في 24 من فبراير (شباط) 2022، خلت مدينة كييف عاصمة أوكرانيا من البشر تقريبًا، السكان اتجهوا إلى الملاجئ، والشباب اتجهوا إلى قواعد الجيش وكمائنه للدفاع عن البلاد، فخيَّم الصمت على أرجاء العاصمة إلا من صوتٍ آتٍ من بعيد للنشيد الوطني الأوكراني ورفرفة الأعلام على المؤسسات الحكومية في هواء فبراير (شباط) البارد، وبين وقتٍ وآخر تكسر أصوات القذائف الروسية هذا الصمت وتعلو على صوت النشيد.
هكذا تفضل الدول بث نشيدها الوطني ورفع أعلامها في الأوقات الحرجة والأحداث المهمة، اعتزازًا بتاريخها وثقافتها وهويتها، وخلف كل نشيد قصة ومأساة، فما هي المأساة التي يحكيها النشيد الوطني الأوكراني؟
تصارع لإثبات هويتها.. هكذا وُلد النشيد الوطني الأوكراني
إذا نفضنا الغبار عن جذور الصراع الروسي والأوكراني، ورجعنا إلى جذوره التاريخية، سنكتشف عمق هذه الجذور وتشعبها بين سعي أوكرانيا للانسلاخ من السيطرة الروسية ورغبة روسيا المضادة في الهيمنة عليها حفاظًا على حدودها الجغرافية واستعادة حلمها المُجهض بإنشاء الإمبراطورية الروسية.
وبسببٍ من هذا الصراع بالذات عجزت أوكرانيا عن الاستقلال بهويتها وثقافتها، فظلت تابعة لروسيا، تنشد الأناشيد الروسية التي تحض الجنود على القتال ببسالة أمام القبائل الذهبية المغولية، أو تتغنى بأغاني روسيا الوطنية التي تحمل صبغة دينية، لكن هذا لم يدم طويلًا.
إلا أن جاء الصحفي بافلو تشوبينسكي، الذي ولد في بروسبيل عام 1839، وتنحدر أصوله من عائلة قوزاقية عريقة، والتحق بكلية الحقوق في سن بطرسبورج، فسنحت له الفرصة للانغماس في قضايا المجتمع الأوكراني وبدأ بالكتابة في صحيفة «أوسنوفا»، الأمر الذي أتاح له لقاء المفكرين الأوكرانيين البارزين أمثال الشاعر تاراس شيفتشينكو، الذي كان بمثابة والده الروحي.
في عام 1861، عاد بافلو إلى أوكرانيا بعد حصوله على درجة الماجستير من كلية الحقوق، وانضم إلى حركة الانعاش الوطني الأوكراني، وهي جمعية سرية، اهتمت بتعليم القرويين الأوكرانيين وتطوير الأدب الأوكراني وتعزيز لغة أوكرانيا، وصقل هويتها، وفي الوقت ذاته اقترح مفكرو الحركة تأليف قصيدة وطنية تحض الأوكرانيون على الانتفاضة والاستقلال.
وفي خريف عام 1862م، قضى بافلو تشوبينسكي نصف ساعة في شقته المستأجرة بالعاصمة كييف ليكتب إحدي القصائد الوطنية تحت عنوان «أوكرانيا لم تمت بعد»، والتي استلهمها من النشيد الوطني البولندي وأغنية الصرب المتمردين.
«لم تمت أوكرانيا بعد ولا المجد ولا الحرية، سيبتسم لنا القدر، نحن الإخوة القوازق، يفنى أعداؤنا، كالندى في الشمس، ونحافظ نحن على أرضنا».
مصدر الصورة: الجامعة التقنية الوطنية في أوكرانيا «معهد إيغور سيكورسكي كييف للفنون التطبيقية»
وفي 20 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1862، أمر قائد الشرطة فاسيلي الكسندروفيتش دولغوروكوف، بنفي باوفلو إلى أرخانسغلك، لمناهضته للإمبراطورية الروسية وتحريضه على استقلال أوكرانيا، ولحسن حظه تمكن باوفلو من دراسة أنثربولوجيا الشعب الأوكراني خلال فترة نفيه التي دامت سبع سنوات.
القصيدة تشعل جذوة الثورة.. النضال الشاق ضد الهيمنة الروسية
في عام 1863، نُشرت القصيدة في مجلة «ميتا» البولندية، بعدما جرى تهريبها إلى هناك، ولاقت استحسانًا بين أوساط المثقفين الأوكرانيين هناك، بفضل قدرتها على تجسيدها للنضال الأوكراني ضد الهيمنة الروسية ولتناغم كلماتها، حتى إنها لفتت انتباه قائد إحدى الفرق الموسيقية الغربية الشهيرة حينذاك، وهو مايكل فيربتسكي، فألف موسيقاها، وعلى هذا النحو جمعت القصيدة الحسنيين: الكلمات المكتوبة المستوحاة من اللغة اليومية لشرق أوكرانيا واللحن الموسيقي الغربي.
