«ماس كهربائي»، تبدو هذه العبارة مثيرة للسخرية خاصة بين المعارضين السوريين الذين باتوا يذيلون منشوراتهم بها في سخرية من عمليات القصف الإسرائيلي على المواقع الإيرانية في بلادهم، حيث عكف النظام السوري على إنكار عمليات قصف أراضيه من قبل إسرائيل بالتذرع أن الانفجارات ناجمة عن «ماس كهربائي».
منذ يوليو (تموز) 2019 استعار العراقيون جملة «ماس كهربائي» من السوريين للسخرية أيضًا من إنكار الحكومة العراقية للعمليات الإسرائيلية التي أخذت تنال من أرضيها في الأسابيع الماضية، حيث كررت إسرائيل غاراتها على مخازن السلاح والصواريخ الإيرانية في العراق.
«ماس كهربائي».. العراق تحت نيران إسرائيلية
سجلت في 19 يوليو 2017 أولى الضربات الجوية الإسرائيلية على الأراضي العراقية بعد ضرب المفاعل النووي العراقي في بداية ثمانينات القرن الماضي، استهدفت الغارة «اللواء 52» الواقع ضمن قوات «الحشد الشعبي» المقيمة في معسكر يقع خارج بلدة أمرلي، بمحافظة صلاح الدين، شمال شرقي العراق.
وبعد نحو 10 أيام استهدفت غارة أخرى معسكر أشرف مقر قيادة «لواء بدر» في محافظة ديالى، فدمرت فيها قاذفات صواريخ كانت قد وصلت لتوّها من إيران، وكذلك إمدادات الصواريخ الباليستية.
قوات الحشد الشعبي في العراق
كذلك في 12 أغسطس (آب) 2018 وقعت انفجارات في مستودع ذخيرة في معسكر الصقر التابع لـ«الحشد الشعبي» في جنوب بغداد، فقالت مصادر عراقية أنه عثر بعد القصف على حطام صواريخ من طائرات «درون»، أما في 20 أغسطس الحالي، فقد تفاجأ العراقيون بوقوع نحو ثمانية انفجارات في قرية البوحشمة في مدينة بلد التي تقع في القسم الجنوبي من محافظة صلاح الدين (شمال بغداد) نتيجة قصف مخزن للسلاح تابع لإحدى فصائل «الحشد الشعبي» «كتائب الإمام علي».
ويؤكد المراقبون أن إسرائيل ماضية في توسيع أنشطتها لتطال العراق بعد سوريا مرتكزة على وقائع بأن طهران قامت بنقل أسلحة ثقيلة وصواريخ للعراق تمهيدًا لأية مواجهة مرتقبة مع الولايات المتحدة، لذا يعتبر أستاذ العلاقات الدولية وعلم السياسة زيد الأعظمي أن كلتا الساحتين السورية والعراقية تعدان الآن مجالًا حيويًا للدول الإقليمية المتصارعة، وفي مقدمتها إسرائيل وإيران وحلفائهما، وبناء عليه وقع تصعيد عسكري تجاه ما أقدم عليه «الحرس الثوري» من نقل جزء من ترسانة صواريخه الباليستية إلى مخازن «الحشد الشعبي» في العراق.
ويوضح الأعظمي أن إسرائيل فهمت من التحركات الإيرانية أن هناك نوايا لتهيئة بطاريات صواريخ يصل مداها إلى تل أبيب وبسهولة، لاسيما أن المنقول من صواريخ باليستية، خاصة المسمى «ذو الفقار»، يصل مداه إلى أكثر من 700 كم، وبالتالي من السهل أن يصل إلى مشارف الحدود إذا ما تم إطلاقه من عمق الأراضي العراقية، فضلًا عن نوعين آخرين من الصواريخ الباليستية الإيرانية الصنع قد تم شحنهما إلى معسكرات «الحشد الشعبي».
