في يوليو (تموز) الماضي أعلنت السلطات المغربية حالة استنفار على طول شريطها الحدودي مع الجزائر، لم يكن الداعي هذه المرة عسكريًا، بل ما هو أفظع من ذلك: خطر وباء الكوليرا المتفشي في الجارة الشرقية.
درءًا لهذا الخطر المحدق، وإضافة إلى تشديد الخناق على الحدود عمدت وزارة الصحة المغربية إلى توزيع مذكرة على كل مراكزها الصحية تدعوها إلى التأهب تحسبًا لأي طارئ. بينما سرت شائعات بدخول الوباء إلى المغرب، وتم نفيها لاحقًا من طرف الوزارة المعنية، مؤكدة أن المغرب سليم من كل هذه الشائعات العارية عن الصحة.
وقد عرفت الجزائر عودة هذا الوباء بعد 20 سنة من نهايته على أراضيها، بعد أن تم اكتشاف أولى حالات العدوى بولاية البويرة شرقي العاصمة، حيث عم الهلع أرجاء البلاد. وحددت الحكومة الجزائرية انتشاره بأربع ولايات قريبة من العاصمة، ووجود أكثر من 150 حالة إصابة بهذا الداء الفتاك، وتلوث أكثر من 27 موردًا مائيًا طبيعيًا بفيروس الوباء، حتى لحظة كتابة هذه السطور.
https://youtu.be/qH9N6mAPbOM
عودة الكوليرا إلى المنطقة بعدما تم نسيانها تمامًا، تعيد إلى الأذهان أوضاع القرون الخوالي، بوصف اجتياحات الوباء أحداثًا طبعت تاريخ المغرب الكبير. نبشًا في هذا التاريخ، نعود إلى المراحل التي اجتاح فيها هذا الفيروس البلاد، كاشفين عن الظروف التي صاحبت تفشيه، راسمين بذلك صورة للمغرب الكبير ما قبل القرن العشرين ميلادي.
كيف كان يعيش المغاربة في القرن 18؟
يقول العلامة المغربي ابن هيدور التدلي في شأن وباء الكوليرا: «يحدث هذا المرض من تعفن الأغذية المستعملة في زمن المجاعات وغلاء الأسعار؛ فيضطر الإنسان إلى تناول غذاء غير مألوف قد فسد وتعفن.. فيفسد المزاج من هذه الأغذية، وتحدث الأمراض القاتلة»، ويرجع فساد الطعام في وقته إلى غلائه، وما كان يتبع ذلك الغلاء من شدائد ومجاعات، قائلًا: «كما أن الغلاء لحدوثه سببان، إما احتباس المطر في البلاد المحتاجة إليه، وإما لظهور الفتن والحروب (…) فإذا دامت الفتنة وقع الفساد في الحواضر والبوادي، وفسدت حبوبها المختزنة، وانقطعت الطرق، وعدمت المرافق لأجل ذلك»، خالصًا إلى «أن هذا الوباء لازم من لوازم الغلا، كما الغلا لازم من لوازم الفتنة الدائمة».
انطلاقًا من هذه النظرة التي تعتمد على أساس تجريبي محض قائم على الملاحظة واستنباط القوانين، يمكن أن نتبع انطباقها على المغرب إبان القرن الثامن عشر الميلادي، مستنتجين بذلك ظروفه المعيشية. هكذا يمكننا أن نرصد صورة لمرحلة ما قبل وقوع الوباء، من خلال حالته السياسية، الاقتصادية والاجتماعية المعيشية في تلك الفترة.
دخل المغرب سنوات 1700 وهو تحت الحكم الملحمي للسلطان العلوي مولاي اسماعيل. عرفت فترته تلك، بما هي حاضرة في أخبار المؤرخين وكذا الروايات الشعبية، كمرحلة للهيكلة الكبرى للدولة العلوية. كان عصره عصر نظام ورخاء، كما يصفه المؤرخ أحمد بن خالد الناصري صاحب «الاستقصا»: «كانت تخرج فيه المرأة والذمي من وجدة إلى وادي نول فلا يجدان من أين ولا إلى أين، من الرخاء المفرط؛ فلا قيمة للقمح ولا للماشية».
اقتصاديًا كان يعتمد نمط الإنتاج المغربي في كليته على الفلاحة بآليات بدائية، ومساحات مزروعة ضيقة تدار في أغلبها بشكل جماعي، اختلفت نوعية الغلال من حبوب وقطاني، خضر وفواكه متوسطية وصحراوية. كان على إثرها يقوم نمط الغذاء المغربي معتمدًا في أساسه على الخبز، ثم على الخضر والفواكه، أمّا اللحوم فكان يتراوح حضورها على المائدة المغربية، حسب الطبقة الاجتماعية، والانتماء المجالي (سكان البوادي/سكان الحضر).
يفرض نمط الإنتاج هذا تشكيلًا ديموغرافيًا يتسق مع متطلباته، هكذا كان أغلب المجتمع المغربي يتوزع في المجال القروي، بينما الأقلية في الحواضر. وكذا يفترض آلية لمواكبة عجلة الإنتاج، وهي إنتاج اليد العاملة فيه، لذلك نجد معدلات الخصوبة عالية عند مجتمع كهذا، وترسانة قيم تثمن العائلة المتعددة الأفراد، والمرأة الولود، والذكورة على وجه الخصوص.
