناطيد زبلين لشن هجماتهم، واستمر الحال حتى عام 1917.

منطاد زبلين الألماني

منطاد زبلين الألماني. مصدر الصورة: فليكر

خلال عام 1917، شهدت باريس فترة راحة، وتحولت ألمانيا إلى قصف إنجلترا، وأصبحت الأخيرة غارقة في وابل من القصف الألماني، رغم وجود صلة قرابة بين قيصر الرايخ الألماني فيلهلم الثاني، وملك إنجلترا جورج الخامس. أثار الأمر حيرة قادة باريس من أجل توفير الحماية لكل سكانها، في حال عادت القوات الألمانية لقصف المدينة مرة أخرى، وهنا تبلورت فكرة «باريس الوهمية».

وفقًا للأرشيفات التي كشفت عنها صحيفة «Le Figaro» عام 2011 احتفالًا بمرور 93 عامًا على الهدنة الأوروبية، فقد قررت السلطات الفرنسية خداع الطيارين الألمان عن طريق بناء مدينة طبق الأصل من باريس، لكن خارج حدود المدينة الأصلية؛ لتكون المدينة الجديدة المزيفة مكان سقوط القاذفات الألمانية المدمرة بدلًا من مدينة باريس الحقيقية، واستعان المخططون العسكريون بشركات خاصة للمساعدة في بناء المدينة المزيفة.

كانت هذه الفكرة قابلة للتنفيذ؛ لأن القصف الجوي كان حينها لا يزال غير دقيق، فلم تكن الطائرات قد جُهزت بالرادارات بعد، وكان الطيارون يعتمدون على ما تراه أعينهم، فإذا ما رأوا المدينة المزيفة التي تشبه المدينة الأصلية، فإنهم سيلقون عليها قنابلهم، ويبقى الباريسيون في أمان. وقد كانت المدينة الوهمية قريبة بما يكفي لإقناع المفجرين بأنها أصلية، لكنها بعيدة بما يكفي لدرجة حماية المدينة.

باريس الوهمية تقنع فقط من يراها من السماء

كان الاتفاق على تصميم المجسمات الكبرى من البلاستيك والخشب والقماش، وكان من المتوقع أن تكون مقنعة تمامًا لمن ينظر إليها من السماء وليس الأرض. اختار المخططون جزءًا يقع على نهر السين على بعد 24 كيلومترًا شمال باريس في بلدة ميزون لافيت لتشييد العاصمة المزيفة، والتي كانت تضم قوس النصر، ومحطة قطار غار دو نور، وشارع الشانزليزيه.

صورة من مجلة أخبار لندن المصورة تظهر فيها الأحياء الثلاثة المزيفة A2، وB2، وC

صورة تظهر فيها الأحياء الثلاثة المزيفة A2، وB2، وC. مصدر الصورة: مجلة «أخبار لندن» 

دعت الخطة في النهاية إلى بناء ثلاثة أحياء مزيفة تحاكي أحياء باريس. كان الحي الأول يقع في الشمال الشرقي من المدينة ويكون فيه محطة القطار، أما الحي الثاني سيكون في الشمال الغربي للمدينة على منحنى نهر السين، ويكون صورة لوسط مدينة باريس بالآثار الشهيرة هناك. أما الحي الثالث، فيقع في الشرق، ويكون فيه منطقة صناعية مزيفة.

لكن.. ماذا عن أضواء باريس؟

تعاقد الخبراء مع المهندس الكهربائي، فرديناند جاكوبوزي، لإضفاء وهج واقعي لباريس الوهمية. صمم جاكوبوزي نظامًا معقدًا من الأضواء الملونة، كما أعاد إنشاء تأثير التوهج الناعم للأضواء المنبعثة من خلف الستائر الثقيلة، والإضاءة المتحركة المنبعثة من داخل القطار المتحرك، والدخان الناتج من أفران العمل والمصانع، والأضواء الملونة لخلق تأثير الآلات التي تعمل في الليل، واستخدم الأضواء والأقمشة الشفافة لتقليد تأثير الضوء الساطع عبر الزجاج.

كذلك، استدعت السلطات عددًا من الفنانين لإضافة طبقة من الطلاء شبه الشفاف على الأسطح وتمويهها لتصبح شبيهة بالأسطح الزجاجية المتسخة، وتحريك القطار الخشبي على طول المسار ليبدو كما لو كان حقيقيًّا.

تفكيك المدينة لانتهاء الحرب

في عام 1918، وفي الوقت الذي أنجز فيه العمال بناء القطار المتحرك الوهمي وبعض المصانع، جاءت نهاية الحرب قبل الانتهاء من المشروع، وسرعان ما تحركت الحكومة لتفكيك مشروعهم السري وإخفاء المعلومات المتعلقة بوجوده.