فيما يرى الباحث العراقي في الشؤون الأمنية والاستراتيجية هشام الهاشمي أن إسرائيل تخشى من الصواريخ التي يمتلكها «الحشد الشعبي»، وهي جادة في أن تدمر نوعية من الصواريخ وهي: «زلزال2»، «زلزال 3»، «فاتح 110»، فهذه الصواريخ إذا ما تم تطويرها ستكون بكفاءة صاروخ «ذو الفقار» الإستراتيجي الإيراني، ويعتقد الهاشمي أن إسرائيل تريد أن تستهدف فقط المصانع التي تعمل على تطوير هذه الصواريخ حتى لا تشكل خطرًا على إسرائيل، فـ«الحشد الشعبي» لديه أكثر من سبعة أنواع من الصواريخ تم تصنيعها وتطويرها في العراق، خاصة أن فصائل الحشد تؤمن بإستراتيجية «حزب الله اللبناني» المسماة «خطة بيت العنكبوت» القاضية بقصف المدن الإسرائيلية المكتظة بالسكان لردعها عن العدوان.
الحكومة العراقية تتبنى «موقف اللاموقف»
ترفض الحكومة العراقية الحديث بشكل صريح عن التفجيرات التي استهدفت خلال شهر واحد أربعة مقار لـ«الحشد الشعبي»، هذا الواقع استفز الإيرانيين لدرجة كبيرة، حتى أن رئيس تحرير موقع « فرونت بيج» (الدبلوماسية الإيرانية)، علي موسوي خلخالي تساءل في مقال له «لماذا التزمت بغداد الصمت إزاء الهجمات الإسرائيلية؟ وأجاب في مقاله المعنون بـ«هل تخلت الحكومة العراقية عن الحياد؟» واعتبر ذلك «تنازلًا من الحكومة العراقية عن حيادتيها، واصطفافًا إلى جانب أمريكا».
رئيس الوزراء العراقي
ويؤكد الباحث العراقي في الشؤون الأمنية والإستراتيجية هشام الهاشمي على أن حرج الحكومة العراقية قد تعاظم إثر خروج تسريبات تؤكد أن السفارة والقيادة العسكرية الأمريكية الموجودة في العراق ما زالت تكثف زياراتها لمكتب رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، وتطلب منه عدم الذهاب بعيدًا مع «الحشد الشعبي» في اتهام إسرائيل بهذا الفعل، وهو ما أحرج عبد المهدي مع أهم حلفائه في الحكومة العراقية، وهم أحزاب فصائل «الحشد الشعبي» المستهدفة.
فيما يبين أستاذ العلاقات الدولية وعلم السياسة زيد الأعظمي أنه من الصعوبة من الناحية السياسية والأمنية أن تتخذ الحكومة العراقية موقفًا واضحًا تجاه التصعيد الجوي ضد مقار «الحشد الشعبي» في العراق، ويبين لـ«ساسة بوست»: «الحشد كونه مرتبط بإيران عقائديًا ولوجستيًا له قوة وسطوة ضاغطة على رئيس الوزراء عادل عبد المهدي ربما تطيح به من رئاسة الحكومة، من جهة أخرى رئيس الوزراء العراقي لديه التزامات قطعها لوزير الخارجية الأمريكي بتسوية ملف «الحشد الشعبي» ودمج سلاحه بالمؤسسة العسكرية الرسمية، ولكن قوة الحشد تنامت الى حد كبير على المستويين السياسي والأمني الذي جعله كيانًا موازيًا ودولة عميقة في الدولة العراقية ليس من السهولة تجاوزها».
فيما يصف الباحث العراقي إياد الدليمي الحكومة العراقية بأنها «لا حول ولا طَول»، فهي من جانب لا تريد أن تغضب واشنطن، ومن جانب آخر تريد استرضاء إيران، بالتالي فإن «موقف اللاموقف» هو الأنسب لها في هذه المرحلة.
ويشير الدليمي خلال حديثه لـ«ساسة بوست» إلى أن العراق اليوم ضعيف وتتقاسمه مصالح الدول الكبرى والإقليمية، وفيما يتعلق باحتمالية وقوف التطبيع مع إسرائيل وراء صمت الحكومة العراقية، يقول الدليمي: «إن هناك أطرافًا سياسية داخل العراق لا مشكلة لديها في التطبيع مع إسرائيل أو حتى التعاون، ولكنها لا تقوى بالمجاهرة لأنها تعرف مدى قوة وسطوة الأطراف السياسية الأخرى المحسوبة على إيران»، مستدركًا: «كما أن هناك أطرافًا عراقية لا ترى بأسًا في التعاون حتى مع إسرائيل، بالرغم من أن ذلك يقود لتقويض نفوذ إيران في العراق».
