تشددت الإجراءات ضده يهود سوريا بعد حرب يونيو (حزيران) 1967 بسبب نشاطات التجسس الإسرائيلية التي طالت سوريا، وبحسب بعض التقديرات غير الرسمية، فإن أعداد اليهود في سوريا تقلصت ما بعد إقامة إسرائيل من نحو 30 ألف إلى ما دون الخمسة آلاف توجه غالبيتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
لا يظهر النظام الحاكم في سوريا إلا العداء الشديد لإسرائيل؛ وهي البلد التي اضطهد فيها اليهود، وكان أبسط ما يمكن أن يقال عن وضعهم أنهم الوحيدون الذين خصصت لهم بطاقة تشير إلى طائفتهم كي تطبق عليهم قيود عدة من أبرزها منعهم من السفر خارج البلاد والتحرك داخلها إلا بإذن مخابراتي، وفيما يسلك النظام السوري الآن وحلفاؤه نهج التقرب من يهود سوريا أمام العالم لتحقيق مصالح عدة، وجدت إسرائيل في الصراع العسكري على الأرض السورية دافعًا قويًا لبث الخوف في نفوس اليهود الباقين في سوريا، فلم تكتف بتهجيرهم بل خاض الموساد عمليات سرية لسرقة موروث يهود سوريا الذي احتفظت به الطائفة منذ آلاف السنين.
تاريخ الوجود اليهودي في سوريا
يعود الوجود اليهودي في سوريا إلى العصور القديمة، فحسب التوراة وجدوا منذ عهد النبي داود عليه السلام، وازداد عددهم في القرن السادس عشر بعد طردهم على يد مسيحيي إسبانيا، وقد تمركز هؤلاء في دمشق وحلب والقامشلي، وبعدد أقل تواجدوا في نصيبين واللاذقية.
وحسب المصادر التاريخية، فإن هذا الوجود لم يتأثر بعد الفتح الإسلامي وحتى العهد العثماني، حيث بقوا في أحيائهم وكنائسهم بل كثر وجودهم في حي جوبر في ريف دمشق، وتتحدث بعض الوثائق عن وجود نحو 30 ألف يهودي حتى منتصف القرن التاسع عشر في سوريا، وبتتبع تاريخ الهجرة اليهودية السورية، يمكن القول أن هذه الهجرة بدأت عادية وبمحض الإرادة الشخصية لليهود، ففي عام 1843 أصبحت بريطانيا وتحديدًا مدينة مانشستر ذات مكانة خاصة في تاريخ المهاجرين اليهود السوريين، حتى أنهم اعتادوا القول: «السنة القادمة في مانشستر»، تحوير للعبارة اليهودية المشهورة «السنة القادمة في القدس»، فحينها اختار الكثير من يهود الشرق الأوسط ومنهم يهود سوريا تأسيس أنفسهم في قلب المدينة الصناعية البريطانية، ولذلك لم يكن السبب الرئيسي لتلك الهجرة الصراع أو القمع أو الاضطهاد، بل التجارة التي ربطتهم أيضًا بمصالح موطنهم الأصلي.
وفي المحطة التالية، وهي ما بعد الحرب العالمية الأولى (من سنة 1920 حتى 1934)، فقد غادر اليهود حلب ودمشق بسبب تجاذبات العلاقة بين الحركة الصهيونية وسلطات الانتداب الفرنسي، وكانت الثورة السورية الكبرى، عام 1925، والهجمات التي طالتهم من أهم الأسباب التي دفعت نحو ثلاثة آلاف يهودي للهجرة، كما دفعهم الانهيار الاقتصادي في تلك المدن عقب افتتاح قناة السويس للهجرة، وفي الثلاثينيات من القرن العشرين، تزايد الطلب على وثائق الهجرة إلى المناطق الإسرائيلية، من جراء الخروج على نطاق واسع من ألمانيا، ويقدّر أنه وصل إلى تلك المناطق بين عامي 1942 و1947 ما مجموعه 4.811 يهودي من سوريا ولبنان. حيث تسببت حوادث شغبٍ في حلب عام 1947 بنزوح يهودٍ حلبيين كثيرين إلى لبنان.
