منذ تأسيسها، وعلى مدار خمسة عقود، حافظت الإمارات على دورٍ منخفضٍ في المنطقة بزعامة مؤسسها الأول الشيخ زايد بن سُلطان صاحب فكرة إنشاء «مجلس التعاون الخليجي» الذي اتّسمت سياساته الخارجية بالهدوء وعدم التصعيد، بداية باحتواء الخلاف الحدودي مع السعودية، مرورًا برفضه حربي الخليج الأولى والثانية، نهايةً بالدور الدبلوماسي الذي قاده لإعادة مصر إلى «جامعة الدول العربية»، بعد تجميد عضويتها وقطع عدة دول العلاقات معها، إثر توقيع الرئيس المصري محمد أنور السادات على معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1978.
والدور القديم الذي رسمته الإمارات لنفسها، -والذي يُشبه حاليًا دور الكويت في الوساطة بين كافة الأطراف-، ربما لم يشوبه سوى الدور المشبوه الذي لعبته عام 1996 بالتواطؤ في محاولة انقلاب فاشلة على الأمير القطري حمد بن خليفة لصالح والده المقيم في أبو ظبي.
لكن بوصول محمد بن زايد إلى ولاية العهد عام 2003، أصبح الأمير الشاب –صاحب 22 عامًا آنذاك- هو صاحب التحولات الكبرى في سياسة الدولة، خاصة بعد وضع «رؤية 2030» القائمة على أن تُصبح الإمارات هي القوة الكبرى في المنطقة، مدفوعة بنفوذها السياسي والاقتصادي، وهو الدور الذي ظهر جليًا بعد أحداث الربيع العربي عام 2011.
لكنّ ابن زايد اللاعب الأبرز في المنطقة، بات مؤخرًا يرسم دورًا جديدًا يتوارى فيه عن الأضواء دون أن يفقد دوره الرئيس في تحريك الأحداث، ودون أن يتورط مع حليفته السعودية أو الولايات المتحدة في المصالح المشتركة التي تجمعه معهما، وهو الدور الذي نستعرض بعض ملامحه في السطور التالية.
«محور الاعتدال بين تطرفين»
في الوقت الذي تُتهم فيه قطر بدعم جماعة «الإخوان المسلمين» التي تواجه تهمًا في عدة دول عربية بدعم الإرهاب، تُتهم السعودية على الجانب الآخر بأنها السبب الرئيس في تصدير الوجه الأكثر تشددًا للإسلام عبر الدعوة الوهابية التي ما زالت يرتكز عليها حُكم المملكة، والتي كانت الوقود الذي جذب المُجاهدين للقتال في حرب أفغانستان عام 1979.
لكنّ الإمارات وفي ظل هذا الصخب ومعادلات اليمين واليسار، دفعت نفسها باعتبارها «محور الاعتدال» الذي يرسم مفهومًا جديدًا لمشروع الإسلام المعتدل الذي تروّج له الإمارات في ظل صراع بروز تيارين تدعمهما الدوحة والرياض.
شيوخ الإمارات مع بابا الفاتيكان
بدأت الإمارات محاولاتها لتطويع الأزهر أولًا باعتباره القوة الناعمة، و«منبر الإسلام الوسطي» في العالم الإسلامي، وبرز ولي العهد الإماراتي بمشروعه الذي كان بمثابة قُبلة النجاة للشيخ أحمد الطيب الذي أصبح «صوت الوسطية» في العالم الإسلامي عبر ترؤسه «مجلس حكماء المسليمن» الذي تأسس عام 2014.
ليتحول الأزهر في الحقيقة لمنبر داعم لسياسة الإمارات على لسان شيخ الأزهر الذي صرّح علانية أن «الإمارات تمتلك رؤية واضحة في مشروع الإسلام المعتدل»، لـ«يتورط» الشيخ بعدها مباشرة أثناء حضوره مؤتمر الشيشان الذي عُقد لتعريف أهل السُنة والجماعة، والذي استثنى السلفية من قائمة المشمولين بصفة «أهل السنة».
وفي استمرار لمحاولات الإمارات تبييض صورتها عبر بوابة «التسامح الديني»، استضافت البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، في لقاء تاريخي جمعه بشيخ الأزهر في فبراير (ِشباط) الماضي، وهي الزيارة التي جلبت انتقادات أوروبية بسبب الملف الحقوقي للإمارات، بالإضافة إلى الجرائم الإنسانية في حرب اليمن.
