تندلع أعمال الشغب في سجن لميسا بمدينة تيخوانا بالمكسيك، نحو 2500 يُلقون الزجاجات المكسورة على رجال الشرطة الذين يطلقون نيران رشاشاتهم ردًا على التمرد، وفي ذروة هذا الصخب تظهر على الساحة سيدة دقيقة البنية لا تتجاوز سنوات عمرها 36 عامًا ترتدي زيًا محتشمًا وتمشي بهدوء وسكينة وسط هذه المعركة.
مدّت السيدة يديها بإيماءة بسيطة للتهدئة، ثم وقفت بثبات وأمرت الجميع بالتوقف عن هذا الصخب غير عابئة بسيل الرصاص والزجاجات المتطايرة، هذه السيدة كانت هي السيدة أنطونيا برنر المصلحة الاجتماعية التي غيرت حياة الآلاف من الناس.
اختارت السيدة أنطونيا العيش في زنزانة بسجن لميسا، بعيدة عن سبل الرفاهية ومن حولها القتلة والسارقون وتجار المخدرات، ومع ذلك كانت تعتبرهم كلهم أبناءها؛ فكانت تهتم باحتياجاتهم على مدار اليوم، وكانت تحضر لهم أدوية المضادات الحيوية، وتوزع عليهم النظارات الطبية، وتقدم النصح والمشورة إلى من يفكرون في الانتحار، وتشرف على مراسم الجنازات، وتشرح أنها تعيش هذه الحياة بسبب افتراض أنه من الممكن أن يتعرض أي شخص لمكروه في منتصف الليل؛ فيجب أن تكون هنا لتهب لنجدة أبنائها وحمايتهم.
فتاة هادئة رومانسية تحلم بالزوج والأسرة
عاشت السيدة أنطونيا -واسمها الحقيقي ماري كلارك- حياة هادئة؛ إذ ولدت في الأول من ديسمبر (كانون الأول) عام 1926 في لوس أنجلوس، وترعرعت في بيفرلي هيلز، بولاية كاليفورنيا، وهي الثانية من بين ثلاثة أطفال. توفيت والدتها، كاثلين، وهي حامل في طفلها الرابع. وكان والدها جوزيف، مديرًا تنفيذيًا ناجحًا للمبيعات في قطاع التوريدات المكتبية.
وكانت ماري بدورها فتاة رومانسية؛ إذ نشأت في تلك الفترة التي ازدهرت فيها مدينة هوليوود، وقد كانت فتاة جميلة خلال فترة مراهقتها تمضي أمسيات العطلات في الحفلات، وتحلم بالمستقبل، وكانت أحلامها بالمستقبل تلك تتضمن ارتباطها بزوج، وإنجاب الكثير من الأبناء، والعيش فى منزل يشبه تلك المنازل الموجودة في الكتب المصورة.
وتحققت أحلامها بالفعل؛ فبعد تخرجها من المدرسة الثانوية تزوجت ماري كلارك مرتين، لم تستمر الزيجة الأولى طويلًا، بينما استمرت الثانية لسنوات عديدة، وأنجبت سبعة من الأبناء، ربّتهم في منزل بمقاطعة جريندا هيلز، وبعد مرور 25 عامًا انتهت زيجتها الثانية بالطلاق؛ الأمر الذي ظل مصدرًا للألم بالنسبة لها، ورفضت مناقشته أو ذكره عابرًا رفضًا قاطعًا جازمًا، قائلة: «لا يعني انتهاء الحلم أنه لم يتحقق يومًا ما، كل ما يهمني الآن هو حياتي الثانية، مشيرة إلى حياتها مع السجناء بسجن لميسا».
الأم أنطونيا أثناء تكريمها عام 1983
بدأت ماري العمل التطوعي للفقراء في المكسيك في الستينات؛ إذ كانت ناشطة في العمل الخيري في كاليفورنيا عندما كانت متزوجة، ولكن الأمر اتخذ منحىً آخر أكثر جدّية بعد انتهاء زواجها ونضوج أبنائها الذين تجمعهم بها علاقة وطيدة، اتجهت كلارك وبصورة مكثفة إلى مساعدة من هم أقل حظًا في الحياة؛ فكانت معاناة الآخرين تؤثر عليها بشدة دومًا.