وباء الكوليرا اجتاح العالم في فترات متعددة – المصدر
عرفت فترة الرخاء الإسماعيلي في أيامها الأخيرة شدة هي أولى مجاعات القرن بين 1721 و1724، القرن الذي كان حافلًا بمثيلاتها. يصفها بزاز في تاريخه للأوبئة بالمغرب، بأن «الغداء بلغ من الغلاء فحشه، وجاع الناس فأكلوا الجيفة والموتى، وهلك منهم الكثير من المسغبة والمرض». ويورد كذلك إقبال اليهود على الإسلام للاستفادة من الإعانات الغذائية، وإقبال الناس على بيع أنفسهم عبيدًا للإسبان والبرتغاليين هربًا من الغبن.
بعد مجاعة 1721 عرف المغرب انفراجًا طبع أيام المولى إسماعيل الأخيرة. وبعد وفاة السلطان سنة 1724 ستعود القلاقل لتهدد البلاد في شكل تناحر على العرش بين أبناء العاهل الكثر. يصفها الخبري المغربي محمد ابن الطيب القادري: «كثرت الفتن بين سائر القبائل، وكثر القتل وسفك الدماء فماتت خلائق لا يحصون، وكاد يهلك جميع من بالمغرب من خاص وعام».
ويعد من أهم ما أفرزته تلك الحروب، ما صحبها من خلخلة في الحياة الفلاحية، هكذا سيعود شبح الغلاء والمجاعة ليخيم على المغرب مجددًا. في وقت انصرفت فيه السواعد الزارعة عن أرضها وماشيتها، وتحولت فيه الحقول إلى ساحات معارك للإخوة السلاطين المتطاحنين فيما بينهم، عرفت أسعار الغذاء ارتفاعًا مهولًا، وحلت المجاعة سنتي 1737 و1738.
كانت هذه المجاعة من الهول بأن اشتركت فيها المآسي كلها، من جهة تطاحن السلطانين المتبقيين على العرش؛ السلطان عبد الله مدعومًا من أهل فاس، والسلطان محمد مآزر بعبيده وجحافل أهل الزوايا من الشرفاء. يقول صاحب «البستان الظريف»: «فرّق (السلطان محمد) على العبيد ما عنده من المال لراتبهم فلم يكفه ذلك، واشتغل بنهب الزرع من ديار مكناسة والبحث عليه في الأهرية (المخازن) والمطامير، وكل ما أتى به أهل البادية يؤخذ منهم، وكل ما ذكر عنده زرع يقبضه إلى أن يُخرِج ما عنده». ومن جهة أخرى عاثت اللصوصية بالشعب فساد، فُقِد الأمن وترك هذا الأخير يصرف أيامه منفردًا في هذه الأحوال الضنكة.
ستستمر الحال على ما هي عليه من تناحر إلى حدود منتصف القرن، ستنتهي 30 سنة من الاقتتال الأهلي إلى تولية السلطان محمد بن عبد الله على عرش المملكة، وسيستبشر المغربي وقتها انفراجًا أخيرًا للكربة. بيد أن الجوع سيعود من جديد سنة 1766، إثر مجازفة غير محسوبة للسلطان بقرار تصدير القمح، الذي خلق خللًا في أسعار السوق الداخلية واكبته سنة قحط واجتياح الجراد. دامت هذه الحالة زهاء 16 سنة، خلالها، وبشكل متغير يكر الجوع تارة، ويفر أخرى.
على إثر هذه الأحوال سيدخل المغرب قرنه التاسع عشر، وقبله عرف طوال سنوات المآسي موجات متتالية من الطواعين، وصولًا إلى كوليرا 1834.
الزيارة الأولى لـ«بوكليب»
لم يعرف المغرب الأقصى قبل 1834 موتًا جماعيًا على شكل إسهال حاد و وبائي. هكذا ستصل البلاد مصائب العالم الخارجي، بعد انقضاء عهد الانغلاق الذي اتصف به حكم السلطان سليمان، رافق اجتياح الوباء القسم الأول من حكم السلطان عبد الرحمن. هذا لا يعني أن عهد المولى سليمان كان خاليًا من هجمات الأمراض المعدية، بل إن المغرب سلم من الموجة العالمية الأولى للكوليرا بين عامي 1817- 1820.
إلا أن «الريح» هذه المرة كانت جديدة، والميتة قذرة، وقد ذُكر في مخطوطة «الابتسام عن دولة ابن هشام» لأبي العلاء إدريس عبد الهادي التازي: «هو ريح ما سمعوا به، قاتل من حينه، ويسمونه عندنا في المغرب بأسماء الكوليرا والريح الأصفر وبوكليب»، ويقول صاحب «أقوال المطاعين في الطعن والطواعين»، العربي المشرفي: «كان الموت موت بغتة وفجأة، حيث يرى الإنسان أخاه يمشي صحيحًا ويسقط ميتًا… وبنفس ما ينقاس به الإنسان فيتغير حاله وتتشوه خلقته وتقع اللكنة في لسانه فيلجلج مقاله. وتزبخر أظافر يديه ورجليه كأنها صبغت بالنيلة».