ثم قامت الحكومة السورية بعد إعلان الاستقلال في عام 1945 بوضع الكثير من العراقيل أمام يهود سوريا لمنع سفرهم إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، حتى تم في النهاية حرمانهم كلية من السفر، مما دفعهم لسلوك طرق غير مشروعة، ليصدر قرار بإطلاق النار على كل مَن يحاول اجتياز الحدود بدون إذن رسمي، وتشددت الإجراءات بعد حرب يونيو (حزيران) 1967 بسبب نشاطات التجسس الإسرائيلية التي طالت سوريا، وبحسب بعض التقديرات غير الرسمية، فإن أعداد اليهود في سوريا تقلصت ما بعد إقامة إسرائيل من نحو 30 ألف إلى ما دون الخمسة آلاف توجه غالبيتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

صورة لعائلة يهودية سورية في دمشق عام 1901 (المصدر: موقع المصدر الإسرائيلي)
أما في الثمانينيات من القرن العشرين، فقد تحول الأمر حين استجاب الرئيس السوري الراحل، حافظ الأسد لضغوط غربية ومطالب مؤسسات يهودية غربية، فسمح بنقل 13 فتاة يهودية من سوريا إلى الولايات المتحدة من أجل الزواج، ليصدر في عام 1992 قرارًا يقضي بالسماح لليهود بالسفر إلى الخارج، عدا إسرائيل، ويقدّر العدد الإجمالي لليهود السوريين في العالم بنحو 250 ألف نسمة، والتقت «ساسة بوست» بشاب سوري يهودي، تعود أصوله إلى يهود الشام (دمشق) كما يحب أن يقول.
«موشين» الذي عاش يتيمًا بين أسرة مسلمة في حمص، التحق حين كبر بجيش النظام السوري حتى تدرج إلى رتبة ضابط في تلك القوات، يقول عن ما قبل الثورة السورية: «كان النظام يمنع سفرنا حتى داخل البلد، أي من مدينة لمدينة، كنا مسجونين داخل أحيائنا، وكنا بحاجة لإذن من المخابرات»، وعندما اندلعت الثورة يقول «موشين» أنه أصبح حال اليهود في سوريا في المناطق التي ثارت ضد النظام كحال البقية، شاركوا في الثورة ودعموها، واكتشف أمر «موشين» بمعارضته للنظام حين غدر به أحد رفاقه، وحين حاول الهرب وكانت زوجته قد أنجبت قبل أيام من ذلك طفله الوحيد تعرض لمحاولة اغتيال فقد خلالها زوجته، بينما أصيب هو برصاصتين وتمكن من الهرب حتى أصبح الآن لاجئًا في الدنمارك مع طفله منذ عام 2012.
مآرب النظام في تبييض صفحته مع يهود سوريا
في أغسطس (آب) 2013، عرض على قناة أبو ظبي الإماراتية المسلسل السوري «يا مال الشام»، وأدت فيه دور البطولة الممثلة السورية الموالية للنظام، سلاف فواخرجي، شخصية فتاة يهودية سورية تدعى «وداد»، عاشت أحداث نكبة فلسطين عام 1948، ومرحلة عدم الاستقرار التي نالت من يهود سوريا آنذاك، وأظهر المسلسل هؤلاء باعتبارهم أغلبية تؤيد البقاء والنظام في سوريا.

أفراد من الجالية اليهودية في دمشق تصوت لصالح بشار الأسد في الانتخابات 2000 ( المصدر : أ ف ب)
لم يكن هذا المسلسل فقط هو ما عكس رغبة النظام السوري في رسم الصورة التي حاول دائمًا إظهارها بأنه يحسن التعامل مع الطائفة اليهودية في سوريا، فهو ينتهج في سياسته المعلنة ما يظهر للعالم الغربي تعامله الجديد مع اليهود، بغية تلميع صورته أمام المجتمع الدولي، وحتى لتحقيق مطامع اقتصادية كعدم عرقلة حركة السياحة في سوريا، ويعد ملف اليهود السوريين واحدًا من أكثر الملفات حساسية لدى النظام، فلا يصدر قرار يخصهم إلا بالرجوع إلى رئيس النظام الذي تؤكد المصادر السورية أنه يتولى إمساك هذا الملف بشكل شخصي بعد والده، ويمكنا الاستدلال على حقيقة ذلك بوثيقة صدرت في العام 2006، تظهر مدى حرص مخابرات النظام على طمأنة اليهود بأن أملاكهم في سوريا «مصانة» وأن رجوعهم إليها متاح ولا يوجد أي عائق أمامهم، وذلك بنص برقية موقعة من رئيس الفرع 271 التابع لـ(شعبة المخابرات العسكرية)، وتكشف تلك الوثيقة وغيرها عن وجود ما يسمى «مجلس إدارة أملاك اليهود الغائبين» و«اللجنة العليا لشؤون اليهود».
