السريالية ترفض أن تكون هنا، ولكنها دائمًا موجودة في كل مكان. *من كتاب السينما والسريالية لمايكل ريتشاردسون
ربما تحاول العبارة السابقة شرح المدى الذي توجد به السريالية في حياتنا، دون القدرة على وضعها في إطار واحد مُتفق عليه، بقوانين ثابتة يمكن دراستها، والأحلام هي الباب الرئيسي للسريالية، ولذلك كان لنظريات سيجموند فرويد دور كبير وفعّال في تشكيل الفكر السريالي لدى الفنانين وقت تأسيس الحركة السريالية والدادائية في كنف الحرب العالمية الأولى.
ظهرت كلمة «سريالية» للمرة الأولى على الإطلاق عام 1903، في مسرحية «ماميلس دي تيريسياس» التي كتبها الشاعر والكاتب المسرحي الفرنسي غيوم أبولينير، ولكن لم تخرج السريالية في شكلها المعروف لنا الآن إلا في العمل الأدبي «الحقول المغناطيسية» عام 1920.
البعض يظن أن السريالية هي الفنون غير المفهومة، أو التي يرغب صانعها في الإغراق في الغموض، ولكن السريالية كانت على العكس؛ فهي تحاول أن تفسر الحروب الداخلية التي يعاني منها الإنسان في عقله الباطن، والتي قد تظهر في أحلامه كما أكد فرويد، أو في عمل فني كما حاول السرياليون في جميع المجالات.
وفي السطور التالية سنأخذكم إلى تسع محطات مهمة في تأسيس وتطوير الحركة السريالية.
1- الحرب العالمية والدادائية.. وبداية السريالية
وقت الحرب العالمية الأولى، عاش الفنانون لحظات قاسية وصادمة بسبب ما تعرض له العالم من قتل وقسوة، فكان لبعضهم ردود أفعال متطرفة بغرض الثورة على وحشية الحروب، ولذلك بين عامي 1916 و1920، ظهرت في سويسرا حركة فنية تُدعى الدادائية، ما لبثت أن انتشرت في بعض الدول الأوروبية.
كان الغرض من تلك الحركة الثورة على كل ما هو معتاد من مفاهيم الجمال لدى البشر، وهذا من خلال إنتاج فنون تحمل شعار «لا للفن»، وجسدت تلك الفنون الشكل المشوه من الجمال المتعارف عليه لدى الوعي الجمعي للمجتمعات الأوروبية.
ومن كنف الدادائية، خرجت إلى الحياة للمرة الأولى الحركة السريالية، بعد أن انفصل عن الدادائية بعض الفنانين الذين رأوا أفكار الدادائية ثورية ولكنها هدامة، وبدأ البناء للسريالية في فرنسا على يد مجموعة من الفرنسيين على رأسهم الأديب والشاعر الفرنسي أندريه بروتون، والذي أطلق فيما بعد على السريالية أنها «الذات النفسانية الصرفة».
الكاتب الفرنسي أندريه بريتون
تشارك بريتون مع بعض الأدباء الآخرين في كتابة الحقول المغناطيسية، حينما قرروا الكتابة بطريقة التداعي الحر للأفكار، دون الاتفاق على المسارات الدرامية لما يكتبونه، إيمانًا منهم أن تلك هي البداية الحق للسريالية، حين يترك الكاتب أو الفنان نفسه لعقله الباطن يتحكم فيه لبرهة من الوقت؛ لأن ما ينتج من هذا النوع من الإبداع، سيكون معبرًا عما يدور في أعماق الكاتب، والذي سيمس بدوره بعض التجارب النفسية والذهنية للجمهور المتذوق لهذا النوع من الكتابة والفن. ولذلك كان هذا الكتاب هو محطة انطلاق الحركة السريالية حتى وصلت إلى شكلها الحالي.
