منذ منتصف العام الماضي (2014) انخفض السعر العالمي للنفط لرقم لم يشهده العالم منذ أكثر من 6 سنوات. هذا الانخفاض الذي امتد لفترة لم يشهدها العالم منذ أكثر من عشرين عامًا، كشف عن جُبّ عميق يفيض بالأسئلة والتكهنات حول الأسباب الحقيقية وراء هذا الانخفاض المريب والمستمر حتى اللحظة وصولًا لأكثر من 50% من السعر المستقر قبل الأزمة (100 دولار للبرميل).

التكهنات المتعددة والمختلفة لأسباب الأزمة، أتبعتها تكهنات أخرى، أو دعنا نقول تنبؤات، حول النتائج التي قد تُسفر عنها الأزمة (إن جاز اعتبارها أزمة) على الدول الكبرى المصدرة للنفط، وعلى رأسها قطعًا دول الخليج العربي وفي القلب منها المملكة العربية السعودية، حيث إن نحو 90% من موارد المملكة تتمثل في صادراتها من النفط.

في هذا التقرير نرصد اثنتين من أبرز القضايا التي من المحتمل أن تشهد تغيرًا في المواقف الخليجية منها إثر الهبوط الكبير لأسعار النفط العالمية.

العمالة الأجنبية كسلاح ذي حدّين

تحتل دول الخليج العربي الصدارة العالمية في جذب العمالة الوافدة الأجنبية لأراضيها. على سبيل المثال تستحوذ العمالة الأجنبية في السعودية على أكثر من 40% من الوظائف المُتاحة. وفي بعض الدول الخليجية تزيد أعداد العمالة الأجنبية على أعداد السكان بنسب عالية. في قطر مثلًا، ووفقًا لإحصائية تعود لعام 2010 بلغت نسبة العمالة الأجنبية إلى إجمالي عدد السكان حوالي 80%، وفي الكويت حوالي 70%.

الأعداد الكبيرة للعمالة الأجنبية في الخليج، تعني بالضرورة تحويلات مالية مليارية من تلك الدول إلى البلدان الأصلية للعاملين الأجانب. هذه التحويلات تجاوزت 70 مليار دولار وفقًا للبيانات الرسمية. علمًا بأن نسبة ليست بالقليلة من العمالة الأجنبية في الخليج غير شرعية، ما يعني أيضًا تحويلات مالية غير رسمية لا يُعلم على وجه الدقة مقدارها.

وتمثل العمالة الوافدة لدول الخليج سلاحًا ذا حدين، فمن جانب ذهبت دول الخليج منذ تأسيسها واكتشاف ثروة النفط، إلى استقدام العمالة الأجنبية بنسب متصاعدة بُغية المساهمة في بناء اقتصاديات دول الخليج وبناها التحتية. التصريحات الخليجية الرسمية تؤكد على هذا المعنى. لكنها الآن تلمح إلى إدراكها ضرورة خفض نسب العمالة الوافدة مُقابل زيادة نسب توطين الوظائف، أي زيادة نسب العمالة المحلية.

تحتل دول الخليج العربي الصدارة العالمية في جذب العمالة الوافدة الأجنبية لأراضيها

العمالة الأجنبية الوافدة على دول الخليج، لا تساهم فقط في بناء اقتصاديات تلك الدول، وفقًا للتصريحات الرسمية، ولكنها أيضًا تساهم في رسم دور فاعل لا يمكن تجاوزه لدول الخليج، في حدود المنطقة الجارة على الأقل، والممتدة من قلب آسيا شرقًا إلى حدود العالم العربي غربًا.

