سعى حُكام الدول العربية إلى ابتكار صيغ جديدة تضمن لهم البقاء الأبدي في السلطة متجاهلين مُحددات نُظم الحكم الحديثة، مثل الديمقراطية، وأصوات الناخبين، أو الدستور، الذي يُحدد ولايات مُحددة للحُكم. إذ إن الشاغل الأكبر لهؤلاء كان بقاؤهم فى السلطة، وحماية عروشهم التي ظلوا قابعين عليها لعقود طويلة.
يرسم التقرير التالي صورة شاملة عن أبرز خمس وسائل ابتكرها الحُكام العرب للبقاء الأبدي على السلطة، وتجاوز أي معوقات دستورية أو شعبية، أمام استمرارهم على رأس السلطة.
30 عامًا في الحكم.. لماذا تفشل المعارضة السودانية دومًا في هزيمة البشير؟
1- تعديل الرئيس لمادة بقائه في الحكم بالدستور
يُعد تعديل الدستور، سواء من خلال زيادة عدد فترات تولى منصب الرئاسة، أو إلغاء تقييد عددها، وسيلة مستخدمة للالتفاف على بعض دساتير البلدان العربية، التي رهنت بقاء الرئيس في منصبه بعدم تجاوز فترات ولاية محددة.
وشهدت الدساتير العربية تعديلات سابقة لضمان بقاء الرئيس فترة أطول مثلما فعل الرئيس الراحل محمد أنور السادات عندما عدل المادة 77 من الدستور؛ لتسمح له بالبقاء رئيسًا لمدد غير معلومة، وكذلك الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك الذي استفاد من التعديل الذي أجراه السادات، ثم أدخل هو الآخر تعديلات على نظام الترشيح في عام 2005.
ينضم إلى الرؤساء السابقين بشار الأسد، الذي انعقد مجلس الشعب السوري عقب وفاة والده في يونيو (حزيران) عام 2000 من أجل إقرار تعديل في الدستور؛ لخفض سن الترشح لمنصب رئيس الجمهورية من 40 عامًا إلى 34 عامًا؛ وذلك كي يتمكن الأسد الابن من شغل منصب الرئيس خلفًا لوالده.
وقبل اندلاع التظاهرات الحالية كانت السودان قد شهدت تحركات من أجل تعديل المادة 57 من دستور 2005، والتي تنص على أن «أجل ولاية رئيس الجمهورية خمس سنوات تبدأ من يوم توليه لمنصبه، ويجوز إعادة انتخابه لولاية ثانية فحسب»، وذلك تمهيدًا للطريق أمام الرئيس عمر البشير من أجل الترشح في انتخابات عام 2020، رغم عدم جواز الترشح طبقا للدستور الحالي.
صورة للرئيس السودانى عُمر البشير فى أحد مؤتمرات حزبه الحاكم
ويُحكِم البشير قبضته على مقاليد الحكم في البلاد منذ سيطرته على الحكم عبر انقلاب عسكري عام 1989، قبل أن يتجاوز هذه المرحلة، عبر الترشح في الانتخابات عام 2010، ويقبع في الحُكم فترتين اثنتين، وهما الحد الأقصى لبقاء الرئيس على رأس السلطة في البلاد، وفقًا لما ينص عليه دستور 2005 الذي لا يسمح للرئيس بتولي أكثر من فترتين اثنتين.
وتتقاطع رغبة البشير فى البقاء لولاية ثالثة مع تعديل الدستور، وهو الأمر الذي شرعت فيه القوى السياسية الموالية له التمهيد إليه قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية.
وقد ناورت السلطة عبر دفع عدد من الأحزاب السياسية الموالية لها لإرسال مذكرة من 294 نائبًا يمثلون 33 حزبًا سياسيًا لرئيس البرلمان تطالب باقتراح تعديل الدستور بإلغاء تقييد عدد فترات تولي منصب الرئاسة.
يتشابه ذلك مع ما وقع في تونس خلال فترة حُكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي؛ إذ اتجه نظام حُكمه لإدخال تعديلات جوهرية على الدستور من أجل التمديد لفترة حكمه، بعد أن تنتهي ولايته عام 2014، خصوصًا أن دستور تونس لا يسمح بالتقدم للانتخابات الرئاسية إذا كان سن المرشح يفوق 75 عامًا، وهو ما كان يعوق تُرشح زين العابدين على اعتبار أنه سيبلغ 78 عاما في انتخابات 2014.
