سنجعل الذهب هو المحدد الرئيس لقيمة الليرة التركية
قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذه الجملة أمس، في إشارة إلى اتجاه بلاده نحو تقييم الليرة على أساس احتياطي البلاد من الذهب، أو بمعنى آخر ربط الليرة التركية بالذهب، وجعله غطاءً لها بدلًا عن الدولار، وذلك في وقت تمر فيه عملة البلاد بفترة عصيبة؛ إذ لامست أدنى مستوى لها على الإطلاق خلال الأسابيع القليلة الماضية، لكن السؤال الآن: هل يمكن فعلًا جعل الذهب المحدد الرئيس لقيمة الليرة التركية؟ وهل يمتلك الاقتصاد التركي مقومات مثل هذه الخطوة؟
ما هي علاقة الذهب بتقييم العملات؟
قبل الحديث عن الخطوة التركية يجب أن نتحدث في لمحة سريعة عن النظام العالمي المتبع حاليًا في تقييم العملات، فعلى مر العقود الماضية شهد نظام صرف العملات عدة تطورات، بدأت من قاعدة الذهب – التي يريد أردوغان العودة إليها – وانتهت اليوم إلى النظام الحالي، وتعد الفترة ما بين 1944 إلى 1971 أكثر فترات استقرار سعر الصرف، وهي الفترة التي كان نظام «بريتون وودز» الذي يقوم على أساس الدولار الأمريكي المرتبط بالذهب مطبقًا فيها، إذ كانت الدول ترتبط عملاتها بسعر ثابت مع الدولار، إلا أن الرئيس الأمريكي نيكسون قرر في 1971 منع تحويل الدولار إلى ذهب، ومع هذا القرار انهار نظام بريتون وودز.
ومنذ ذلك الوقت أصبح هناك نظامان أساسيان لتقييم العملة: الأول هو نظام الصرف الثابت الذي يتم خلاله تثبيت سعر العملة، إما إلى عملة واحدة، وإما إلى سلة عملات. والثاني: هو نظام الصرف المرن، والذي يتميز عن النظام الأول بمرونته وقابليته للتعديل على معايير متعلقة بالمؤشرات الاقتصادية، ومن خلال هذا النظام تتبع الدولة اتجاهين: إما التعويم المدار، حيث تقوم السلطات بتعديل أسعار صرفها بتواتر على أساس مستوى الاحتياطي لديها من العملات الأجنبية والذهب وميزان المدفوعات، أو أنها تتبع طريقة التعويم الحر، وهي التي تعتمد على تحرير سعر العملة، وتركها للسوق، وقوى العرض والطلب، كما هو الحال الآن في الليرة التركية.
وبالحديث عن الذهب – أكثر المعادن النفيسة انتشارًا – فهو يعتبر الجزء الأهم من الاحتياطات لدى الدول، والذي يساهم بنسبة كبيرة في تحديد قيمة العملة؛ وذلك نظرًا للقيمة المادية والمعنوية التي يتمتع بها المعدن الأصفر، وسرعان ما تحتمي البنوك المركزية به في حال وجود مخاطر اقتصادية أو سياسية، وهذا بالتحديد ما تفعله البنوك المركزية حول العالم في الآونة الأخيرة؛ فالبنوك المركزية هي المشتري الصافي الأكبر من الذهب في العالم.
وعند تقييم العملة تتمسك بعض الحكومات بخيار تحديد قيمة عملتها حسب ما تراه مناسبًا لطبيعة اقتصادها. وهذه القيمة لا تعبر بالضرورة عن قوة الاقتصاد؛ إذ نرى دولًا تفضل العملة المنخفضة لدعم صادراتها، كالصين واليابان مثلًا، بينما تفضل دول أخرى – كالكويت مثلًا – المحافظة على قيمة مرتفعة للعملة، ولكن في النهاية يبقى سعر العملة الحر الذي تتحكم به قوى العرض والطلب مرتبطًا بمستوى الاحتياطي لدى الدولة من العملات الأجنبية والذهب وميزان المدفوعات والميزان التجاري بشكل خاص، لكن في الحالة التي نتحدث عنها في هذا التقرير، تسعى تركيا أن يكون سعر العملة مرتبطًا بالذهب فقط، فهل يمكنها فعل ذلك؟
كم تملك تركيا من الذهب؟
تشير بيانات مجلس الذهب العالمي الصادرة في فبراير (شباط) الماضي إلى أن تركيا احتلت المرتبة العاشرة على مستوى العالم في حجم احتياطات الذهب؛ إذ بلغ احتياطها 564.8 طنًا في فبراير (شباط)، بعد أن كانت ضمن الدول الـ15 الأوائل في قائمة احتياطي الذهب منذ سنوات، بينما بلغ احتياطها نحو 116 طنًا في سبتمبر (أيلول) 2011، وهو ما يوضح الاتجاه التركي الكبير نحو الذهب خلال السنوات الأخيرة.
