نشر موقع «عربي21» مقالًا لرئيس تحريره، فراس أبو هلال، بعنوان: «من البلاشفة إلى مانديلا.. حتمية الثورة وطريقها الطويل»، يتحدث فيها أبو هلال عن أربعة أحداث تاريخية ثورية، وقعت في شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط)، وكيف تصلح أن تكون هذه الأحداث دروسًا تاريخية تحكي عن حتمية اندلاع الثورات ضد الأنظمة الفاشلة.
وفيما يلي نص المقال:
قد لا يكون التاريخ مكررًا لنفسه، ولكنه بكل تأكيد له ثوابت تتكرر من فترة إلى أخرى، وتترك بصمتها على مصير الأمم والشعوب، وتترك دروسًا تستحق أن تدرس بعناية، فمن لا يفهم تاريخه وتاريخ الآخرين لا يستطيع أن يشارك في صناعة مستقبله.
ثمة أحداث أربعة سجلها التاريخ في شهري يناير وفبراير، قد تبدو غير مرتبطة، ولكنها في الحقيقة مشدودة بخيط رفيع وقوي في آن، هو خيط «الحكمة التاريخية» التي تصلح أن تدرس في كل وقت وفي كل مكان. هذه الأحداث هي: الثورة الروسية التي انطلقت في 22 يناير 1905، وانطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة في الأول من يناير 1965، ومسيرة استقبال نيلسون مانديلا عن خروجه من السجن منتصرًا في 11 فبراير 1990، وانتصار الثورة المصرية وإسقاط مبارك في 11 فبراير 2011.
دروس الثورة البلشفية.. إلى مصر وفلسطين
اشتعلت ثورة روسيا في 22 يناير 1905 بعد أحداث أليمة شهدتها البلاد، اجتمعت فيها سطوة الدولة وفشلها في حل مشكلات الشعب. كان الحدث الأهم الذي أشعل فتيل الثورة هو المسيرة التي قام بها عشرات الآلاف من المواطنين لأحد قصور القيصر لتقديم التماس للأخير بتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية، ولكن الشرطة ردت على المتظاهرين بإطلاق النار، وقتل 4 آلاف منهم، في يوم أطلق عليه اسم «الأحد الدامي».
استمرت الثورة بشكلها السلمي والعنيف (المسلح) حتى منتصف العام 1907، وانتهت عمليًا بإقرار إصلاحات سياسية تبين فيما بعد أنها شكلية. ولكن الثورة عادت لتشتعل بعد عقد من الزمان بشكل متقطع، حتى وصلت ذروتها في أكتوبر (تشرين الأول) 1917؛ ما أدى فيما بعد لتنحي القيصر وتغيير وجه الاتحاد السوفيتي والعالم لسبعة عقود قادمة.
عند انتهاء ثورة 1905 قال فلاديمير لينين: إن الثورة هزمت، وإنه لن يعيش ليراها مرة ثانية، ولكن التاريخ يقول لنا إنه عاش الثورة مرة ثانية في حياته، وأنه انتصر فيه، وأصبح زعيمًا لواحدة من أهم وأكبر دول العالم في ذلك الوقت.
إذا أردنا أن نتلمس الحكمة التاريخية من هذه الأحداث، فإن أهم ما سنجده هو أن الثورة ضد الأنظمة الفاشلة حتمية، حتى لو خسرت جولة من الجولات، وهكذا فإن فشل الدولة الروسية في تخفيف القمع وفي حل مشكلات الشعب الحياتية جعل استعادة الثوار لزمام المبادرة أمرًا حتميًا رغم القوة الأمنية الكبيرة للدولة. حكمة أخرى يمكن أن نأخذها من أحداث الثورة الروسية حتى انتصار البلاشفة، وهي أن طريق الثورات طويل وشائك، وأنه يحتاج للصبر ليحقق أهدافه الكاملة.
تقول لنا الحكمة التاريخية من تاريخ الثورة الروسية إن من يعتقد من حركات التحرر الوطني الفلسطيني بجميع فصائلها، أو من القوى الثورية في مصر أن فشل محطات من النضال أو هزيمتها يعني انتهاء الصراع فهو مخطئ، ومن يعتقد منهم أن انتصار الثورات يتم بضربة واحدة فهو واهم، فالثورات حتمية ما دامت أسبابها موجودة (الاستبداد وفشل الدولة في حالة مصر، والاحتلال في حالة فلسطين)، ولكن الثورات مع حتميتها، تبقى رحلة طويلة قد تحتاج لأجيال، ولا يمكن أن تنجح إلا بطول النفس واستمرار النضال.
من مانديلا إلى ثوار مصر وفلسطين
إذا أردنا قراءة البرنامج السياسي لمانديلا بعد خروجه من السجن في 11 فبراير 1990، وهو نفس تاريخ خروج الرئيس المصري الراحل حسني مبارك من القصر، فإن علينا قراءة خطابه الذي ألقاه في المسيرة الجماهيرية التي ذهبت لاستقباله بعد الخروج من السجن.
في ذلك الخطاب لم يتخل مانديلا عن النضال، ولم يعلن توقفه، ولم يصف نضال جناحه المسلح (Umkhonto we Sizwe) بالإرهاب، بل وجه له التحية، وأكد أن هذا النضال لن يتوقف حتى تحقيق أهداف المؤتمر الوطني الأفريقي، وشعب جنوب أفريقيا عمومًا. وفي نفس الخطاب طالب مانديلا المجتمع الدولي بمواصلة العقوبات على النظام؛ لأن أسباب المقاطعة لم تزل موجودة، وأنها يجب أن ترفع فقط عندما يتغير النظام وتتحقق العدالة للجميع.
عندما وقع ياسر عرفات أوسلو تخلى عن النضال لسنوات، ولم يتراجع عن هذا الموقف إلا في الانتفاضة الثانية عندما أدرك خديعة أوسلو كما يبدو، ولم تزل حركة فتح حتى اليوم تائهة بينما يغيب برنامجها النضالي ضد الاحتلال إلا في بياناتها الخطابية. لم يفهم الفلسطينيون الحكمة التاريخية من خطاب مانديلا الأشهر والأهم في تاريخه النضالي، وآن لهم أن يفهموا بعد كل هذه السنوات من الغرق في مستنقع أوسلو أن نضالهم (بالشكل الذي تتيحه الظروف والحسابات) يجب أن لا يتوقف إلا عند تحقيق أهدافهم الوطنية.
أما في مصر فقد كان على الثوار فهم هذه الحكمة، وإكمال نضالهم السلمي حتى تغيير سلوك النظام تمامًا، ولكنهم بدلًا عن ذلك انشغلوا بالتفاصيل، والخلافات، وجني الثمار المتعجلة، بينما كانت الدولة العميقة تنشغل بالمشهد الكلي لاستعادة السيطرة، وهو ما حدث فعلًا بعد سنتين. إذا كان هناك ما يمكن أن يتعلمه ثوار مصر من مانديلا، فهو أنهم يجب أن يستمروا في نضالهم السلمي حتى تحقيق كافة أهدافهم، وأن لا يكرروا أخطاءهم في المستقبل عندما تقوم موجة جديدة من الثورة، وهي موجة حتمية قادمة بلا شك، اليوم أو غدًا أو بعد 10 عام!
هوامش من خطاب مانديلا:
- أحيي مقاتلي «أمخونتو وي سيزوي» (الجناح العسكري للمؤتمر الأفريقي)، مثل سولومون ماهلانجو، وآشلي كريل، الذين دفعوا ثمنًا بالغا لأجل حرية جنوب أفريقيا.
- العوامل التي جعلت الكفاح المسلح ضروريًا لم تزل موجودة إلى اليوم. لا يوجد لدينا خيار سوى أن نستمر. نعبر عن أملنا بأن تقود الأجواء الحالية لتسوية تفاوضية يتم التوصل إليها قريبًا، وهو ما قد يجعل الكفاح المسلح ليس ضروريًا بعد ذلك.
- لقد انتظرنا طويلًا لأجل حريتنا، ولا نستطيع الانتظار أكثر. إن هذا هو الوقت لتكثيف نضالنا في جميع الجبهات. إن تخفيف جهودنا الآن سيكون خطأً لن تكون الأجيال القادمة قادرة على غفرانه.
- نطالب المجتمع الدولي بالاستمرار في حملاته لعزل نظام الفصل العنصري.
- لقد قاتلت ضد هيمنة البيض، وقاتلت ضد هيمنة السود. لقد طمحت إلى هدف مثالي بمجتمع ديمقراطي وحر يعيش فيه كل الأشخاص معًا بتجانس وبفرص متساوية. إنه هدف أتمنى أن أعيش له وأن أحققه، ولكن إذا احتاج الأمر فهو هدف أنا على استعداد لأن أموت من أجله.