على ذات المنوال، تودد الحليف الأول للنظام لليهود السوريين أمام العالم، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لم يتردد عقب تدخله بسوريا بإرسال دبابة إسرائيلية استولت عليها سوريا في (حرب تشرين) عام 1973، صرح في ديسمبر (كانون الأول) الماضي بأنه: «من المهم أن يشرع في إعادة بناء الكنائس والأضرحة اليهودية، ونحن على تواصل مع ممثلي اليهود في سوريا، وتحديدًا مع بعض المنظمات اليهودية الأمريكية»، فمع اقتراب الوصول إلى حل في الأراضي السورية، ولحاجة موسكو للدعم المالي في إعادة الاعمار بدا بوتين يتودد لتأمين دعم اللوبي اليهودي، ويلبي آمال المؤسسات اليهودية باستعادة الممتلكات اليهودية، كما يظهر في ذلك استجابة لمطالب إسرائيلية سرية بشأن ممتلكات يهود سوريا.
وأتاحت الثورة السورية إمكانية الحديث عن يهود سوريا، حيث كان الحديث عن الطوائف ممنوعًا بحكم قانون العقوبات السوري، الذي فرض تهمة «إثارة النعرات الطائفية» على من يتحدث عن يهود سوريا، إلا أن من بقي من هؤلاء وأغلبهم في مناطق النظام لا يعترفون بالثورة السورية، ويحولون الانتهاكات التي يرتكبها النظام بحقهم إلى المعارضة، كما حدث في حي جوبر الدمشقي، حيث اتهموا الجيش الحر بقصف كنيس «سيدنا الخضر»، في جوبر وبتهديدهم، وبسرقة أقدم توراة في العالم.
ويمثل هؤلاء مدير صفحة «يهود سوريا» صموئيل صهيون، وهو يهودي من دمشق، فيقول إنه لا يجد اليهود في سوريا مصلحة لهم إلا في بقاء النظام، فإن انتصرت المعارضة، سيغادرون سوريا نهائيًّا، لأنهم «لا يستطيعون تصور أن يأتي رئيس من جبهة النصرة، أو الجيش الجيش الحر، ليحكم سوريا، فذلك بمثابة الكارثة، كل الطوائف في سوريا تقف إلى جانب الأسد لأنه شخص علماني ويحكم بحق»، بحسبه، بل يذهب إلى حقبة صراع النظام مع الإخوان المسلمين السوريين، فيقول: «تم حرق الكنوس (إبان المواجهات مع الإخوان المسلمين في الثمانينيات)، لهذا بعض اليهود السوريين رحلوا من شدة الخوف من الإخوان المسلمين، وسبق وقلت لك، القائد الخالد حافظ الأسد ساهم في ترميم الكنوس، وأيضًا لدينا صورة في الكنيس بالألوان الزيتية للسيد القائد حافظ الأسد».
وعن الذين هاجروا إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، يقول إنهم: «هم يكرهون سياسة دولة إسرائيل، ويتمنى البعض أن يرجع إلى سوريا، لكن القائد الخالد (حافظ الأسد) وضع شرطًا لليهود السوريين، من يخرج إلى دولة إسرائيل لا يمكنه الدخول مرة أخرى إلى سوريا إطلاقًا».
وقد أدى الصراع العسكري في سوريا إلى تدمير أشهر معابد اليهود، معبد (النبي إلياهو) في حي جوبر بدمشق حيث دمر المعبد الذي بني منذ أكثر من 400 عام، ويضم الحي أقدم كنيس يهودي، وأقدم نسخة من التوراة في العالم، كما تضررت المقابر اليهودية في دمشق وحلب التي تضم رفات كبار رجال الدين ورموز الطائفة اليهودية السورية.
هكذا تلعب إسرائيل بورقة يهود سوريا
مع كم العداء المعلن بين النظام السوري وحلفائه من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، قد يبدو غريبًا أن يصل الأمر بتمكن الأخيرة من تلبية احتياجات الطائفة اليهودية في سوريا الخاصة بالاحتفالات اليهودية، يحدث ذلك في السنوات الأخيرة، وعن طريق «طرف ثالث» جعل عمليات وصول الحلوى والعصائر وغيرها من إسرائيل متوافرة أمام يهود دمشق قبل عيد الفصح، ليصبح أمر انتظار المساعدات الإسرائيلية ليهود سوريا للاحتفال بالأعياد اليهودية أمرًا معتادًا.