وكانت تركيا ضمن الدول الأكثر شراءً للذهب خلال العام الماضي؛ إذ سجّل احتياطي البنك المركزي التركي من الذهب رقمًا قياسيًا، وارتفعت قيمة الذهب الذي يحتفظ به البنك من 14.1 مليار دولار إلى 23.5 مليار دولار في عام 2017، وتوضح هذه المعطيات الاتجاه الكبير نحو شراء الذهب.
وكان البنك المركزي التركي قد قرر في 2011 السماح للبنوك التجارية بالاحتفاظ بنسبة 10% من احتياطها الإجباري من الذهب، وهو ما دفع البنوك إلى تقديم أدوات مالية تستهدف جذب العملات الذهبية والمجوهرات كوسيلة للاستثمار والمدخرات، بينما أصدرت وزارة المالية التركية سندات الذهب وصكوك التأجير الذهبية أواخر 2017؛ في محاولة أخرى لإنعاش التعامل بالذهب، بعد دعوات متكررة من الرئيس التركي لتكثيف التعامل بالذهب، والبعد عن المضاربة بالعملات الأجنبية؛ لوقف نزيف الليرة التركية.
Embed from Getty Images
على الجانب الآخر، كشفت مؤخرًا تقارير صحافية عن أن البنك المركزي التركي سحب من نظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي احتياطي الذهب عام 2017؛ إذ كشفت الأرقام المنشورة على موقع «المركزي التركي»، أن احتياطي تركيا من الذهب في نظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في نهاية عام 2017 بات صفرًا، مقارنة بنهاية عام 2016، عندما بلغ 28.689 طنًا من الذهب، بينما لم يصدر البنك بيانًا رسميًا بهذا الشأن، وبحسب صحيفة «Milliyet» التركية، فإن البنوك الخاصة سحبت احتياطاتها من الذهب كذلك؛ إذ قام البنك الأهلي التركي بسحب احتياطه من الذهب، والذي يقدر بـ29 طنًا.
لماذا يريد أردوغان جعل الذهب هو المحدد الرئيس لليرة.. وهل يمكنه ذلك؟
تحاول تركيا الاحتفاظ بالذهب أصلًا احتياطًا رئيسًا لها؛ وذلك في محاولة للتخفيف من حدة تقلبات أسعار العملات الدولية الأساسية في الاحتياطي؛ ما يضفي مزيدًا من الاستقرار على العملة المحلية (الليرة التركية)، بينما يرى مصطفى عبد السلام، رئيس قسم الاقتصاد بصحيفة «العربي الجديد»، أن أردوغان يحاول من خلال تصريحاته تلك أن يبعث بعدة رسائل خاصة في فترة ما قبل الانتخابات، أولها طمأنة الأتراك على مدخراتهم، وحرصه على الحفاظ على عملتهم الليرة، والثانية مناكفة أمريكا، وسحب أرصدة تركيا من الذهب من البنوك الأمريكية.
Embed from Getty Images
وأضاف عبد السلام خلال حديثه لـ«ساسة بوست» أن تصريح أردوغان بأنه سيجعل الذهب هو المحدد الرئيس لقيمة الليرة التركية هو أمر سليم من الناحية النظرية؛ لأن الأصل هو أن تكون العملة المصدرة مغطاة بالذهب، لكنه من الناحية العلمية صعب التحقق؛ لأن الدول لا تملك كميات الذهب التي تغطي بها عملاتها، ولذا فإن البنوك المركزية تلجأ إلى العملات الأجنبية الرئيسة، مثل: الدولار، واليورو، والإسترليني، كبديل للذهب.
ويشير عبد السلام إلى أنه من الصعوبة أن تشتري تركيا كميات من الذهب تعادل قيمة احتياطي النقد الأجنبي، وفي حال تمكنت من فعل ذلك، فماذا ستفعل الدولة بالذهب في حال حلول موعد أقساط سداد الديون الخارجية، في هذه الحالة سيتم بيع الذهب لشراء دولار أو يورو لسداد أقساط الديون، كذلك الحال ينطبق على تمويل التجارة الخارجية للبلاد، الذي يتطلب وجود نقد أجنبي.
لكن من ناحية أخرى تحاول تركيا الخفض من اعتمادها على الدولار، وتعزيز قدرة عملتها في التعاملات الخارجية، وهو ما وضحناه تفصيلًا خلال التقرير التالي:
من جانبه يقول أحمد ذكر الله، رئيس قسم الاقتصاد والإدارة في الجامعة العالمية للتجديد (غير حكومية) بإسطنبول: «إن الإجابة عن سؤال: هل يمكن لتركيا أن تعود لنظام الذهب كمحدد رئيس لسعر الليرة التركية؟ لها أكثر من زاوية، منها ما يتعلق بالداخل التركي، ومنها ما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية والسياسية العالمية؛ فداخليًا عزز المركزي التركي احتياطاته من الذهب؛ ليكون بمثابة حائط صد أمام أي تقلبات؛ إذ إن الذهب ملاذ آمن في مواجهة أية مشكلات أو تحديات اقتصادية مستقبلًا».