تاريخ وفلسفة

منذ 3 سنوات
حصار باريس.. حين أُجبر الفرنسيون على أكل لحوم الفئران والضفادع

وبرغم عدم اختبار مدينة باريس الوهمية، فإن الجيش الفرنسي رأى حينها أنها ستكون وجهة بديلة جيدة لقنابل الألمان، وعامل حماية جيد للعاصمة الأصلية. وقد حصل فرناند جاكوبوزي على وسام فرنسا الأعلى، وسام جوقة الشرف، كما واصل كسب شهرة أكبر عندما جرى تركيب الأضواء الأولى في برج إيفل عام 1925.

باريس الوهمية ليست المدينة الزائفة الوحيدة

لم تكن مدينة باريس الوهمية التي أنشأها الفرنسيون هي المدينة الوحيدة الزائفة التي أُقيمت لأغراض عسكرية مؤقتة، لكن هناك العديد من تلك المدن، مثل:

1- مواقع نجم البحر.. أفخاخ بريطانية للقنابل الألمانية

لجذب قنابل الألمان بعيدًا عن المدنيين، بنى البريطانيون مناطق أفخاخ أطلقوا عليها «مواقع starfish»، لتحاكي المدن المحترقة من جراء قصف الألمان خلال الحرب العالمية الثانية. بنى البريطانيون المناطق على بعد عدة كيلومترات من المجتمعات المدنية التي قد تتعرض للهجمات الألمانية.

كانت الخطة البريطانية تهدف إلى إسراع فرق الطوارئ لإطفاء المناطق التي تشعلها قنابل الألمان بسرعة كبيرة، وتشعل حرائق أخرى بديلة في مناطق الأفخاخ، لتقتنع الموجات التالية للهجمات بأن هذا كان الهدف، ومن ثم يستمرون في إلقاء القنابل على المناطق المشتعلة، وهو ما يساعد على حماية المدنيين.

إحدى مناطق نجم البحر في بريطانيا

إحدى مناطق نجم البحر في بريطانيا. مصدر الصورة: موقع سانت مارغريتس

وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، كان هناك 237 موقعًا لنجم البحر تحمي 81 مدينة ومصنعًا وأهدافًا أخرى محتملة، بحسب صحيفة «ديلي ميل». وتقول الأرقام إن هذه المناطق قد استقبلت 730 غارة جوية ألمانية.

2- تمويه الساحل الغربي الأمريكي.. مصانع عسكرية أم أحياء سكنية؟

خلال الحرب العالمية الثانية، اتخذ الأمريكيون نهجًا مختلفًا، فقد بنوا مدنًا وهمية فوق الأماكن الإستراتيجية لحمايتها. ففي أعقاب الهجوم على بيرل هاربور في ديسمبر (كانون الأول) 1941، أخفى الأمريكيون المواقع الصناعية الإستراتيجية على طول الساحل الغربي ليتجنبوا الهجوم عليها. على سبيل المثال، بنيت أشهر المدن الوهمية فوق مصنع «لوكهيد» في بوربانك، ومصنع «بوينج» في سياتل، وهي مصانع للمعدات العسكرية، وكانت هذه محاولة لإخفاء مصانع الحرب وإظهارها بوصفها مناطق مدنية.

وقد جنَّد العقيد جون إف أومير، فنانين ورسامين ومصممين من إستوديوهات الأفلام، ووجههم إلى طلاء مواقف السيارات باللون الأخضر وتبطينه بالنباتات لجعلها تبدو مثل حقول البرسيم. كان المصنع الرئيسي مغطى بمظلة من أسلاك الدجاج، وشبكات ولوحة قماشية مطلية لتنسجم مع العشب المحيط.

3- قرية كيجونج دونج.. واجهة صناعية أم قرية وهمية؟

تروج الحكومة الكورية الشمالية لقرية كيجونج دونج بأنها واجهة للتقدم والصناعة، وموطن لـ200 أسرة يعيشون في سلام، وبها أكبر سارية علم في العالم، لكن يبدو أن هذا الأمر مجرد دعاية حكومية.

قرية كيجونج دونج في كوريا الشمالية

قرية كيجونج دونج في كوريا الشمالية. مصدر الصورة: ويكيميديا

تكشف المراقبة للقرية بأنها غير مأهولة بالسكان، وأن مبانيها التي تنبض ألوانها بالحياة ما هي إلا كتل خرسانية خاوية، مع أنظمة إضاءة آلية وحقول مزروعة حول الموقع تسعى جاهدة لإضفاء الوهم، وتقع قرية كيجونج دونج داخل كوريا الشمالية في المنطقة منزوعة السلاح على الحدود مع جارتها الجنوبية.

تاريخ

منذ سنتين
باريس.. قصة مدينة أبهرت العرب وأغرقتهم أحياء في نهرها

المصادر

تحميل المزيد