وإلى جانب التغلغل في المؤسسات الدينية وإقامة شراكات معها، لا تكتمل خُطة «محور الاعتدال» إلا عبر الاستثمار في المجال الإعلامي وتمويل مراكز بحثية بتمويل مباشر من الحكومة الإماراتية بهدف دراسة حركات الإسلام السياسي، ونشر مواد إعلامية موّجهة تخدم الاتجاه العام للدولة، عبر عدة مراكز أشهرها مركز «المسبار» الذي يُديره السفير السعودي في الإمارات تركي الدخيل، والذي يحصل سنويًا على 12 مليون درهم إماراتي –300 ألف دولار– بهدف التأكيد على إظهار «الإمارات بين تطرفين»، في إشارة للتيارين القطري والسعودي، إلى جانب التركيز على الدعوة التي تتبناها أبو ظبي بدعم خطاب عولمة الإسلام وإعادته إلى جذوره اللاسياسية.
الإمارات وحرب اليمن.. انسحاب إعلامي وليس عسكريًا
بعد أربع سنوات من الحرب، قررت الإمارات الانسحاب من معظم مناطق وجودها في اليمن، في خطوة أثارت كثيرًا من التساؤلات حول الدوافع في هذا التوقيت الذي تزامن مع التصعيد الأمريكي الإيراني على خلفية الأحداث التي شهدها الخليج العربي عقب استهداف السفن التجارية وناقلات النفط في ميناء الفجيرة الإماراتي في شهر مايو (أيار) الماضي، وتزامنًا مع التهديدات الحوثية التي وصلت إلى حدّ قصف مطار أبو ظبي بطائرة مُسيرة.
وفي الوقت الذي تسلمت فيه القيادة السعودية القواعد العسكرية في ميناءي المخا والخوخة، اللذين كانت تستخدمهما الإمارات في حملتها العسكرية للسيطرة على الحديدة غرب اليمن، كشفت صحيفة «الأخبار» اللبنانية نقلًا عن تسريبات أنّ أبو ظبي أرسلت وفدًا إلى طهران لبحث استراتيجية الخروج من مستنقع اليمن الذي بات يُحاصر السعودية بالاتهامات الدولية تزامنًا مع تصويت الكونجرس الأمريكي لصالح مشروع قانون حظر تصدير السلاح للسعودية.
وأعلنت الإمارات بعد مشاورات مع واشنطن والرياض سحب جزء من قطاعاتها العسكرية ونقلها برًا وبحرًا إلى خارج عدن، ومع خلو شوارع الجنوب اليمني من القوات الإماراتية، تؤكد الشهادات الميدانية التي نقلها مراسل موقع «ميدل إيست آي» البريطاني، فإن الوجود الإمارات ما يزال ملحوظًا في وجود أعلامهم على المؤسسات العامة.
الانسحاب الإعلامي للإمارات كان هدفًا للهرب من تورطها في حرب اليمن الذي سبب لها انتقادات دولية، ووضعها في مواجهة مباشرة مع الحوثيين، واللافت أنّ القوات الجنوبية المدعومة إماراتيًّا تمثل القوة الرئيسية على الساحل الغربي في معركة الحديدة، ما يعني أنّ القيادة السعودية حتى وإن تسلمت أعلام المعركة، فإن أبو ظبي هي المتحكم الرئيس في مجريات الحرب، وينقل موقع «ميدل إيست آي» البريطاني شهادة أحد المقاتلين الذين دربتهم الإمارات –إلى جانب نحو 90 ألف آخرين– بأنّ القوات اليمنية حاليًا تُقاتل تحت إشراف الضباط الإماراتيين.
على جانب آخر، وفيما تحاول الإمارات نفض يدها عن أي اتهامات أممية بشأن انتهاكات الحرب أو الوضع الإنساني، تروج أبو ظبي لنفسها بأنها تحتل المركز الأول عالميًّا، باعتبارها أكبر دولة مانحة للمساعدات للشعب اليمني، وهو ما يأتي ضمن خطة الأمم المتحدة الإنسانية في اليمن، وعبر موقع «سكاي نيوز عربية» الإماراتي، أعلنت الحكومة الإماراتية أنها قدمت نحو 5.59 مليار دولار أمريكي مساعدات إنسانية.
والمفارقة أن مبيعات الأسلحة لكل من الإمارات والسعودية فاقت حجم المساعدات الإنسانية نحو 55 مرة، بواقع 86.7 مليار دولار لمبيعات السلاح، ونحو 1.56 مليار دولار مساعدات إنسانية بما يعادل 1.8% من قيمة صفقات السلاح، وذلك خلال البيانات التي نشرها معهد «ستوكهولم» الدولي لأبحاث السلام خلال عامي 2015 و2016.