2- «مانيفستو السريالية».. التلقائية النفسية في أنقى أشكالها
البيانات الرسمية للسريالية من أهم محطات التأسيس لهذا المنهج من الفنون، وخاصة البيان الأول الذي كان أول توثيق رسمي مكتوب للحركة السريالية، وصدر البيان الأول عام 1924، على شكل كتيب، كتبه الفنان الفرنسي أندريه بريتون، وجاء في هذا البيان التالي:
«السريالية هي التلقائية النفسية في أنقى أشكالها، والتي يحاول الإنسان التعبير عنها من خلال الكلمة المنطوقة والمكتوبة، دون الاهتمام بأي أحكام جمالية أو معنوية». وأشار هذا البيان إلى بعض الأعمال الشعرية والأدبية من التاريخ، والتي تندرج تحت هذا النوع من الفن، ومتشبعة بروحه مثل أعمال الروائي والفيلسوف الفرنسي ماركيز دي ساد.
كان ختام البيان ساخرًا، ومؤكدًا أن هذا البيان لا يعني أن للسريالية خططًا واضحة أو نمطًا متعارفًا عليه، بالإضافة إلى أن الفنانين السرياليين ليسوا ملتزمين أمام الجمهور بشيء. وتضمن البيان أسماء هؤلاء الفنانين بجوار اسم أندريه، مثل جورج مالكين، الذي كان ينتج الفنون البصرية «Op Art» وهو نوع من الفنون يعتمد على تحفيز الأوهام البصرية.
3- مفهوم «التجاور» وتطوير السريالية
ساهم أندريه بريتون في تطوير السريالية حين ألقى الضوء على مفهوم «التجاور» أو Juxtaposition، وهي طريقة التداعي الحر في الكتابة من خلال جمع مجموعة من الأحداث أو الفقرات الأدبية المتفرقة بجوار بعضها البعض، دون التركيز على أهمية انبثاق معنى عن تلك النصوص المجمعة، ودون الاهتمام بإبراز معنى واضح ومفهوم من النص لدى العقل الواعي للمُتلقى، طالما كانت تلك القطع الأدبية المتجاورة المكتوبة بالتداعي الحر؛ لديها القدرة على تحريك مشاعر القارئ أو تحفيز ذكريات مدفونة في اللاوعي لديه، إذن فتلك متجاورة سريالية نجحت في رسالتها. التجاور والسريالية بكل بساطة هما حوار راقٍ بين لا وعي الفنان، ولا وعي المتلقي.
مفهوم التجاور لم يتوقف عند الإنتاج الأدبي؛ بل غزا باقي الفنون، ويمكنك أن ترصد وجوده في العديد من اللوحات والصور السريالية. والجدير بالذكر أن تأسيس مفهوم التجاور في السريالية وإلقاء الضوء عليه، لا يعني اختراعه وتقديمه للعالم للمرة الأولى، ولكن ما قام به أندريه مع التجاور هو ذاته ما فعله إسحاق نيوتن مع الجاذبية.
إنها -الجاذبية- موجودة منذ الأزل، ولكن احتاجت من يشير إليها ويرصد قوانينها وظواهرها المختلفة. ولذلك من السهل أن ترصد صور التجاور السريالي في الأدب من قبل ظهور مفهوم السريالية من الأساس.
وهذا لأن التداعي الحر، وإطلاق عنان اللاوعي حتى يتدخل في مصير العمل الأدبي أو الفني؛ هو أمر قد يلجأ إليه الفنان بالفطرة، ولكن بعد اكتشاف السريالية أصبح يُمارس عن قصد ووعي من الفنانين، وهو أمر عمل على تطويره الفنان الإيطالي سلفادور دالي من خلال نظريته «بارانويا التفكير الانتقادي».
