في الحروب والأزمات لا انتصار كامل ولا هزيمة شاملة، الجميع مهزوم، غير أن أحد الطرفين الأقلّ هزيمةً، يعدّونه المنتصر، الفيتناميون فقدوا في الحرب على سبيل المثال ما يناهز مليون قتيل أو يزيد، بينما لم يفقد الأمريكيون عُشر هذا الرقم، لكن على الرغم من هذه النتائج ربح الفيتناميون الحرب. ذلك أنهم على كثرة ما فقدوا من المدنيين والعسكريين بلغوا ما أرادوا.

هكذا هي حسابات الحروب، وكان لا بد من هذه التوطئة لئلا يُظن أننا حين نفند خسائر القطريين في الحصار المفروض عليهم من دول الحصار: السعودية والبحرين والإمارات ومصر نحكم بتململ موقفهم وتفوق معسكر الحصار عليهم، فالعديد من الحسابات لم تزل قيد الحسم، كمستقبل الوحدة الخليجية، ونفوذ الإيرانيين المتعاظم، مع وجود عسكري لتركيا على أرض الخليج العربي، واستفزازٍ للنعرات القومية لم يكن بين أبناء الصحراء الواحدة. هذه الحسابات جميعها ضمن كلفة الحرب النهائية.

 

اليمن والخروج من الباب الكبير

حشدت المملكة العربية السعودية في السادس والعشرين من مارس (آذار) لعام 2015 جهودها، ضمن عملية عسكرية أسمتها عاصفة الحزم، هي الأولى لها خارج الأراضي السعودية، لدعم ما أسمتها الشرعية اليمنية المتمثلة في الرئيس، عبدربه منصور هادي، في مواجهة جماعة أنصار الله الحوثي والرئيس المخلوع علي عبدالله صالح.

وهي الحرب التي تتقدمها السعودية وتدفع شركاءها ووكلاءها دفعًا للوقوف صفًا واحدًا معها، وكان من بينهم دولة قطر، التي شاركت منذ اليوم الأول للحرب بألفٍ من مقاتليها، وعشرة طائرات حربية.

اتسمت المشاركة القطرية منذ اليوم الأول بالجدية، نعم، لكنها كانت الأضعف من بين ممالك الخليج عدا سلطنة عمان التي لم تشارك ابتداءً، إذ دفعت السعودية في الحرب بـ100 طائرة، وجهّزت من مقاتليها 150 ألفًا، كذلك دفعت الإمارات العربية المتحدة بـ 30 طائرة، والكويت والبحرين كلٌ بـ 15 طائرة.

شاركت قطر بدفعتين من الجنود، أرسلت في اليمن أولًا ألف جندي للحرب، وفيما بعد أرسلت تعزيزات لقوات حرس الحدود السعودية، لمنع تسلل الحوثيين إلى الداخل السعودي عبر الحدود البرية، وكان مما أصاب هذه القوات أن قُتل أربعة من الجنود وأصيب ستةٌ آخرون، قبل أن يُنهي التحالف العربي المشاركة القطرية ضمن التحالف العربي مع أول أيام الأزمة الخليجية الحالية، 5 يونيو (حزيران) الفائت.

واتهم التحالف العربي الدولة القطرية بدعمها للإرهاب في اليمن من خلالها أنشطتها مع تنظيم القاعدة وداعش، والحوثيين، وهو الأمر الذي -بحسب البيان- يتنافى مع أهداف التحالف. ولفهم ما يحدث في اليمن في إطار أزمة الخليج الحالية، لا بدّ من تفصيل ما يدور على الأرض، إذ يبدو للوهلة الأولى أن السعودية والإمارات ومعهم قطر في معسكرٍ واحد ضمن تحالف دعم الشرعية اليمنية، لكن المآرب من وراء المشاركة تختلف بين كل طرف، لا سيما بين الفرقاء التقليديين، الإمارات وقطر.

فقد دعمت قطر حزب الإصلاح – المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين – بينما أسست الإمارات العربية المتحدة ميليشيا الحزام الأمني في مارس (آذار) 2016، لتكون بديلًا للوجود الحكومي الذي اتُهم بالركون لميليشيا الحوثي قبل قدوم التحالف العربي، وتضم «الحزام الأمني» عددًا من قيادات الأمن والجيش كان قد سرّحهم من قبل الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، بعد حرب اجتياح الجنوب في صيف 1994.

إبان السيطرة الحوثية على اليمن في 21 سبتمبر (أيلول) 2014، واجه حزب الإصلاح التمدُّد الحوثي على عدة جبهات، حتى تبددت قواه وخسر آخر معاقله في صنعاء العاصمة، واحتمى قادته بالمملكة العربية السعودية، وأوتهم الرياض.