حافظت ماري على استمرار أعمال والدها لمدة 17 عامًا بعد وفاته، لكنها لم تكن تبغي التوسع في الأعمال التجارية، وحددت طريقها في الحياة بمشوار مختلف تمام الاختلاف عن الطريق الذي اختاره والدها، وعما اختارته هي كذلك لنفسها في حياتها الأولى، من البيت والزوج والأسرة والأبناء؛ لتبدأ في منتصف التسعينات في السفر مع قوافل لتوزيع الأدوية والغذاء على الفقراء.
الحياة في زنزانة مساحتها 10 أقدام
بدأت حياتها الثانية عندما ضلّت، هي ورجل الدين المشرف على قافلة الخير، طريقها إلى مدينة تيخوانا، وحينما كانا يبحثان عن السجن المحلي، انتهى الأمر بهما إلى سجن لميسا عن طريق الخطأ، وقد تأثرت أنطونيا على الفور بما شاهدته؛ ففي مستشفى السجن كان الرجال يعانون من المرض الشديد، ومع ذلك يقفون عندما تدخل عليهم.
لم تستغرق الكثير من الوقت لحسم أمرها، فلم يمض سوى وقت محدود توصلت خلاله إلى ما تريده لنفسها، وسريعًا ما قضت الليالي هناك تنام على سرير غير مريح في عنبر السيدات؛ حيث تتعلم اللغة الإسبانية، وتساعد النزلاء في السجن بجميع السبل الممكنة.

الأم أنطونيا أثناء تحيتها في سجن لميسا- المصدر: telegraph
وفي سن الخمسين انتقلت من قسم النساء في السجن من زنزانة مساحتها 10 أقدام، إلى غرفة خاصة حيث أصبح بإمكانها أن تأتي وتذهب بحرية، لكنها كرّست نفسها للحياة في الداخل، وتوسعت مهمتها باستمرار من السجناء والحراس إلى عائلاتهم.
الجميع يشكرون أنطونيا
في مقابلة لها عام 2005 لكتاب «ملاك السجن»، للمخرجة ماري جوردان وكيفن سوليفان، تقول الأم أنطونيا: «عندما تعرف في قلبك أن شيئًا صحيحًا، وأنك أنت، وأن الله يدعوك إلى فعل شيء ما، فلا بد أن تُقدم التضحيات التي يجب عليك أداؤها».
ظلت الأم أنطونيا على اتصال دائم مع أطفالها، وزارها العديد منهم في سجن لميسا، أطفالها الذين صاروا رجالًا ونساءً يافعين، وأصبح لها منهم العديد من الأحفاد الذين كانوا يزورونها هم أيضًا، وقد جذبت الأعمال الخيرية للأم أنطونيا الثناء لها من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الرئيس المكسيكي السابق فيسينتي فوكس، والرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان.
يقول كاس -سجين سابق- والذي أطلق على ابنته اسم أنطونيا؛ تيمنًا باسم الأم أنطونيا: «لا أعرف كيف يمكن للآخرين مواكبتها؛ فهي دومًا في عجلة من أمرها، ومع ذلك فدومًا ما يكون لديها متسع من الوقت لك، هكذا فإن حب الآخرين لها لم يأت من فراغ».
وعن ذلك تقول الأم أنطونيا إن الحب هو كل ما لديها لتمنحه للآخرين، وكثيرًا ما أكدت موقفها بأنها تنكر الجريمة بشدة، لكنها لا تقسو على الجاني: ففي إحدى المرات كانت تتحدث إلى شاب لم يتجاوز عمره 19 عامًا سرق سيارة تمتلكها أسرة، كانت تودّ أن توضح له فقط سوء فعلته، فسألته عما إذا كان يعرف ما الذي تعنيه السيارة بالنسبة لأسرة بسيطة، وكم تستغرق الأسرة من الوقت وتقتطع من الدخل في الأساس لشراء واحدة؛ لكي يأتي هو ويحرمهم منها في لمحة عين، وأضافت قائلة له: «إنني أحبك، لكنني لا أتعاطف معك، ثم ربتت على كتفه وانصرفت».
وفي عام 2013، توفيت الأم أنطونيا التي تركت الحياة المريحة في جريندا هيلز لتخدم السجناء في سجن مكسيكي سيئ السمعة عن عمر يناهز 86 عامًا في مدينة تيخوانا بالمكسيك، الأم أنطونيا التي أصبحت راهبة في نهاية المطاف، وأمضت أكثر من 30 عامًا تعيش في زنزانة باختيارها تمامًا، وغير مجبرة على ذلك بأية حال من الأحوال.