أقرأ ايضًا: الجانب المظلم للإبداع.. كيف حوّل فنانون أمراضهم العقلية والنفسية إلى تحف فنية؟
ومن الأعمال الأدبية التي قد تعطينا مثالًا عمليًّا على ممارسة السريالية والتجاور، هو مقطع من رواية «قصة مدينتين» للكاتب تشارلز ديكنز، والتي نُشرت عام 1859، إذ كان يقول: «كانت أفضل الأوقات، كانت أسوأ الأوقات، كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة، كان عصر الإيمان، وكان عصر التشكيك، كان ربيع الأمل ويأس الشتاء، كان أمامنا كل شيء، ولم يكن أمامنا أي شيء، سنذهب جميعًا إلى الجنة، وسنذهب جميعًا إلى المصير الآخر».
4- «الرسوم الانطباعية»… سريالية الرسم
أندريه لم يكن مُرحبًا بالتجسيد المرئي للسريالية، وهذا لأن مفهوم السريالية يعتمد في الأساس على المعنى الذي ينسجه خيال المتلقي من القطعة الأدبية، ولذلك اعتبر بعض السرياليين أن الرسم والتجسيد بالصورة في السريالية لن يخضع لهذا القانون. ولكن كان لـ«الرسوم الانطباعية» رأي آخر.
الرسوم الانطباعية أو Decalcomania ظهرت بين الرسامين الذين أرادوا إثبات أنه يمكن للصورة أو الرسم الانضمام للحركة السريالية، وتضمنت تلك الصور واللوحات رسومًا متباينة يمكن فهمها ورؤيتها بأكثر من شكل، على حسب الدلالات المعرفية لمتأمل اللوحة وخبراته السابقة، وتلك الطريقة في الرسم هي ما فتحت باب الخيال للفن التشكيلي، وأبدع الكثير من الفنانين التشكيليين تحت راية هذا النوع من الفن، حتى انتشرت السريالية في العالم، وارتبطت في أذهان الجماهير باللوحات والرسوم، وليس بالقطع الأدبية.
اعتمد نهج الرسوم الانطباعية على مزج الألوان بشكل يحفز اللاوعي والأحلام في عقل المتفرج، وتكون النتيجة هي خروج عشرات المعاني من لوحة واحدة فقط، كل معنى يعتمد على خبرة متلقي اللوحة السريالية أو الانطباعية.
ويعتبر الفنان السريالي الإسباني أوسكار دومينغويز هو أول من تفوق في تلك التقنية من الرسم، وسيطرت على معظم أعماله، وشاركه نفس الشغف الرسام والنحات الألماني ماكس إرنست، والذي كان له دور كبير في الحركة الدادائية والسريالية، ولكن حين نتحدث عن السريالية في الفن التشكيلي؛ يجب أن نذكر الدور الفعّال الذي قام به الفنان السريالي سيلفادور دالي.
5- عندما يضع دالي قوانين نظرية.. بارانويا التفكير الانتقادي
كان للفنان الإيطالي سلفادور دالي دور مهم في تأسيس مفاهيم السريالية وفهمها، سواء من خلال لوحاته، والتي تعتبر من أشهر الأعمال السريالية في العالم، أو عن طريق الطرق المبتكرة التي سعى إلى نشرها، والتي سمحت للفنان السريالي أن يصل إلى أعماق عقله الباطن، ويُخرج أحلامه وهواجسه ومخاوفه المسجونة في هذا الصندوق الخفي بعيدًا عن أعين العقل الواعي، ولذلك أسس طريقة لممارسة السريالية وكانت بعنوان «بارانويا التفكير الانتقادي».
استمع إلى دالي يتحدث في حوار إذاعي عن بارانويا التفكير الانتقادي
وهي تدريبات ذهنية لإطلاق العنان للعقل الباطن والخيال، ونشرها دالي بين فناني السريالية في جميع المجالات، وتعتمد التدريبات الذهنية لبارانويا التفكير الانتقادي على التأمل، والتركيز في أحد معطيات الحياة تأملًا يصل إلى حد التوحد بين الفنان والشيء المُتأمل، حتى يصل الفنان إلى حالة تشبه الحلم؛ ولكن بشكل واعٍ، وبهذا يتمكن من أن يرى هذا الشيء ويشكله بالطريقة التي يفضلها عقله الباطن.