Embed from Getty Images
ولما كان من أمر الرئيس هادي بتسليم مطار عدن للحرس الرئاسي، رفضت ميليشيا الحزام الأمني تنفيذ الأوامر الرئاسية، واحتمت بالمطار الذي حاصره الحرس الرئاسي، ودعمتها طائرات عسكرية إماراتية، ويقال إن رطلًا عسكريًا تابعًا للحرس الرئاسي – التابع للرئيس هادي – استُهدف بقذيفة، يُرجح أنها أُطلقت من طائرة أباتشي إماراتية، وانتهت الأزمة بذهاب هادي للإمارات للتفاوض، بينما طلب من الحرس الرئاسي الانصراف لاحتواء الأزمة، وأنذرت أزمة مطار عدن بأن شرعية الرئيس لم تكن هدفًا لدولة الإمارات، وهو ما تقرر بعدها بإعلان الحرس الرئاسي بيان انفصال الجنوب في الرابع من مايو (آيار) 2017.

رجوعًا إلى «حزب الإصلاح»، الذي تبددت قواه في حربه المتفرقة مع الحوثيين، ووقعت قياداته أسرى للقرار السعودي بعدما لجؤوا للرياض، أيدوا القرار بحصار قطر، وهو ما يُعدُّ هزيمةً للمساعي القطرية طيلة السنوات الماضية، لا سيما وأن الجنوب صار للقوات التابعة للإمارات «الحزام الأمني»، والشمال ممزقًا في الحرب بين التحالف العربي وجماعة أنصار الله، ولم يبق للقطريين موطئ قدم بعدما طُردوا من التحالف العربي مع اندلاع أزمة الخليج الحالية.

 

الإمارات تطرح نفسها بديلًا في غزة

بعدما فُصل من الحركة الأم (فتح) في 2011، تلقفته الأيدي الإماراتية الناعمة، وهو الرجل الذي ناصب الإسلام السياسي العداء، خرج من غزة بمعركة دامية مع كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، وأعلن أن عداءه لجماعة الإخوان المسلمين قديم ومتجذِّر، ويمتد لعام 1981 حين كان طالبًا بالحامعة الإسلامية.

ضمَّدت الإمارات جراح الرجل الذكي، حاد الملامح، نافذ العلاقات، وعملت على ترقيته للاستفادة منه من الناحية الأمنية حيث كان لسنوات رئيسًا للأمن الوقائي في قطاع غزة. وبالفعل وجد الرجل الأمني طريقه هناك في أبوظبي، حيث عمل مستشارًا لولي العهد، محمد بن زايد، وتوسعت سلطات الرجل، وقويت شوكته بعدما حققه من قمع للمعارضة داخل الإمارات، وإحرازه لمبتغى ابن زايد في استتباب الأمن وحفظ النظام العام للإمارات المتحدة.

Embed from Getty Images
استفادت كذلك الإمارات من علاقات الرجل النافذة إلى جانب خبراته الأمنية، ووطَّدت من خلاله علاقاتها مع إسرائيل، ومع غيرها من دول العالم. ورغم التكهنات الكثيرة حول عودة الرجل للقطاع – بعدما طُرد منه على يد كتائب القسام – بمساعدة إسرائيلية، إلا أنه أكد في أكثر من مناسبة عن أنه لن يعود على دماء الفلسطينيين.

مياهٌ كثيرة جرت في أنهار السياسة في غزة، محاولات عديدة للصلح بين فتح وحماس باءت بالفشل جميعها، وسط حالة من تبادل التهم بين الطرفين حول عدم جدية المسعى، تضييقاتٌ اقتصادية فرضتها حكومة الرئيس عباس على قطاع غزة، وهو الشيء الذي جعل قطاع الخدمات في غزة في أسوأ حالاته في ظل السيطرة الحمساوية، غير أن الوجود القطري تبدَّى هنا لدعم شعب غزة، ومن ورائه حكومة حماس بالطبع.

وتتولى قطر منذ 2012 مسؤولية إدارة أعمالها الخيرية في القطاع، عبر اللجنة القطرية لإعادة الإعمار، والتي رُصد لها ما قيمته 407 مليون دولار، منحة مقدَّمة من دولة قطر وأميرها الوالد حمد بن خليفة آل ثاني، نفذ منها الكثير وبقى منها ما هو في طور التخطيط والإنشاء.