لم تكن تلك أول موجات الكوليرا التي ضربت العالم، بل الثانية، وبشكل ملفت للنظر نلحظ نجاة المغرب من موجته العالمية الأولى (1817-1824). والتي – كمثيلاتها الأربع اللاحقة – كانت بؤرها الأم في خليج البنغال ودلتا الغانج، بل حُملت بنفس الطرق إلى باقي أقطار العالم: نقل العدوى عبر الجنود، وعبر التجارة العابرة للمحيطات، وعبر التجمعات الدينية (الحج كمثال). حيث يورد محمد أمين البزاز في كتابه «تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب»: «في عام 1831، تفشى الوباء (الكوليرا) في مكة، وفتك بـ12 ألف حاج… وانتقل الوباء عن طريق الفارّين إلى سوريا وفلسطين ومصر وتونس».
أما المغرب فقد دخله سنتها الوباء زاحفًا برًا من الشرق (من الجزائر)، يدل على ذلك كون أول حالة موت سجلت في فاس، يوم الثلاثاء فاتح رجب سنة 1250هـ الموافق لـ3 نوفمبر (تشرين الثاني) 1834 كما هو مثبت عند ابن عبد الرحمن الفاسي في «تذكرة المحسنين». واستمر وجوده إلى حدود 1837، بحصاد يومي للأرواح يصل إلى 60 وفاة في اليوم لكل مدينة.
مثلت الكوليرا في تلك الحقبة شبحًا حقيقيًا وسم القرن التاسع عشر بأكمله، وطبع تاريخ المغرب خلاله، الذي لم تكن نكبة 1834 إلا مستهلًا لموجات لاحقة من هذه الجائحة الفتاكة، والتي لم يتخلص منها المغرب حتى حدود عشرينات القرن العشرين.
«بوكليب» يجتاح مرات أخرى
عادت الكوليرا لزيارة المغرب مرات متوالية خلال القرن التاسع عشر في ما يعرف بموجتها العالمية الثالثة التي كانت على مراحل بين 1854 و1860. غزا الوباء المغرب مرتين: الأولى وهي الأعنف من 1854 إلى 1855، والثانية من 1859 إلى 1860.
بلغ الموت خلال الاجتياح الأول أشده، وفتك الوباء بالمغاربة فتكًا ذريعًا لدرجة بأن بلغ كم الضحايا يوميًا 400 أو 500 روح، كما يورد ذلك عبد السلام بن محمد بن عبد القادر صاحب «إتحاف المطالع» في متنه: «وبلغ الموت به 500 فأكثر، وبقي إلى أن ضعف أمره في أواسط جمادى الثاني مارس (آذار) 1855».
هلع الناس من ويلات هذا الوباء، وعادوا يهجرون ديارهم هروبًا إلى الحواضر، إلا أن الموت كان يترصدهم بين دروبها، يروي المؤرخ المشرفي في «أقوال المطاعين»: «فكان البدوي يأتي إلى للحاضرة فلا يرجع لأهله إلا ميتًا محمولًا على الدواب» ويضيف: أن «ابن مولانا أمير المؤمنين (محمد ابن السلطان عبد الرحمان) بعث يومًا لحصاد الزرع نفرًا كثيرًا مات منه 40 رجلًا وفي يوم واحد».
وعلى عكس الموجة الأولى التي دخلت المغرب من الشرق، أتت الموجة الثانية مع الحملة الاسبانية على تطوان، والجيش الفرنسي المتقدم شرقًا. هكذا تفشى في بداياته بالمناطق الشرقية للمغرب وشماله وريفه، إلى أن زحف على مناطق الوسط والغرب، وكان زحفه بطيئًا ولم يتجاوز نهر أم الربيع.
انقسم الفقهاء وقتها إلى تيارين: الأول يرى في الوباء قدرًا منزلًا، يحرم الهروب منه، ومنه على سبيل المثال، ما جاء في فتوى العلامة المغربي محمد بن أحمد الحضيكي: «وأما الفرار من الوباء على ما هو المفعول به في هذه البلاد من التفرق في الشعاب وتضييع المأمورات في المرضى والأموات فحرام بالإجماع»، ورد العلامة أحمد بن مبارك الملطي عن استفتاء أحد العامة في حكم التجارة مع من وقع بأرضهم الوباء: «جوابه في ما سبق من كلام إمامنا مالك من جوازه، وذلك اعتمادًا على نفي العدوى والطيرة».
وثان يقارب النصوص بنوع من المرونة، كقول الفقيه محمد بن أبي القاسم الفلالي: «أعلم أن الخارج من بلد الوباء يشبه من كان في موضع سمع صوت لص أو شم رائحة سبع فخرج من ذلك الموضع هربًا… فكما لا يعد هذا معارضًا للقدر ولا مدافعًا لقضاء الله الذي لا مرد له، كذلك لا يكون الخارج من أرض الطاعون معارضًا للقدر».