فإذا كان ينظر الفنان إلى بقعة على إحدى قطع القماش -على سبيل المثال- يمكنه أن يراها تشبه وجه أمه، أو حبيبته التي يحاول أن يتجاهل التفكير فيها، وربما فنان آخر يرى البقعة على شكل الحيوان الذي يخاف منه، وفي الثلاث حالات، كل فنان سينتج عملًا فنيًّا مختلفًا، بناءً على الحالة النفسية التي أثارتها تأملاته في تلك البقعة.
6- فرويد: السريالية آلية للكشف عن ذاتك الحقيقية
قد تظن أن الهدف هو الوصول إلى لاوعيك، ولكن في الحقيقة الهدف هو الوصول إلى الوعي ذاته، الصورة/ اللوحة السريالية يتجلى فيها سرك، وهي ليست سوى آلية للكشف عن ذاتك الحقيقية.
كان هذا رأي المحلل النفسي سيجموند فرويد عن ما يرسمه فنان سريالي مثل سلفادور دالي، والذي كان من أشد المعجبين بأعمال فرويد ونظرياته النفسية، وكان دائمًا يصرح أن ما تعلمه من فرويد عن النفس البشرية؛ هو المرحلة الأشد تأثيرًا في حياته وفنه، وكان من حسن حظ دالي أن مُنحت له الفرصة لمقابلة فرويد عام 1938.
نظريات سيجموند فرويد عن التحليل النفسي للإنسان من خلال مراقبة أحلامه وتفسيرها، كانت من أهم المحطات في مراحل تأسيس السريالية، إذ وجد الفنانون ما يتحدث عن منهجهم السريالي الثوري بشكل علمي يعتمد على نظريات موثقة في علم النفس، في هذه الحالة لن تكون السريالية مجرد أوهام فنية يتشدق بها بعض الفنانين؛ بل إن نظريات فرويد أضفت على السريالية قيمة نفسية وذهنية مهمة؛ مما دفع الفنانين السرياليين لاكتشاف ذاتهم من خلال هذا النوع من الفن، ومع الوقت تحول الفن السريالي عند بعض الفنانين إلى طريقة لفهم النفس والغوص في أعماق اللاوعي لكل واحد منهم.
7- بدايات السينما السريالية وتوسيع الآفاق الفنية
ضمن التصورات الشائعة الخاطئة عن السريالية، هي رغبة البعض في وضعها داخل إطار أو نهج ثابت، وهؤلاء من رفضوا رؤية السريالية نشاطًا إنسانيًّا يهدف إلى توسيع الآفاق الفنية، وليس تحجيمها. من كتاب « Surrealism and Cinema» للكاتب مايكل ريتشاردسون.
الدور الذي قام به سلفادور دالي في تطوير ونشر السريالية، لم يتوقف عند الفن التشكيلي، وتطوير مناهج لممارسة السريالية ممارسة أعمق؛ ولكن مجهوداته شملت السينما أيضًا؛ مما جعل السينما السريالية تسير جنبًا إلى جنب مع السريالية في الأدب والفنون التشكيلية، وبالتعاون مع دالي وغيره من فناني السريالية من المخرجين والمؤلفين، تركت الحركة السريالية في بداياتها إرثًا غنيًّا بالأعمال السينمائية، والذي ألهم العديد من مخرجي السريالية في العصور الحديثة.