لكنّ الأزمة الخليجية الأخيرة ألقت بظلالها على المشروعات القطرية، إذ بدأت بالانخفاض مع يوم الأزمة الأول في يونيو(حزيران) الماضي، ورغم تأكيدات المسؤولين القطريين عن أن مساعداتهم لسكان القطاع لن تتوقف ولن يمسها أذى، إلا أن الواقع على الأرض يشهد بخلاف ذلك، وهو ما أكده الأستاذ معين رجب، أستاذ الاقتصاد من داخل القطاع.

اقرأ أيضًا: محمد دحلان.. ذراع الإمارات الإقليمي الذي اغتال خصومه وراوغ حلفاءه

هنا كان متفهمًا أن تجد الإمارات طريقها للقطاع، كما وجدت طريقها لجنوب اليمن، لكن هذه المرة من خلال القيادي السابق بفتح، محمد دحلان، وجرى اتفاق لم يُعلم إلى اليوم تفاصيله بشكلٍ كامل، غير أن تكهنات تقول بتقاسم السلطة في القطاع، تتولى فيها حماس الشأن الداخلي ويتولى دحلان العلاقات الخارجية، وفي المقابل يتدفق المال الإماراتي على بنية القطاع التحتية، ويُفتح معبر رفح بشكل شبه دائم.

وبوصفها بادرةً على الجدية الإماراتية وُزعت أموال مساعدات على بعض الفئات الهشة والفقيرة في قطاع غزة، ويُفترض أن تقدم معونات طلابية مع بداية العام الدراسي للطلاب من الأسر الفقيرة، لكن ما لا يبشر إلى الآن بالمضي في الطريق الصحيح الذي حدده الاتفاق، أن معبر رفح لم يُفتح بعد، وهو ما أشار إليه طلال عوكل، الكاتب والمحلل السياسي.

 

أفريقيا بين حنكة البشير وانحياز آخرين

كانت الأزمة فارقة للكثير من البلدان، بعضها كان يكنّ العداء لدولة قطر، وبعضها تم شحنه قصرًا ليسير في ركاب السعودية، وبعض هذه الدول اتخذ موقفًا دبلوماسيًا دعى من خلاله للحوار والذهاب لطاولة المفاوضات، ومن بين أكثر الدول حصافةً تجاه الأزمة، كانت دولة السودان.

Embed from Getty Images
السودان، معلومٌ أنها كانت بصدد رفع العقوبات الأمريكية عنها عندما أصدر الرئيس الأمريكي السابق قرارًا برفع العقوبات الاقتصادية عن الخرطوم قبل أسبوعين فقط من مغادرته البيت الأبيض. ويُقال إن السعودية كانت وراء الصفح الأمريكي عن البشير جزاء موقفه «الشجاع» في اليمن، وبهذا كان متوقعًا للبشير أن يسير في ركاب دول الحصار الأربعة، لكن البشير لم ينسَ الدور القطري لإنجاز المصالحة بين الحكومة ومتمردي إقليم دارفور، ولا ينسى أيضًا أن دول الحصار الأربعة، من بينهم القاهرة، التي هو على خلافٍ معها بشأن قضية مثلث حلايب. وبين هذا وذاك اتخذ البشير موقفًا حكيمًا بالتزام الحياد،  حيث ذكرت وكالة الأنباء السودانية، أن وزير الخارجية إبراهيم غندور عقد لقاء مع السفراء المعنيين أبلغهم خلاله «حرص السودان على إصلاح ذات البين بين الأشقاء، من خلال دعمه ومساندته لمبادرة أمير الكويت»، ولإرضاء المملكة زاد البشير من مشاركاته في اليمن إلى جانب المملكة.

في فلكٍ آخر، دارت جيبوتي مع المملكة العربية السعودية طمعًا في منحٍ مالية على إثر الرغبة السعودية في إنشاء قاعدة عسكرية لها على أراضيها، وسرعان ما أعلنت دعمها لدور الحصار وطالبت السفير القطري بمغادرة أراضيها، وهو الموقف الذي أغضب الدوحة غضبًا شديدًا، ما جعلها تسحب جنودها الذين وضعتهم لحفظ الأمن بين إريتريا وجيبوتي، فما قصة هؤلاء الجند؟

في عام 2008 اندلعت أزمة على الحدود بين إريتريا وجيبوتي بناء على خلفيات تاريخية بين بلدان القرن الأفريقي إريتريا وجيبوتي وجزر القمر وإثيوبيا، سقط لأجله عشرات الأفراد من الجانبين ووقع في الأسر هنا وهناك من وقع، غير أن بيان مجلس الأمن العاجل طالب بالتهدئة واللجوء للدبلوماسية باعتبارها أساسًا للحل، ولم تقدم أي من البلدان مبادرة جديّة للحل، كتلك التي قدمتها الدوحة، وفرضت عن نفسها في سبيل الفصل بين الغريمين أن ترسل جنودًا لها على الحدود بين البلدين، وهو ما كان، ووقَّع الرئيسان الجيبوتي والإريتري على المبادرة في يونيو (حزيران) 2010، وسط حالة من الرضا الدولي.