وقد حال دون إدخال هذه التعديلات وقوع الثورة التونسية، التي اندلعت أحداثها في 17 ديسمبر (كانون الأول) عام 2010، وأطاحت حينئذ بنظام حُكم بن علي.
وقد بدأ الحديث عن تعديل الدستور بالانتشار مؤخرًا في مصر، عبر الدفع بمشروع تعديل عدد من مواد الدستور العام المقبل من أجل استمرار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في منصبه لمدة أربع سنوات أخرى أو يزيد، خصوصًا أن الموعد المقرر لانتهاء فترته الرئاسية الثانية والأخيرة بحكم الدستور القائم ستكون عام 2022.
2- الاستمرارية من أجل استكمال الإنجازات
روّجت الأنظمة العربية للعديد من المخاوف غير الموجودة، والتي سعت لتهيئة شعوبها بحتمية بقاء رأس السلطة فى الحُكم، وذلك عبر بث خطاب إعلامي في وسائل الإعلام الموالية لها، عبر حديث يروج إلى أن نهاية ولاية الرئيس الحالي؛ تعني غياب الشخص القادر على إدارة شؤون البلاد، وربط ذلك باستمرار المخاطر التى تحول دون تغيير من يشغل منصب رئيس الجمهورية.
تباينت هذه الوسائل من دولة لأخرى، وذلك على حسب الظرف السياسي التي تعيشه، ففي مصر روجت وسائل الإعلام لخطر وجود الإخوان المسلمين، وعلاقة ذلك باتساع رقعة العمليات الإرهابية، واحتمالية عودة الإخوان المسلمين إلى الحياة العامة، إذا ما جاء رئيس آخر غير الرئيس عبد الفتاح السيسي.
صورة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي فى أحد المؤتمرات الخارجية
وفي مقال منشور لرئيس تحرير جريدة «أخبار اليوم» ياسر رزق، وأحد المُقربين من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أشار الصحافي إلى أن «تصور الإخوان قائم على أن السيسي حين تنتهي رئاسته في الموعد الدستوري الذي يرتضيه الشعب، سيجلس في منزله يشاهد التليفزيون أو يدون مذكراته، وسيكتفي بأن ينزوي في الظلال تاركًا مصائر البلاد والعباد نهبًا لأهواء أصحاب الهوى».
وفي الجزائر أطلقت أحزاب سياسية موالية للسلطة مبادرة سياسية بعنوان: «الاستمرارية في إطار الاستقرار والإصلاح»، وذلك بهدف دعم برنامج رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة ودعوته إلى الترشح لعهدة رئاسية جديدة.
والرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي يشغل منصب رئيس الجزائر منذ عام 1999 قد تعرض لأكثر من وعكة صحية جعلته غير قادر على المشي، لكنه – وبالرغم من ذلك – ترشح في انتخابات عام 2014 وفاز بولاية رابعة، ولا يزال طامحًا إلى الترشح لولاية خامسة مدعومًا بالخطاب السياسي والإعلامي، الذي تروجه الأحزاب الموالية له بحتمية استمراره منعًا من تعرض البلاد لأية مخاطر سياسية.
وفى سياق تبريره لإطلاق المبادرة، شرح الأمين العام للتحالف الوطني الجمهوري، أحد الأحزاب السياسية التى وقعت على المبادرة، قائلًا: «إنها تنطلق من حاجة البلاد إلى الرئيس بوتفليقة من أجل رفع التحديات المتعلقة بتعميق الإصلاح في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية وكذا السياسة الخارجية».
المضمون نفسه، تناقلته وسائل الإعلام الموالية لبوتفليقة، حال الكاتب قادة جليدة الذي كتب مقالة تحت عنوان: «لماذا يريد الجزائريون استمرار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الحكم؟» وذكر فيه أن «الشعب الجزائري سيذهب بقوة إلى الاستحقاق السياسي القادم للانتخاب على الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من أجل مستقبله ومستقبل أبنائه، ومن أجل الجزائر بعيدًا عن الليبرالية المتوحشة وبعيدًا عن السوفسطائيين الجدد والمعارضة الدونكيشوتية».