أنتج أول فيلم سريالي عام 1924 بعنوان استراحة أو Entr’acte، وكان فيلمًا فرنسيًّا قصيرًا ظهر في نفس العام الذي صدر فيه بيان السريالية الأول، وأخرجه رينيه كلير، وبعده بأربعة أعوام، قدمت المخرجة الفرنسية جيرمين دولاك فيلم The Seashell and the Clergyman أو الصدف ورجال الدين، ودارت أحداثه عن هلاوس وأحلام جنسية تطارد قسيسًا عندما يرى زوجة أحد الجنرالات ويحبها.
وانضم دالي في صناعة السينما السريالية عام 1929 بفيلم Un Chien Andalou أو الكلب الأندلسي، بالمشاركة مع صانع الأفلام الإيطالي لويس بونويل، ولم يكن لهذا الفيلم حبكة درامية واضحة، وكان معظم المشاهد ترتيبها مفكك، ولكن حرص دالي على تطبيق نظريات فرويد عن دلالات الأحلام لدى البشر في هذا الفيلم.
انضم إلى ركب السريالية بانفتاح الكثير من المخرجين في أنحاء العالم، ومن أبرزهم البولندي والريان بوروسيسك الذي قدم 40 فيلمًا سينمائيًّا ما بين عامي 1940 و1988، وتميزت أعماله بلمسة إيروتيكية، كما تضمنت بعض المشاهد الجنسية.
ومن أهم المخرجين الذين تركوا بصمةً مهمةً في تاريخ السينما السريالية كذلك، المخرج والممثل أليخاندرو جودوروفسكي، والذي ما يزال على قيد الحياة، وقدم فيلم Endless Poetry أو شعر لا نهائي العام الماضي، وفيلمه The Holy Mountain أو الجبل المقدس، الذي أخرجه عام 1973، هو واحد من أيقونات السينما السريالية في العالم.
- لقطة من فيلم The Holy Mountain
ما يميز أليخاندرو هو فهمه الحق للسريالية، فمعظم أفلامه هي عبارة عن حالات من الكشف عن مخاوفه الداخلية، والتي لامست مخاوف العديد من النفوس البشرية في أنحاء العالم؛ لأنه خاطب هواجس الوعي الجمعي، بما فيها من هواجس دينية ودنيوية، ورغبة مُلحة في التحرر من قيود الحياة، والتحرر من قيود النفس أيضًا، وهو ما جسده بشكل بارع في أحد مشاهد The Holy Mountain، حين اضطر أحد أبطال الفيلم أن يلقي بصديقه القزم المشوه في البحر، مجسدًا مخاوف الإنسان الروحية والنفسية في هذا القزم الذي سماه «الوحش»، وحين طلب أحدهم من الرجل أن يلقي الوحش في البحر، لم يستطع أن يقدم على هذه الخطوة بسهولة، وهو ما فسره بعض النقاد بالخوف الذي يسيطر على الإنسان حين يدرك أنه قادر على الحرية، ولكنه خائف من ممارستها.
هذا بجانب العديد من الجدليات الروحية التي يناقشها هذا الفيلم، والذي يعتبر من أكثر الأفلام السريالية التي حققت شعبية جماهيرية، وليست شعبية بين محبي السريالية أو صنّاع السينما فقط، هذا العمل يمكن أن يكون مثالًا جيدًا وبسيطًا على ممارسة السريالية في الفن، حين يخاطب لا وعي الفنان، لا وعي الإنسان المُتلقي أيًّا كانت جنسيته أو مكانه.
8- السريالية والتصوير الفوتوغرافي
لم يمر وقت طويل حتى انضم التصوير الفوتوغرافي إلى الحركة السريالية، وعلى الرغم من الهدف الأساسي وراء التصوير، وهو توثيق اللحظة الحالية كما هي للأبد، إلا أن بعض المصورين رأوا أن التصوير مثله مثل أي الفنون الأخرى؛ يمكنه أن يعبر عن لا وعي الفنان، ويمكنه أيضًا استخدام مفهوم التجاور في التصوير. وتلك الخطوة كانت من المحطات المهمة في تأسيس السريالية؛ لأنها أثبتت لمتابعي الفن والفنانين أن السريالية منهج متاح لكل أنواع الفنون.