بيد أن الأعظمي يوضح لنا أنه لا يمكن البت في واقع أن إسرائيل حليفة للعراق ولو بالخفاء، فملامح التطبيع لم تتضح قياسًا بدول أخرى، ولكنه يؤكد أن العراق حليف طبيعي للولايات المتحدة وأوروبا، وهناك مصالح مشتركة ورؤى إستراتيجية غربية يقع العراق في صلبها دون أدنى شك.
ما هي خيارات الحكومة العراقية الآن؟
«في هذه الأثناء، أثارت الهجمات في العراق مطالبًا بأن تشتري البلاد صواريخ مضادة للطائرات وأن تحسن أنظمة دفاعها الجوي التي عفا عليها الزمن منذ عقود. كما طالب أعضاء البرلمان العراق بالسيطرة على أجزاء من مجاله الجوي الذي تشرف عليه الولايات المتحدة حاليًا»، هكذا تحدث الصحافي الإسرائيلي البارز، زيفي بارئيل، في مقال له بصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية عن خيارات حكومة بغداد بعد تعدد عمليات القصف الإسرائيلي في أراضيها.
صواريخ الحشد الشعبي
ويتوقع الباحث العراقي إياد الدليمي أن يتواصل قصف مواقع «الحشد الشعبي»، بالرغم من الغضب الذي أبدته فصائل وميلشيات الحشد في العراق، كذلك لا يستبعد – ونتيجة تبني الحكومة العراقية موقفًا صامتًا – أن تذهب حكومة عادل عبد المهدي ضحية ما يجري، موضحًا لـ«ساسة بوست»: «الحكومة العراقية التزمت الصمت حيال هذا القصف لأنها لا تريد أن تغضب الولايات المتحدة، لكن هذا الصمت قد يكلفها كثيرًا بأن تتحالف القوى السياسية المقربة من إيران وتقوم بسحب الثقة منها عبر البرلمان».
أما عن خيارات التصرف لحكومة بغداد الآن، فيعتقد أستاذ العلاقات الدولية وعلم السياسة زيد الأعظمي أنه «ستبقى بغداد ممسكة للعصا من الوسط، وتناور باللجان التحقيقية، كونها الطرف الأضعف في المعادلة الأمنية الإقليمية، وإغضاب أي طرف على حساب آخر سيكون ثمنه الحرب على الساحة العراقية التي وعد الأمين العام لـ«حزب الله» أن تكون ساحة النزاع مع الولايات المتحدة وإسرائيل إن أرادا الحرب مع إيران».
كما يشير الأعظمي وهو عضو «الهيئة العلمية لأكاديمية العلاقات الدولية» أن ما يجري من تصعيد لم يتم إلا بقبول أمريكي-روسي، وخاصة أن موسكو على دراية تامة بخارطة الانتشار الإيراني على الأرض العراقية والسورية، فموسكو عضو في تحالف رباعي مع بغداد وطهران ودمشق تشكل إبان الحرب على «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)»، كما أن واشنطن لا تريد أن يُنظر إليها على أنها تهاجم إيران بنفسها.
يشار هنا إلى أن الخطوة الأبرز التي تدلل على هذا التوافق هي الاجتماع الأمريكي الروسي الإسرائيلي في نهاية يونيو (حزيران) 2019 في القدس، والكشف عن أن الاجتماع جاء لإعطاء الأولوية لأمن إسرائيل في سوريا والعراق، حيث منحت إسرائيل «الضوء الأخضر» للضغط على إيران دون الإضرار بالوجود في العراق حاليًا، إضافة إلى احتمال وجود تنسيق عملياتي أمريكي-إسرائيلي بسبب الوجود الأمريكي في العراق.