3- استخدام الخطاب الديني من أجل البقاء في الحُكم
استخدمت بعض الأسر الحاكمة وسائل إضافية لترسيخ شرعية الحُكم، مثل توظيف الدين؛ فعلى سبيل المثال استخدم آل سعود رجال الدين الوهابيين في إضفاء الشرعية على حكمهم، وإصباغ صبغة القدسية على الملك باعتباره «خادم الحرمين الشريفين»، وكذلك فعل المَلِكَان في الأردن والمغرب، واللذان يعود نسبهما إلى النبي محمد، ويستخدمان ذلك لتكريس شرعيتهما.
ينضم إلى الحالات السابقة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، الذي روج لكون نسبه يعود إلى النبي، واستكمال ذلك الادعاء بتشكيل نقابة للأشراف يرأسها، قبل أن يسقط حُكمه ويُجرد من هذا النسب بواسطة نقابة الأشراف التي أعلنت ذلك عقب خلعه من السلطة، استبعاد صدام من ذرية الأشراف المنحدرين من سلالة النبي محمد، وأنه ادعى هذا النسب زورًا وبهتانًا وفقًا لما أعلنته نقابة الأشراف آنذاك.
إلى جانب استخدام الدين؛ فقد مثلت أنساب الحُكام والأوزان السياسية والمجتمعية للقبائل المنتمين لها في بعض المجتمعات العربية، وسائل رئيسة لاحتكار السلطة، قياسًا على الوزن النسبي للقبيلة الذي شكل المعيار الرئيس لتمركز السلطة في أسر بعينها مثل «آل سعود» في السعودية، و«آل نهيان» في الإمارات، و«آل ثاني» في قطر، و«آل بوسعيد» في عُمان، و«الهاشميين» في الأردن.
عدد من حُكام منطقة الخليج خلال القمة الأخيرة لمجلس التعاون الخليجي
وشكل اعتماد هذه الأسر على جذورها القبلية والتاريخية والأسرية، وسيلة أساسية في استقرار حُكمها، وذلك بحسب ما أدلى به ماثيو بيلر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة «تينيسي»، لموقع «الحرة»، والذي أضاف كذلك أن: «الاقتصاد الريعي، الذى تعتمد الدولة فيه على مصدر أساسي واحد للدخل لعب دورًا في تكريس الحكم في مملكات الخليج النفطية عن طريق المحسوبية».
وعلى الجانب الآخر صاغت هذه الممالك الخليجية نظامًا دستوريًا يوضح كيفية انتقال السلطة بالوراثة داخل الأسرة الواحدة، ويعطي للملك سلطة مطلقة مدى الحياة، ويمنح هامشاً فى بعض الممالك للتنافس السياسي على مستوى مناصب وزارية أو برلمانية تحت بصر الملك، مثل ما فعلت المغرب التي نجحت في ذلك.
4- القائد الأعلى للثورة
أتاحت فكرة الانقلابات العسكرية ومنحها الشرعية وتبريرها تحت دواعي حماية الأمن القومي في بعض البلدان العربية دافعًا قويًا لاستمرار هذه الأنظمة فى الحُكم لسنوات طويلة، وذلك من خلال تنصيب الرئيس قائدًا أعلى لهذا الانقلاب الذي يتم تسويقه في الأوساط الإعلامية الموالية له بـ«الثورة».
صورة لقوات عسكرية تتبع بشار الأسد
وتُعد الجزائر نموذجًا واضحًا لاستخدام الانقلاب العسكري على سلطة منتخبة من أجل السيطرة على السلطة، تحت دواعي حماية الأمن القومى، وإن لم تكن بالطبع تحت قيادة شخص واحد يعتبر نفسه القائد الأعلى للثورة.
ففي 12 يناير 1992، قررت المؤسسة العسكرية رفض نتائج تقدم الجبهة الإسلامية في الانتخابات، وأذاعت بيانًا تلفزيونيًا، ذكرت فيه أن المجلس: «قد قرر بأن الظروف التي تمرّ بها البلاد، أفضت إلى استحالة استمرار المسار الانتخابي وإلغاء نتائج الدور الأول للانتخابات وعدم إجراء الدور الثاني»، وذلك بسبب ما اعتبره «تهديدًا للديمقراطية والنظام الجمهوري وأعمال العنف من قبل الجبهة الإسلامية للإنقاذ».