ضمت الحركة السريالية أكثر من مصور فوتوغرافيا، ربما أهمهم هانز بيلمر، والذي تضمن البيان الأول للسريالية اسمه بصفته أحد مؤسسين تلك الحركة والمشاركين فيها.
- إحدى لوحات السريالي الألماني هانز بيلمر. مصدر الصورة موقع بينترست
«الجسد مثل الجملة التي تدعونا إلى تفكيكها لعناصرها الأولية، وهذا بغرض الكشف عن معناها الحقيقي من خلال تدفق لا نهائي من المعاني، ينتج من إعادة ترتيب الحروف بأشكال مختلفة»، هكذا يصرح هانز بيلمر عن شغفه في تصوير مجسمات غريبة الشكل والتراكيب للجسد البشري، وخاصةً الأنثوي.
اشتهرت أعمال بيلمر بتضمنها دُمى نسائية كبيرة الحجم مرسومة رسمًا سرياليًّا غريبًا، ومتواجدة في أماكن غير متوقعة، في ممارسة لمفهوم التجاور السريالي، الذي أسسه أندريه بروتون وتحدثنا عنه من قبل.
وحاول بيلمر تجسيد وجهة نظره عن العلاقات العاطفية التي تؤذي أصحابها، من خلال تلك المجسمات المشوهة، المتواجدة في أماكن غير مألوفة، وهذا من أجل صدمة الجمهور، بغرض توسيع أفق المُتلقي ليدرك إمكانية ربط صلات جديدة بين الأشياء.
- رينيه ماغريت. مصدر الصورة موقع ماتسن آرت
ومع مرور الوقت استمر انضمام مصوري الفوتوغرافيا للحركة السريالية من أنحاء العالم، مثل المصورة الأمريكية لي ميللر، والمصور الأمريكي مان راي، وبعض المصورين الذين أنتجوا أعمالًا فنية هي مزيج بين الرسم والتصوير من خلال «فن التلصيق» أو الـcollage، مثل المصور البلجيكي رينيه ماغريت، والذي كانت تتميز معظم أعماله بظهور قبعة سوداء مثل التي يرتديها رينيه في حياته الشخصية.
9- سريالية الموسيقى.. ونظرية الـ12 نغمة
لم تستطع الموسيقى أن تواكب الإنتاج الغزير والانتشار الذي حققته السريالية في الفنون الأخرى؛ ولكن كانت هناك بعض التجارب التي وضعت بصمة، كانت مهمة حتى وإن لم تستمر، مثل الكاتب السريالي والموسيقي بول جارون حين أشار إلى وجود رابط بين موسيقى الجاز والسريالية، ولكن تلك التجربة لم تترك أثرًا أو بصمةً في تطوير السريالية، حتى أسس الملحن النمساوي أرنولد شونبرغ نظرية الاثنتي عشرة نغمة، وكانت محطة مهمة في إثراء المنهج السريالي في بداية ظهوره.
وعلى الرغم من ثورية تلك النظرية التي حررت الموسيقى من الالتزامات المقامية واللحنية، إلا أنها لم تنتشر بين الموسيقيين، وظلت تستخدم على نطاق ضيق بين المُلحنين، ولكنها لم تستطع أن تمس بعض الجماهير أو متذوقي الفن بشكل عام، فعادةً ما يبحث محبو الموسيقى عن المقامات وقواعد الهارموني، وهذا ما حاولت تلك النظرية التمرد عليه. كما أن موقف أندريه –مؤسس الحركة السريالية- من انضمام الموسيقى إلى المنهج السريالي، جاء بالرفض، وكان رفضه واضحًا وحازمًا حين عبر عنه عام 1946 حين كتب مقالًا أسماه «الصمت من ذهب Silence is Gold».