مهاجرون يهود من اليمن وصلوا إسرائيل (المصدر: شبكات التواصل الاجتماعي)
ويمكنا البدء بدور الاحتلال الكبير في تهجير اليهود السوريين، حيث تؤكد المصادر الإسرائيلية أنه من سبتمبر (أيلول) 1972 إلى إبريل (نيسان) 1973، أي خلال سبعة شهور نفّذ الموساد وسلاح البحرية الإسرائيلية أكثر من عشرين عملية سرية لتهجير شبان يهود من سوريا عن طريق بيروت، وكانت كل عملية تنجح في تهجير ما بين خمسةٍ إلى ثلاثين يهوديًا، ففي العام 1970 اتخذ قرار صادقت عليه رئيسة وزراء الاحتلال في حينه، غولدا مائير، يقضى بتهريب عدد من يهود سوريا إلى إسرائيل، أطلق على هذه العملية اسم «سميخا» (بطانية) السرية، لكن كان تاريخ تنفيذها في العام 2005، حين تمكنت وحدة كوماندوز تابعة لسلاح البحرية الإسرائيلي من تنفيذها بمتابعة من الموساد، وقد تمكنت الوحدة من التسلل عبر شاطئ اللاذقية وصولًا إلى قلب العاصمة دمشق.
وفي حلب التي يعود التاريخ اليهودي فيها إلى 3000 عام، استغلت إسرائيل الصراع السوري لمتابعة مسلسل تهجير اليهود من سوريا، ويبرز اسم رجل أعمال أمريكي يهودي يدعى «موتي كهانا» في العام 2015، إذ كان يقوم بالتواصل مع العائلات اليهودية الحلبية في مناطق سيطرة النظام، وبعد عملية ترهيب من احتمالية وصول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى المدينة يقنع كهانا هذه العائلات بأهمية المغادرة، كذلك استغلت معركة حلب ديسمبر (كانون الأول) 2016 التي شكلت مفترقًا هامًّا في التواجد اليهودي في المدينة، فقد هربت عائلات يهودية بمساعدة إسرائيليين.
نسق كهانا جيدًا لعمليات الهروب من حلب، فأقنع تلك العائلات بالسفر إلى تركيا ومن ثم إلى إسرائيل، وتروي المصادر السورية أنه لم يشجع عائلة يهودية على السفر إلى أمريكا كما كانت ترغب، قائلًا لهم: «إنه من الأسهل عليهم الوصول إلى إسرائيل، وأنني أيضًا إسرائيلي، وأؤمن بأنك إذا كانت يهوديًا، فيجب أن تهاجر إلى إسرائيل»، ويبدو أن تخوفات الأسرة تحققت حين استقبلت العائلة من قبل إسرائيل دون الابنة الثالثة المتزوجة من مسلم ولديها أطفال، إذ إن الكثير من يهوديات سوريا تزوجن من مسلمين ولم يعد يعترف بهن ضمن الطائفة اليهودية.

تيجان دمشق
لم تسع فقط إسرائيل لتهجير اليهود من سوريا، فهي معنية أيضًا بسرقة المورثات اليهودية التي كانت بحوزتهم، ويمكننا هنا ذكر عملية سرقة كتب التوراة القديمة والغامضة التي بقيت طوال مئات السنين في كنيس حوش الباشا العنابي في دمشق والتي تعرف عند اليهود بـ«تيجان دمشق»، هذه الكتب التي كُتبت حوالي عام 1260 في إسبانيا، نقلت مع اليهود الذي طردوا من إسبانيا ووصلوا إلى سوريا، وظلت محفوظة هناك طوال عشرات الأجيال، وتعود تفاصيل عملية السرقة تلك إلى العام 1993، عندما قام الموساد الإسرائيلي بعملية سرية، بهدف إعادة تلك الكتب إلى دولة الاحتلال، وبطريقة ما تزال غامضة استطاع الموساد الحصول على ثمانية كتب، لتتواجد الآن «تيجان دمشق» في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، ويذكر اسم الحاخام أبراهام حمرا، رئيس الطائفة اليهودية في دمشق ويهود آخرين، باعتبارهم مساعدين في عملية سرقة التيجان، وحمرا الذي يبدي توقًا لحياته في دمشق. كان قد التقى ببشار الأسد قبل أن يتولى الحكم.