وجوه متعبة للغاية، لا يُرى تفاصيل ملامحها، فالأتربة الصحراوية الصفراء قد اعتلت الوجوه والملابس، تائهون وسط الصحراء قرب الحدود السورية العراقية، لا ماء، ولا زاد يصلب قواهم بعد حصار دام أشهر.
إنهم أطفال ونسوة وشيوخ، سوريون وأجانب، وصلوا إلى المخيمات والمواقع العسكرية الخاصة بـ«قوات سوريا الديموقراطية (قسد)»، ناجون بأعجوبة من الجيب الأخير لـ«تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» الذي أُغرق بالصواريخ والقذائف من قبل قسد والتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.
لتمحو هذه الصور آثار الحماسة التي ارتسمت على وجوه مقاتلي (قسد) الذين حملوا أسلحتهم، ورددوا الأغاني، مطمئنين بمشهد المصفحات المحملة بالذخيرة وشاحنات طراز (بيك آب) التابعة لقوات التحالف الدولي بقيادة أمريكية، ومنطلقين نحو مرحلة جديدة من عمليات «عاصفة الجزيرة» ضد آخر معاقل (داعش) في سوريا.
الجيب الأخير.. معركة «قادة الصف الأول» لـ(داعش)
في سبتمبر (أيلول) 2018، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المؤلفة من فصائل كردية وعربية بدء مرحلة جديدة من عمليات «عاصفة الجزيرة» ضد آخر معاقل تنظيم (داعش) في القطاع الشرقي من ريف دير الزور القريبة من الحدود مع العراق.
وهناك في الضفة اليسرى لنهر الفرات (هجين والشعفة والسوسة والباغوز)، بدأت (قسد) المعركة مدعومة بطيران التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في سوريا، وعن هذا البدء قال القيادي في قوات سوريا الديمقراطية إبراهيم الديري لوكالة «فرانس برس»: إن «المعركة مصيرية بالنسبة لنا ولـ(داعش) أيضًا، أتوقع أن يقاتل عناصر (داعش) حتى الموت، لا سيما أن المتبقين هم الانتحاريون الذين يرفضون الاستسلام».
ومع بدء هذه المعركة قدر عناصر (داعش) في الجيب المحاصر بنحو 3 آلاف مقاتل نسبة كبيرة فيهم من المقاتلين الأجانب، فحسب الديري: «إنه المعقل الأخير لمرتزقة (داعش)، كل قياداته وأمرائه الأجانب من خارج سوريا مجتمعون في بلدات السوسة، وهجين، والشعفة، وسنقضي عليهم هنا».
ومع توالي الأيام للمعركة، كانت (قسد) مع التحالف تقطع أجزاءً من مناطق نفوذ التنظيم واحدة تلو الأخرى، وكانت سوسة أكبر بلدة تحت سيطرة التنظيم سيطرت عليها (قسد) في منتصف يناير (كانون الثاني) 2019 ، فيما يقتصر موقف قوات النظام السوري المتواجدة على ضفة النهر المقابلة للمعركة على تعزيز مواقعها، بينما شاركت القوات العراقية، المتواجدة على الحدود السورية العراقية المقابلة للباغوز، في المعركة بالقصف المدفعي.
مقاتل من قسد
ومع السيطرة على القسم الأكبر من الجيب الأخير، يكون التنظيم قد خسر خلال الأسابيع الأخيرة، كافة المناطق التي كان يسيطر عليها شرق نهر الفرات في ريف دير الزور، وبذلك بات انتهاء المعركة لصالح (قسد) وشيكًا جدًا، حيث يقتصر وجود (داعش) الآن على بضعة كيلو مترات قليلة في بلدة الباغوز فوقاني، التي ينطلق عناصر التنظيم من بعض النقاط فيها، يقومون بهجمات ليلية مستخدمًا الانغماسيين، فحسب أقوال عناصر التنظيم: «هذه المعارك لاستنزاف قوات (قسد)، نحن عائدون للصحراء، ولكن نريد أن نستنزف هذه القوات وننهكها».
المدنيون ضحية.. مساحة صغيرة تشهد قصفًا دمويًا
«طائرات حربية مجهولة يرجح أنها تابعة للتحالف الدولي شنت غارات جوية على بلدة (الباغوز تحتاني) أودت بحياة 20 مدنيًا، بينهم عائلة تمّ قتلها بالكامل»، كان هذا جزء من خبر صحافي نشره موقع «دير الزور 24» في إطار تغطيته الخاصة بمحافظة دير الزور، وذلك يوم 18 من يناير (كانون الثاني) 2019.