وتابع ذكر الله خلال حديثه لـ«ساسة بوست» بأن الملاحظ أنه رغم هذه الزيادات المتوالية للاحتياطي من الذهب، فإنه لم ينجح في إيقاف نزيف سعر صرف الليرة التركية، والذي بدأ منذ أكثر من عام، بالإضافة إلى أنه لا تزال الاحتياطات من الذهب ليست بالأرقام الكبيرة حتى الآن، ناهيك عن أن آليات التحكم بسعر العملة تقتضي وجود احتياطي من الدولار تستطيع أن تناور به السلطة بيعًا أو شراءً لتحقيق أهدافها.
Embed from Getty Images
ويشبه أستاذ الاقتصاد الاتجاه التركي بفكرة التبادل السلعي بالعملات المحلية، والتي لم تغير شيئًا يذكر في البيئة الاقتصادية العالمية حتى الآن، موضحًا أن الذهب الملاذ الأكثر أمنًا في أحوال الاضطراب، ولكن استخدامه يعد خروجًا عن السياق العالمي المعتمد على الدولار، وهو أمر لم تثبت فاعليته حتى الآن، كما أن المحاولة التركية ليست المحاولة الأولى للخروج من هيمنة الدولار، ولكن يبقى السؤال: هل يسمح النظام العالمي لتركيا بخطوات مثل هذه، خاصة في ظل الكثير من التحديات التي يواجهها النظام التركي على الصعيدين الداخلي والخارجي؟
ما هي العوائق التي تواجه أردوغان في الاعتماد على الذهب؟
كما أوضح الخبراء، فإن هذا التحول ليس بالسهولة التي يتخيلها البعض؛ فالديون التركية المتفاقمة التي تزيد عن 230 مليار دولار، والواردات الكبيرة، سواء من الطاقة، أو غير ذلك من السلع الأولية، والتي وصلت خلال 2017 إلى 233 مليارًا و792 مليون دولار، تحتم على تركيا امتلاك احتياطي نقدي من العملات الأجنبية لتغطية هذه الاحتياجات، إلا أن البلاد تحاول تعزيز التعامل بعملتها المحلية مع دول أخرى، كالسعودية، وروسيا، وإيران، لكن من الصعب أن تكون هذه الخطوة مجدية في ظل الوضع الاقتصادي الحالي، أو بمعنى آخر: لن تستطيع تركيا التخلي عن الدولار بهذه الخطوة وسط هذه التحديات.
ولأن الرئيس التركي يدرك جدًا هذه العقبة، فقد تساءل في وقت سابق من الشهر الجاري عن الأسباب التي تمنع ربط الديون بالذهب؛ إذ قال: إن القروض الدولية يجب أن تستند إلى الذهب، وليس الدولار، متسائلًا: »لماذا يتعين عليك تقديم القروض بالدولار؟ لنسند القروض على الذهب. نحن بحاجة إلى تخليص الدول والأمم من ضغوط أسعار الصرف. على مدار التاريخ لم يكن الذهب أبدًا وسيلة للضغط»، بينما أكد أنه قدم هذا الاقتراح إلى مسؤولي صندوق النقد الدولي في اجتماع مجموعة العشرين، لكن من الصعب تحقيق أمنية أردوغان تلك في الأجل القصير، خاصًة أن معظم المؤسسات المالية العالمية شبه تابعة لواشطن، وبالطبع لن تتخلى عن الدولار.
على الجانب الآخر يظل الدولار الأمريكي هو المهيمن على التعاملات النقدية في العالم، ويصعب خروج تركيا بعيدًا عن النظام المالي العالمي وحدها، خاصًة أن السلع الرئيسة يتم تسعيرها بالدولار؛ إذ يقدر صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية المبادلات المسعرة بالدولار بـ42% من التجارة العالمية، وبنحو 59% من القروض المصرفية، بينما تحرص البنوك المركزية على ألا يقل احتياطها النقدي بالدولار عن 64% من مجمل احتياطها، لكن ربما في حال اتجه كثير من دول العالم لهذه الخطوة، يمكن كسر هيمنة الدولار قليلًا، فعلى سبيل المثال: إذا تمكنت تركيا من إبرام صفقة مع إيران أو روسيا للتجارة بالعملات الوطنية أو الذهب، وتمكنت من خلال مثل هذه الاتفاقات من شراء الغاز والنفط بالذهب، فقد يكون ذلك مفيدًا لتركيا، ويخفف من الضغط على اقتصادها.