وفي عام 1864م، قُدمت القصيدة للمرة الأولى في أوبرا كوميدية على مسرح أوكراني في مدينة لفيف، ومست القصيدة الملحنة شغاف قلوب الأوكرانيين، واشعلت حمية المناضلين المطالبين بالاستقلال والحرية، وذاع صيتها من غرب أوكرانيا حتى الولايات المتحدة وكندا، وظلت مجرد قصيدة محببة إلى قلوب أنصار استقلال أوكرانيا حتى بداية العقد الثاني من القرن العشرين.
ففي أكتوبر (تشرين الأول) 1917م، سقطت الإمبراطورية الروسية، بعدما اندلعت الثورة البلشفية وارتقى الشييوعيون إلى الحكم، فمهد ذلك الطريق أمام استقلال أوكرانيا، وإقامة الجمهورية الأوكرانية الشعبية عام 1918، في ظل هذا الاستقلال، والتقطت اوكرنيا أنفاسها، وبدأت بتشكيل هويتها الخاصة، وفي تلك الأثناء تُرجمت القصيدة إلى الإنجليزية والألمانية، ونشرت في العديد من المجلات، وأصبحت نشيدًا يتغناه الأوكرانيون في بلادهم عقب الاستقلال، دون مرسوم رسمي.
وبمجرد أن حصلت البلاد على استقلالها اعتمدت أوكرانيا علمًا رسميًا يتألف من شريطين متوازيين من اللون الأزرق واللون الأصفر، إذ يرمز الأزرق إلى السماء أما الأصفر فهو رمز لحبوب القمح، المحصول الذي تنتجه البلاد بكميات وفيرة.
عودة الروح.. القصيدة نشيدًا وطنيًّا للبلاد
لسوء الحظ القوميين الأوكران لم يدم استقلال أوكرانيا إلا بضع أعوام، إذ استعادت روسيا سيطرتها مجددًا على أوكرانيا، وعدتها إحدى الدول المؤسسة للاتحاد السوفيتي الذي تأسس ما بين عامي 1922و1923، وكان اعتراف السوفيت باستقلال أوكرانيا في البداية صوريًّا وضرورة لاستمالتها.
لذا فقد مقت النظام البلشفي النشيد الوطني الأوكراني مقتًا شديدًا، بوصفه قصيدة قومية وبرجوازية متطرفة، لكن إذا تسائلنا عن السبب الرئيس، فهو الرغبة إخماد فتيل الثورة القومية وترويض الفكر الأوكراني الذي يسعى إلى الاستقلال، وقد جرى كبت هذا النزوع الانفصالي طوال عقود الازدهار السوفيتي، التي اختفى أثناءها النشيد الوطني الأوكراني.
لكن في عام 1991، انفرطت حبات عقد الاتحاد السوفيتي وتفكك إلى 15 دولة مستقلة، منها دولة أوكرانيا، واحتفالًا بهذا الحدث جرى عزف قصيدة تشوبينسكي في القصر الوطني للفنون، فبعد عقود من التجاهل والنسيان استعادت القصيدة رونقها وشهرتها.
وفي ديسمبر (كانون الأول) عام 1991م، أقر الاستفتاء الشعبي بأحقية أوكرانيا في الانفصال عن الاتحاد السوفيتي ومنحها استقلالها الكامل، وفي يناير (كانون الثاني) عام 1992، وافق رئاسة المجلس الأعلى الأوكراني على النسخة الموسيقية للقصيدة نشيدًا وطنيًّا، وفقًا للمادة رقم 20 من الدستور الأوكراني، وجرى اعتماد النسخة التي لحنها مايكل فيربتسكي نشيدًا وطنيًّا رسميًّا لأوكرانيا، وفي العام ذاته تمكنت البلاد من رفع أعلامها الملونة باللونين الأصفر والأزرق على مبانيها.
في عام 2003، لم يرض البرلمان الأوكراني بالنزعة التشاؤمية التي تطغى على النشيد الوطني الداعي للتخلص من الهيمنة الروسية، واعترض آخرون على كلمة القوازق، والتي توحي وكأن الشعب الأوكراني ليس من أصول أوكرانية، فأقام البرلمان عدة مسابقات لإعادة صياغته، واستبدال كلمة «القوزاق» بـ«الأوكرانيين»، وعلاوةً على ذلك اقتطع الأجزاء التي تشير إلى نهر الدون والبحر الأسود وجبال الكاربات، واكتفى بسرد هزيمة الأعداء والحصول على الحرية، ليصبح النشيد بهذا الشكل:
«لم تمت أوكرانيا ولا المجد ولا الحرية، سيبتسم لنا القدر، نحن الإخوة الأوكرانيون، يفنى أعداؤنا، كالندى في الشمس، ونحافظ نحن على أرضنا»