وقعت هذه المجزرة حين حاول المدنيون الهرب من مناطق سيطرة (داعش) إلى مناطق سيطرة (قسد)، وهي المجزرة التي وقعت بعد أربعة أيام فقط من مجزرة أخرى ارتكبها التحالف في 14 من يناير 2019، حين استهدفت طائرته الأحياء السكنية في بلدة السوسة بريف دير الزور الشرقي، فقتلت أكثر من 35 سوريًا تطايرت أجسادهم في المكان.
لكن حتى قبل 24 ساعة من لحظة إعداد هذا التقرير كانت تقع مجازر أخرى، منها مجزرة نجمت عن قصف جوي على بلدة الباغوز استهدف تجمعًا للمدنيين النازحين، وتسبب في مقتل ثمانية مدنيين على الأقل من عائلة واحدة، هي عائلة محمد المجود الكدران، أما (قسد) فقط تسببت في 23 من يناير 2019 باستشهاد أكثر من 20 شخصًا بينهم نساء وأطفال، حين ألقت قذيفتي مدفعية ثقيلة قرب مسجد أبي بكر في الباغوز.
يوضح لنا المحلل السياسي والصحافي السوري من دير الزور سامر العاني أن (قسد) تقاتل (داعش) اليوم في مساحة لا تتجاوز 10 كم مربّع وهي المسافة الممتدّة من السفافنة وحتّى الباغوز، الواقعة شرق محافظة دير الزور من جهة شرق الفرات، وهذا القتال كعادة (قسد) لا يأتي بأي نتيجة، إلا إذا ترافق مع قصف مكثّف من قبل طائرات التحالف الدولي، وحسب العاني فإن «هذا القصف لا يستهدف مقرّات تنظيم الدولة فقط، بل يمتد إلى الأحياء السكنيّة المأهولة بالمدنيين، وهذا يتسبب – بطبيعة الحال – بمجازر كبيرة تطال السكّان المحليين؛ ممّا يؤدّي لموجات نزوح داخلي من المناطق الخطرة إلى المناطق الأقلّ خطرًا حتّى لو كانت ضمن هذه المساحة الصغيرة التي تشهد قصفاً دمويّا».
ويرى العاني خلال حديثه لـ«ساسة بوست» أن موجات النزوح تتجاوز أحيانًا النزوح أو تغيير المكان للمدنيين من المناطق التي يسيطر عليها (داعش) إلى المناطق التي تسيطر عليها مليشيا (قسد)، وهذا يعني انتقالًا من خطر الموت إلى حياة الذل في المخيّمات التي تشرف عليها (قسد)، ويشير العاني إلى أن «مخيّمات قسد أشبه بالمعتقلات، فالابتزازات الماليّة منذ بدء النزوح وحتّى الوصول إلى المخيّمات لا تتوّقف، ابتداءً من المهرّب مرورًا بحواجز (قسد)، وليس انتهاء بالمخيّمات، هذا فضلًا عن الكثير من الانتهاكات التي وثّقتها المراصد الحقوقيّة المهتمّة بهذه المنطقة».
مرحلة «حرب العصابات على المدن»
في خضم المعركة الدائرة بين (داعش) و(قسد)، وتحديدًا في الـ23 والـ24 من يناير 2019 وصل نحو 700 جندي أمريكي إلى الأراضي السورية تحت ذريعة تأمين انسحاب القوات الأمريكية من سوريا.
تحالف من المقاتلين الأكراد والعرب
لكن ما حصل عليه المرصد السوري لحقوق الإنسان يؤكد أن الجنود هم قوات أمريكية خاصة جاءت للتحقيق مع قادة الصف الأول في (داعش)، حيث توقع أن يوجد في الجيب الأخير لـ(داعش) في دير الزور السورية هؤلاء، ولم يستبعد أن يكون من بينهم زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، وبالفعل ألقي القبض على بعضهم، أو سلموا أنفسهم إلى القواعد الأمريكية، حيث نقل العشرات من هؤلاء السوريين والأجانب عبر شاحنات من خطوط التماس نحو مناطق سيطرة (قسد) وقواعد التحالف الدولي.