كما أن الهجوم العسكري الذي قادته الإمارات في مدينة الحديدة سبب كارثة إنسانية نزح على إثرها أكثر من 400 ألف يمني كما أدى القتال إلى تفاقم أزمة الغذاء والمجاعة في البلاد، وعلى جانب آخر تُتهم الإمارات بتشييد سجون سرية تشهد وقائع تعذيب، كما تعاقدت مع جنود القوات الخاصة الأمريكية المتقاعدين لتعقب واغتيال شخصيات سياسية يمنية بزعامة رجلها في الجنوب هانئ بن بريك، الذي واجه مؤخرًا اتهمات من النيابة العامة اليمنية بالضلوع في عمليات اغتيال، وقاد عملية سيطرة قوات «المجلس الانتقالي الجنوبي» على عدن وطرد الحكومة الشرعية برئاسة هادي منها تحت سمع وبصر التحالف.
استراتيجية الهروب التي نفذتها الإمارات لم تمنعها من التدخل لمنع انعقاد مجلس النواب اليمني في العاصمة المؤقتة عدن، تزامنًا مع توحيد أكثر من ثمانية ألوية وفصائل عسكرية كانت منتشرة في الساحل الغربي، تحت قيادة عسكرية موالية لها بشكل مباشر، وحتى الآن فالإمارات لم تُسّلم للسعودية كافة المنشآت والمواقع الحيوية التي تُسيطر عليها في الجنوب، وفي الوقت الذي تبحث فيه السعودية عن حل إنهاء الحرب، تجد الرياض نفسها مسئولة في النهاية عن تحمّل الخسائر دون المكاسب التي انتزعتها أبوظبي وورطتها فيها في البداية.
ليبيا.. الإمارات تستغل ترامب لصالحها
مثلما دفعت الإمارات السعودية للقتال في حرب اليمن، وحمّلتها الخسائر وحدها دون المكاسب، فعلت أبو ظبي الأمر نفسه في ليبيا عبر تصدير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لدعم حفتر رغم اعتراضات كبار مستشاريه في الأمن القومي. تصف صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية نفوذ ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد بأن «لديه خطًا مفتوحًا مع الرئيس ترامب»، الذي كثيرًا ما يتبنى وجهة نظر الأمير تجاه قطر وليبيا والمملكة العربية السعودية، بل يقدم رأيه على مشورة أي من المسؤولين في حكومته وفي دائرة كبار مستشاريه في الأمن القومي.
وخلال الهجوم الذي شنه اللواء المتقاعد خليفة حفتر على طرابلس في أبريل (نيسان) الماضي، هاتف الرئيس الأمريكي الجنرال الليبي، وأيّده في جهوده لمكافحة الإرهاب، وهو ما بدا الضوء الأخضر الذي اعتمد عليه حفتر في حربه التي لم تنتهِ إلى اليوم، على جانبٍ آخر كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، بأنّ ترامب تعرض لضغوطٍ إماراتية مصرية لدعم حفتر، بدعوى أنّ المقاتلين في طرابلس لهم ارتباط بـ«القاعدة» وتنظيم «داعش».
وبعيدًا عن الدور السياسي للإمارات في معركة طرابلس الذي حشد لحفتر دعمًا أمريكيًّا فرنسيًّا روسيًّا، بالإضافة لذخيرة مصرية، وأموال سعودية، وطائرات إماراتية، وصفها المتحدث باسم الجيش الليبي بـ«الضربات الجوية الصديقة، وهي التي باتت اليوم القوة الضاربة التي تحارب الطائرات التركية التي حصلت عليها حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا.
والدعم اللامتناهي الذي حصل عليه أمير الحرب في ليبيا؛ سُرعان ما تلاشى عقب عجزه عن إنهاء المعركة بتحقيق أهدافها، أو إحراز أي تقدم عسكري يُمكّنه من التفاوض مجددًا باعتباره أقوى رجلٍ في ليبيا كما يعتبر نفسه، لكنّ الإمارات قدّمت لحفتر منظومة دفاع جوي متطور من طراز «بانتسير إس1/ إس آي 22» روسية الصنع، وهي ضمن نحو 50 قطعة عاملة تمتلكها أبو ظبي، والصفقة جاءت عقب حصول حكومة الوفاق على الطائرات المسيرة التركية الصنع من طراز «بايراكتار تي بي 2»، والتي حوّلت مسار الحرب متفوقة على الطائرات الإماراتية والليبية التابعة لحفتر بعدما تمكن من ضبط إيقاع المعركة.
مظلة الإمارات ما زالت فاعلة داخل البيت الأبيض بالرغم من رفض الخارجية الأمريكية لمعركة طرابلس واتهامها الجنرال الليبي بصناعة الفوضى في ليبيا، تزامنًا مع الدعوات التي وجهها عدد من النواب في الكونجرس إلى النائب العام ومدير الشرطة الفيدرالية، للتحقيق في تورط حفتر في ارتكاب جرائم حرب باعتباره مواطنًا أمريكيًّا، لكن لا يُمكن لأحد محاسبته طالما أنّ الرئيس الأمريكي يعتبره حليفًا ضمن النفوذ الإماراتي.