نتج عن هذا المسار استمرار المؤسسة العسكرية فى السلطة، والقفز على نتائج الديمقراطية، متجاهلة سقوط ما بين 120 إلى 200 ألف قتيل، و7400 مفقود، وربع مليون جريح ومتأثر من الحرب، وأكثر من 20 ألف معتقل في محتشدات الصحراء لعناصر الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلّة، فضلًا عن فقدان ما يُقرب من نحو نصف مليون عامل وموظف وظائفهم، إلى جانب الخسائر المادية التى تم تقديرها بنحو 50 مليار دولار.
تتقاطع هذه الوقائع مع ما حدث في كثير من البلدان العربية، ومن بينها السودان، حيث انقلب ضابط مغمور فى الجيش السوداني آنذاك يدعى عُمر البشير في يونيو (حزيران) 1989 على أول حكومة منتخبة؛ ليقفز البشير بعد ذلك على رأس السلطة؛ لاعتبار يتعلق بأنه «قائد الثورة» ويصير أطول حاكم فى تاريخ السودان.
وفى العراق أيضًا، أطاح ضباط فى الجيش بقيادة أحمد حسن البكر وصدام حسين بنظام حكم الرئيس عبدالرحمن عارف في العراق، في يوليو (تموز) 1968؛ ما فتح الطريق أمام صدام حسين للسيطرة على السلطة بعد استقالة البكر فى عام 1979؛ وذلك على خلفية إحكام صدام سيطرته على الأجهزة الأمنية في العراق، بوصفه أيضًا «قائدًا للثورة».
الحال نفسه في سوريا؛ حيث روج وزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد في عام 1970 لما أسماها بـ«الحركة التصحيحية»، إلى جانب رئيس الأركان مصطفى طلاس، ليتم الانقلاب على السلطة الموجودة، ويظل حافظ الأسد بعد انتخابه رئيسًا للجمهورية السورية عام 1971 في سدة الحكم إلى أن توفي عام 2000؛ ليرث من بعده ابنه الحكم.
5- الرئيس في حزب «الأغلبية»
شكلت وسيلة انضمام الرئيس إلى حزب سياسي أو تأسيسه، صيغة مُبتكرة لتعزيز بقاء الحاكم في منصبه؛ إذ سرعان ما يتحوّل هذا الكيان السياسي إلي حزب الأغلبية في كافة الانتخابات على اختلاف مستوياتها، باعتباره هدفًا لاستمرار حُكام الدول العربية لعقود طويلة.
وقد لعبت هذه الأحزاب أدوارًا متعددة؛ فالأغلبية البرلمانية أداة فى يد رئيس الجمهورية لتشكيل الحكومة، وكذلك استصدار أي تشريع يسمح لها بالبقاء لمدد طويلة، أو تسهيل مهام غير شرعية في صورة قانونية؛ عبر منحها غطاء قانونيًا باستصدار تشريع.
صورة للرئيس العراقى الراحل صدام حسين خلال مؤتمر جماهيري له
امتدت أدوار هذه الأحزاب في الدول العربية، إلى الترويج لإنجازات رئيس الجمهورية داخل المحافظات والمدن الرئيسة، وذلك عبر هياكل قيادات الحزب، ودفع بعض القطاعات الموالية لها في التظاهرات المؤيدة لها، أو التضييق على المعارضيين للرئيس، عبر الاعتداءات المباشرة عليهم، أو إفساد بعض الفعاليات السياسية المناهضة للسلطة.
وظهر نموذج الحزب السياسى المُهيمن على مناصب الحكومة باعتباره داعمًا لبقاء الرئيس في السلطة مدى الحياة في أكثر من بلد عربي. مثل مصر، التي شكل فيها الحزب الوطني المنحل بقرار قضائي بعد «ثورة 25 يناير» نموذجًا واضحًا للأدوار غير الشرعية للحزب الحاكم خلال ولاية الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، وكذلك حزب البعث العربي الاشتراكي المنتمي له صدام حسين، وحزب جبهة التحرير الوطني الحاكم فى الجزائر، وحزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان، وحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم أيضًا في سوريا.