هذا الحدث الذي يشير إلى نهائيات المعركة مع (داعش) في الأراضي السورية، لا يعني أن التحالف الدولي قد حقّق القضاء التام على تنظيم الدولة كما يقول المحلل السياسي والصحافي السوري من دير الزور سامر العاني، موضحًا «ما تحقق هو سيطرة (قسد) – أو ما يسمّيه بالشريك المحلّي – على المناطق الخاضعة لحكم (داعش)، وتحويل هذه المدن والقرى إلى مناطق غير صالحة للسكن بعد تدمير جزء كبير منها، وتدمير البنى التحتيّة بالكامل، فالتحالف لم يستطع القضاء التام على (داعش)»،
ويؤكد العاني لـ«ساسة بوست» أن «مقاتلي داعش استطاعوا الذوبان ضمن المدنيين، ولذلك فالخطر ما زال قائمًا في تلك المنطقة، وقد تعود خلايا التنظيم لنشاطها في أيّ لحظة، كما أنّ عددًا لا بأس به من مقاتلي التنظيم عبروا نهر الفرات من الضفّة الشرقيّة إلى الضفّة الغربيّة للنهر، والتحقوا بالجيب المتواجد غرب نهر الفرات، والممتد من بادية البوكمال، وحتّى بادية تدمر، وهذه مناطق صحراويّة تمكّن التنظيم من شنّ عمليّات حرب عصابات على المدن، ثمّ المناورة والعودة إلى مناطق تمركزهم».
ويعتقد العاني أنّ تنظيم الدولة، وهو تنظيم إيديولوجي، له فكره الجهادي الإسلامي الخاص، الذي لا يمكن القضاء عليه بالأعمال العسكريّة، إن لم تترافق مع معركة فكريّة مناهضة لهذا التنظيم، مستدركًا القول: «هذا ما لا تستطيع تحقيقه قوّات (قسد) التي لا تفكّر إلّا باقتطاع جزء من سوريا لتحقيق الحلم الكردي، وإنشاء كيان خاص بهم، ولا يمكن تحقيق القضاء الكامل على هذا التنظيم، إلا بالاعتماد على قوّات عربيّة سنيّة معتدلة من أبناء المنطقة، تدرك طبيعة المجتمع العشائري فيها، وتتعامل وفق هذه الطبيعة الخاصّة».
«داعش» ستعود إلى نمط العمل بالعراق في المناطق السورية
«التنظيم بات منهارًا بشكل كبير، ولم يعد بمقدوره الصمود أكثر؛ حيث يعتمد التنظيم في صده للهجمات على الألغام المزروعة بكثافة، والسيارات والآليات المفخخة، وعناصر من الانتحاريين والانغماسيين»، هذا ما أكده فارِّون للمرصد السوري لحقوق الإنسان عن الساعات الأخيرة للمعركة في دير الزور.
يقول الصحافي السوري في موقع «فرات بوست» صهيب جابر أن نحو 300 مقاتل من التنظيم محاصر حاليًا في 5 كم2 أو أقل مع عشرات المدنيين، مناطق هذا الجيب هي السفافنة، الشجلة، موزان، وأجزاء من الباغوز فوقاني في دير الزور.
ويضيف جابر الذي يتوقع أن ينتهي القتال في هذا الجيب خلال اليومين القادمة «هناك تعزيزات من التحالف الدولي على هذه المنطقة الصغيرة، ومصير مقاتلي (داعش) (مصبح مسي) كما يقول أهل دير الزور»، ويشير جابر خلال حديث لـ«ساسة بوست» أنه خلال الأسابيع والأشهر الماضية تسرب عدد كبير من مقاتلي (داعش) باتجاه البادية في الضفة المقابلة، برعاية نظام الأسد بعد دفع مبالغ طائلة، وذلك عن طريق السيال والغبرة في ريف البوكمال.
ويشدد جابر على أن التنظيم لن ينتهي ويتوقع أن تتغير استراتيجيته إلى الاستراتيجية التي كان يتبعها في العراق بين العامين 2003 – 2011، حيث سيبقى خياره الآن تشكيل مجموعات سرية لتجاوز العمل من منطقة نفوذ، وذلك هو نمطه السابق في العراق خلال نشأته،
وينقل لنا جابر شهادات لمدنيين محاصرين مع مقاتلي (داعش) في الداخل، قالوا إن قادة التنظيم يقولون لهم إنه لا يهم إن فقدنا كل هذه المناطق التي سيطرنا عليها، نحن طريقتنا الفعالة أكثر في القتال هي العمليات الفردية المنطلقة من المناطق ذات التضاريس الصعبة، ويوضح جابر «التنظيم يؤمن أن عمليات الخلايا النائمة فعالة أكثر من التواجد في منطقة يتلقى فيها ضربات مكثفة ومتواصلة من التحالف، هو قائم على هذه الاستراتيجية، ففي الفترة الماضية وقعت عدة تفجيرات في مناطق بعيدة عن مناطق نفوذ التنظيم، وقعت عمليات تفجيرية في الشمال السوري، الرقة والحسكة وكلها كان التنظيم مسئولًا عنها».