وطّدت في السنوات السابقة دولة الإمارات العربية المتحدة علاقاتها بأسمرا – عاصمة إريتريا – وأسست لصالحها قاعدة عسكرية تقصف من خلالها اليمن ضمن عمليات عاصفة الحزم ثم «إعادة الأمل»، وبُعيد التوجهات الجيبوتية المنحازة لدول الحصار ضد قطر، سحبت الدوحة قواتها ما يجعل جيبوتي في مواجهة غير متكافئة مع إريتريا، ومن ورائها الإمارات، وربما دولة كمصر، في ظل العداء الذي تكنّه لإثيوبيا، حليف جيبوتي.

 

«أمريكا هي الطاعون.. والطاعون أمريكا»

ليس من شكٍ أن قمة الرياض كانت توطئة لحدث جللٍ ما، تحدث البعض عن تسوية شاملة للقضية الفلسطينية، وهو الحديث الذي لا يزال صداه يدور في الأوساط السياسية والإعلامية، غير أن الحدث الجلل، كان حصار قطر، ولعل دولة الإمارات نجحت نجاحًا ساحقًا من خلال دوائرها الدبلوماسية أن تقدم نفسها باعتبارها صديقًا وثيق الصلة بالإدارة الأمريكية، ويمكن الاعتماد عليه في الشرق الأوسط، بديلًا عن قطر حيث توجد القاعدة العسكرية الأمريكية الأكبر بالشرق الأوسط.

Embed from Getty Images
ما عزز الشكوك حول رضا الولايات المتحدة عن مقاطعة قطر، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أول تعليقاته على الأزمة، صرّح بأنه سعيد حيال ما تحققه قمة الرياض من مسارات صارمة وجادة تجاه تمويل الإرهاب، وهي التهمة الموجهة لقطر ابتداءً من دول الحصار.

لساعات بعد اندلاع الأزمة وتغريدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بدأت الدولة القطرية في تجميع أوراقها، وكانت الخارجية الأمريكية وقيادات البنتاجون ضمن هذه الأوراق، لتظهر المؤسسة الأمريكية وكأنها أكثر اتزانًا في ظل وجود رجلٍ كترامب على المكتب البيضاوي.

سرعان ما عاجلت قطر الجانب الأمريكي، ووقعت معه اتفاقية ثنائية في مجال مكافحة تمويل الإرهاب في يوليو (تموز) الماضي، تقضي بالسماح بتناول المعلومات بين البلدين في إطار من العمل المشترك، وقالت وكالة بلومبرج الأمريكية، إن صندوق الثروة السيادية في قطر يواصل خططه للاستثمار في الولايات المتحدة، لإظهار أن الأزمة السياسية مع السعودية وحلفائها لم تؤثر على قدرتها على إبرام صفقات عالمية، وتقول بلومبرغ إنه في حين خصصت قطر 35 مليار دولار للاستثمارات الأمريكية، وأنفقت أكثر من 50% من هذا المبلغ، فإن المزيد من الصفقات يمكن أن تساعد على تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة بعد أن أعلن الرئيس دونالد ترامب علنًا ​​عن التحالف السعودي. بيد أن الشركات الأمريكية قد تتردد فى القيام بأعمال تجارية مع أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال فى العالم لحين حل النزاع، وفقًا لما ذكره جاسون توفي، وهو اقتصادي في «كابيتال إكونوميكس».

وبالرغم من أن المساعي القطرية لجلب تعاضد المؤسسة الأمريكية تُوّج بالنجاح، بدعم الولايات المتحدة للوساطة الكويتية بدلًا من دعم دول الحصار، إلا أنه كلَّف الدولة القطرية كثيرًا من المال وبعض السيادة، بسماحها للجانب الأمريكي بفرض رقابة على تحويلات الأموال في إطار الاتفاقية المبرمة للعمل المشترك على تجفيف منابع تمويل الإرهاب.

كثيرٌ من المياه الجارية لا تزال تفيض علينا بالكثير من الأحداث في الشأن الخليجي، فثمة إنجاز حققته الدولة القطرية، بمجرد الصمود والتمسك بما تراه حق «السيادة القطرية»، واعتمادها على أصدقاء دوليين أكفاء بعدما قطعت أوصالها الخليجية، ولعل الخاسر الأكبر من جراء ما حدث هو الخليج بأكمله، لا سيما المملكة العربية السعودية، التي خسرت قمرة القيادة الإقليمية لصالح أبوظبي.

 

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد