“كلّ الأمة هي جيش، وكلّ الأرض هي جبهة”. مفردات نطق بها “ديفيد بن غوريون”، رئيس الوزراء الأول في دولة الاحتلال، في ولايته الأولى كي تكون هي الفكرة الحاكمة لدولة الاحتلال، التي جعلت من المؤسسة العسكرية المُتحكم الأول في الهيكل السياسي والاقتصادي للدولة العبرية.
يدرك المجتمع الإسرائيلي الذي نشأ على الاستيطان في تأسيس دولته أن مصيره سيكون الفناء حال تخليه عن الخوذة والسلاح، بسبب ضرورة حماية البقاء الذاتي للبلاد وفرض سطوته، ليصير الهاجس الأمني على السياسة العامة في كل القطاعات، وعلى سلوك الإسرائيليين، كشروط حتمية لاستمرار البقاء.
خلال السطور التالية، تحاول “ساسة بوست” توضيح كيفية عسكرة الدولة والمجتمع في إسرائيل، وما هي الآليات التي لجأت إليها دولة الاحتلال لتعزيز هذه العسكرة كي تكون قادرة على البقاء، وكيف امتدت هذه العسكرة من الاقتصاد إلى الحياة إلى البرامج التعليمية.
الجنرالات في إسرائيل.. رؤساء حكومات وأحزاب سياسية
يقع مكتب الرئيس ورئيس الوزراء ومجلسه تحت سيطرة وتأميم مُحصن للجنرالات الإسرائيليين السابقين والحاليين، حيث تُعد الوظائف الهامة داخله قاصرة على ضباط سابقين في الجيش أو الأجهزة الأمنية التابعة له.
من ضمن 29 حكومة تعاقبت على ولاية منصب رئيس الوزراء الإسرائيلي منذ إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، مَثّل أكثر من نصف هذه الحكومات جنرالات عسكريون سابقون، الذين قاموا بدورهم بحركة تعيينات للضباط سابقين وحالين في الوظائف السيادية داخل الدولة.
إسحق شامير، أبرز من تولى منصب رئيس شئون حكومة إسرائيل في الفترة الممتدة من 1983 إلى 1992، والذي اشتهرت عنه لاءاته الثلاث “لا للقدس، لا للدولة الفلسطينية، لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم”.
“شامير” الذي تدرج في وظائفه داخل الأجهزة الأمنية، بدأ في جهاز المخابرات الإسرائيلية “الموساد” لمدة عشر سنوات (1955 – 1965)، وانتخب عضوًا في الكنيست عام 1973. وبعد فوز الليكود انتخب رئيسًا للكنيست، وفي عام 1978 امتنع عن التصويت على تأييد اتفاقية كامب ديفيد بين مصر، وإسرائيل.
في عام 1980، عين وزيرًا للخارجية، وانتخب رئيسًا للوزراء من أكتوبر 1983 إلى سبتمبر 1984. وبعد أن اعتزل مناحيم بيغن الحياة السياسية عام 1984 أصبح شامير في العام نفسه زعيمًا لحزب الليكود، وفي أعقاب انتخابات 1988 شكل حكومة تحالف مع حزب العمل عام 1990، وتولى شامير رئاسة الوزراء.
بنيامين نتنياهو، أصغر من تولى منصب رئاسة الحكومة في تاريخ إسرائيل، والذي يشغل حاليًا المنصب، بدأ مجال عمله بالالتحاق بالجيش وخدم في وحدة العمليات الخاصة مع إيهود باراك في الفترة من 1967 إلى 1972 اشترك خلالها مع مجموعة الكوماندوز، ثم أصبح سفيرًا لدى الأمم المتحدة.
وبعد عودته إلى إسرائيل انتخب عضوًا في الكنيست عن حزب الليكود 1988، وعمل مساعدًا لوزير الخارجية.
يبرر المفكر الراحل “عبدالوهاب المسيري”، سعي الأحزاب السياسية لضم قادة عسكريين للحصول على أكبر قدر ممكن من الأصوات، خصوصًا مع العسكرة الفكرية المسيطرة على المجتمع، والتي جاءت على خلفية قرار الكنيست عام 1973 بإباحة اشتراك القادة العسكريين في الانتخابات ليتوج الدور السياسي للقادة العسكريين.
جيش الاحتلال.. أكبر قيّم على الأراضي في فلسطين المُحتلة
تمنح القرارات الرئاسية جيش الاحتلال الحق في جميع الأراضي غير الزراعية وغير المستثمرة سواء كانت داخل حدود دولة إسرائيل، أو الأراضي المحتلة في فلسطين لأغراض أمنية وعسكرية تهدف، حسب نص القرارات، إلى حماية الأمن القومي.
يملك الجيش نسبة تقارب 48 في المئة من الأراضي في فلسطين المحتلة لأغراض أمنية وعسكرية، له الحق المُطلق في إدارتها واستخدامها في المشاريع الاستثمارية التي تعزز من سيطرته الأمنية على البلاد، أو يمنح هذه الأراضي لليهود المُهاجرين إلى دولة الاحتلال، وكذلك الترخيصات اللازمة للبناء سريعًا.
استحواذ الجنرالات على هذه الأراضي مكنهم من تنفيذ عدد من المشاريع الاستيطانية التي تستهدف تشريد الفلسطينيين من أراضيهم الأصلية، حيث أسس مشروع “برافر” العنصري الذي يهدف إلى تشريد 80 ألف فلسطيني في النقب، والاستحواذ على ما يقارب من 800 ألف دونم (وحدة لقياس مساحة الأرض)، وهدم 38 قرية فلسطينية.
التجنيد إجباري في جيش الاحتلال
في عام 1986، أصدرت دولة الاحتلال قانونًا يجبر من يحملون الجنسية والمقيمين في إسرائيل على الخدمة العسكرية في الجيش.
“3 سنوات” هي الفترة الزمنية للخدمة بشكل إجباري في جيش الاحتلال، بالإضافة إلى مدة الخدمة الاحتياطية السنوية، بينما تصل هذه المدة إلى سنتين فقط للمرأة، ويُستثنى من الخدمة المرأة المتدينة والمُتزوجة، وتترك للرجال اليهود المتدينين مسألة اختيارية.
ويخدم كذلك في جيش الاحتلال البدو الفلسطينيون تطوعيًّا مقابل محفزات وإغراءات وظيفية متدنية، بينما يخدم الدروز إجباريًّا.
الاقتصاد الإسرائيلي.. العسكر المُتحكم الأول
النزعة العسكرية المُتجذرة داخل المجتمع الإسرائيلي، التي ارتبطت بالسياق الذي نشأت فيه دولة الاحتلال، وما ترتب على ذلك من تعزيز لسلطة الضباط من داخل الأجهزة الأمنية في مناصب سيادية، انعكس أيضًا على الاقتصاد الإسرائيلي، بحيث باتت الصادرات العسكرية هي عصب هذا الاقتصاد، بجانب احتكار الجنرالات على مكاسبه.
حسب تقرير لصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، تنفق إسرائيل ستة أضعاف الدول المتقدمة على التسلح وخُمس الميزانية العامة لدولة الاحتلال. وبحسب تقرير ستوكهولم “سيبري”، فإن إسرائيل بالمقارنة مع الدول المتقدمة، هي الأعلى من حيث المصروفات العسكرية نسبة لعدد السكان، والأعلى كذلك بحسب النسبة من الناتج القومي.
تُشكل الصادرات العسكرية الإسرائيلية أحد مصادر الدخل الرئيسي لدولة الاحتلال، ففي عام 2012، ارتفعت الصادرات بنسبة 20 في المئة، ووصل حجم الصادرات العسكرية الإسرائيلية المعلن عنها إلى سبعة آلاف مليون (7.000.000.000) دولار خلال عام واحد فقط.
تمتد سيطرة وتأميم الجنرالات إلى القطاع الخاص، حيث يُدير أكبر عشر شركات إسرائيلية ونوعية ضباط سابقون، بجانب استمرار حصول العسكريين المتقاعدين على امتيازات وتسهيلات اقتصادية كبيرة في أروقة الأجهزة الرسمية العسكرية والمدنية، حتى بعد تقاعدهم.
مقابل هذا الاحتكار والتأميم من جانب طائفة الجنرالات في دولة الاحتلال على كافة الوظائف السيادية وحكر مكاسب الاقتصاد لهم، يجد سكان البلاد الأصليون ممن قرروا النأي بأنفسهم عن هذا المسار العسكري محرومين من هذه المهن الوظيفية غير العسكرية لمجرد أن هناك علاقة بينها وبين المسائل الإستراتيجية (كالوظائف في مجال التكنولوجيا).
مناهج التعليم في إسرائيل: برامج شبه عسكرية
تُدرك دولة الاحتلال أن مناهج التعليم، هي إحدى أدوات السيطرة الكبرى لتأصيل مفهوم الحرب الدائمة التي تعيشها الدولة بما يستدعي العسكريون فيها إلى زرع النزعة العسكرية في مناهج التعليم والتربية بكافة مراحلها.
في مرحلة رياض الأطفال، ترتبط الأيام الترفيهية بأعياد جيش الاحتلال، التي يتم فيها دعوة الأب والإخوة الجنود بزيهم العسكري إلى الاحتفالات، للتأثير نفسيًّا وإيجابيًّا على الأطفال وزرع النزعة العسكرية والجيش فيهم بشكل طبيعي.
كما تقوم المؤسسات التعليمية بعرض دوري للسلاح والذخيرة على الطلاب في المراحل الأساسية في مؤسسات التعليم، ويتم تنظيم جولات لمعسكرات الجيش على جبهات الحدود.
بهيئة عسكرية متكاملة، وسلاح حربي، يفد الطلاب الإسرائيليون إلى المدارس التعليمية، ضمن برامج مشتركة بين وزارة التعليم والجيش لخلق النزعة العسكرية داخلهم من بداية مرحلة النشء، حيث يكون هؤلاء دُفعة في برامج شبه عسكرية، تعتمد تشجيعهم على الالتحاق بالخدمة العسكرية.
“المدرس الجندي” و”البرنامج الإرشادي للشباب”، هما ضمن البرامج المُعتمدة في المدارس، كمواد تعليمية أساسية للطلاب في كافة مراحلهم التعليمية، والتي تتولى تدريب الجنود الإسرائيليين كمدرسين بعد انتهاء الخدمة، والتركيز على فئة المهمشين اجتماعيًّا وعلميًّا لتأهيلهم للانخراط في الجيش.
المجتمع المُسلح.. المواطنون جنود لجيش الاحتلال
ويمتد منطق العسكرة الحاكم لنموذج الحُكم في دولة الاحتلال، إلى الحياة اليومية للمدنيين بالأراضي المحتلة، بحيث تصير طريقة تفكير مسيطرة على المواطنين، وتظل فكرة الحرب هي الهاجس الذي يطارد السكان الأصليين بشكل يومي.
يرى بن إلعيزر، أحد الضباط السابقين أن “النزعة العسكرية أو الحربية في إسرائيل يمكن تعريفها بأنها طريقة تفكير ومنهج يعززان ويشجعان الحلول المفروضة بالقوة (داخل المجتمع وخارجه)، وهي غالبًا ما تكون عسكرية. وبنتيجة هذا التفكير والمنهج، تصبح القوات العسكرية هي المحرك الأساسي للمجتمع، ويكون لرأيها الأولوية على آراء المدنيين”.
تمتد سطوة الجنرالات الإسرائيليين إلى وسائل الإعلام والصحافة، حيث تُعين وزارة الدفاع عددًا من المراقبين العسكريين، تتمثل مهامهم في مراقبة المحتوى المنشور فيها، والتأكد من انتماءات الأجانب واليساريين عند السفر من المطار.
يقول الرقيب السابق في الجيش الإسرائيلي “دوتان غرينفايلد” إن عسكرة المجتمع الإسرائيلي تؤدي إلى طريق مسدود، وأن التشدق باعتبار إسرائيل الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط مجرد وهم وبدعة.