على سبيل المثال: البيانات الرسمية المصرية تقول إن أكثر من مليون مصري بأسرهم يعملون في المملكة العربية السعودية. في نفس الوقت ثمة تقديرات غير رسمية تقول إن أعداد المصريين العاملين بالسعودية ربما تجاوزت 4 ملايين عامل بأسرهم. على كل حال إذا اعتبرنا أن مليونًا واحدًا هو العدد الصحيح للعمالة المصرية في السعودية، ما يعني إذًا -وفقًا للبيانات الرسمية- نحو 30% من التحويلات المالية بالعملة الصعبة من إجمالي تحويلات العمالة المصرية في الخارج. وإذا علمت أنّ إجمالي تحويلات المصريين العاملين بالخارج تُقدر بنحو 18 مليار دولار سنويًّا، أي أكثر مما تحققه السياحة وقناة السويس والاستثمارات الأجنبية مُجتمعة، وأن 6 مليارات دولار تقريبًا هي نسبة إسهام العمالة المصرية بالسعودية في هذه التحويلات؛ ستدرك وقتها ما تعنيه العمالة الأجنبية بالنسبة للسعودية في سياساتها الخارجية ووضعها في المنطقة، إذ كيف لدولةٍ كمصر -مع ما ذكرناه- أن تتجاوز السعودية، إلا بشق الأنفس؟

وعلى الرغم مما تمثله العمالة الأجنبية من سلاح سياسي- اقتصادي في يد الخليج، إلا أنّ الحد الآخر لهذا السلاح هو التداعي السلبي له على الاحتياطي النقدي الخليجي الذي تستخدمه الآن دول الخليج لسد عجز موازناتها في ظل انخفاض سعر مادة دخلها الأساسي.

هذا وكانت أصوات خليجية أطلقت تحذيراتها منذ فترة طويلة، من استمرار سياسة فتح الأبواب على مصارعها للعمالة الوافدة لتداعيات يرونها سلبية على المستوى الاجتماعي من جهة متمثلًا في التأثير المنعكس على التركيبة الديموغرافية لدول الخليج، والمستوى الاقتصادي من جهة أخرى، متمثلًا في تخطي نسب العمالة الوافدة للاحتياجات الحقيقية لاقتصاديات الخليج.

الآن تجاوز الأمر الأصوات على هامش السُلطات وصولًا إلى مراكز اتخاذ القرار التي بدأت بالفعل في دراسة خطوات تخفيض نسب العمالة الأجنبية في مقابل المحلية. الخطوات التي تبدو مترددة حتى الآن يُحتمل أن يُتخذ إزاءها مواقف جادة وفاصلة حال استمرت أزمة انخفاض أسعار النفط على ما هيَ عليه لفترة أطول، وهو ما يبدو أنه سيحدث على أي حال.

هل سنشهد موقفًا خليجيًّا أكثر ترددًا من الأزمة السورية؟

رفضت المملكة العربية السعودية، كقائدة اعتبارية لدول الخليج العربي، وفعلية لمُنظمة أوبك، أي تدخل في أزمة انخفاض سعر النفط بخفض إنتاجها من الخام، بل إنها في البداية خفّضت من سعر خامها لتزيد من الإقبال عليه! هذا الرفض رافقه عدة محاولات لتفسيره. من جانب يُرى كمحاولة خليجية للحد من توسع نفوذ النفط الصخري الأمريكي في السوق العالمية. ومن جانب آخر يُرى كورقة في يد السعودية للضغط على روسيا وإيران اللتين تعتمدان اقتصاديًّا بشكل كبير على الصادرات النفطية.

سياسيًّا قد يبدو كلا التحليلين منطقيين، لكن مقاربةً تاريخية مُتضافرةً مع فهم لطبيعة الاقتصاد الخليجي، قد تكشف لنا الكثير. كما ذكرنا تعتمد اقتصاديات الخليج بشكل أساسي على الصادرات النفطية. السعودية تحديدًا تعتمد على الصادرات النفطية مع شبه انعدام لأي وجهٍ استثماري آخر في البناء الاقتصادي السعودي. في الثمانينات حدثت أزمة شبيهة انخفضت فيها أسعار النفط مع هبوط الطلب العالمي. آنذاك وضعت منظمة أوبك نظامًا يقتضي تخفيض إنتاج الدول الأعضاء للخام تحقيقًا للتوازن في السوق العالمية. هذا النظام حدد إنتاج السعودية من النفط وصولًا لـ2.5 مليون برميل يوميًّا فقط، ما حدا بالمملكة خرق النظام ورفع إنتاجيتها وصولًا لأكثر من 10 مليون برميل يوميًّا، وهو رقم قياسي لم تحققه المملكة مرة أخرى سوى بدءًا من أبريل الماضي (2015) تزامنًا مع تصاعد الأزمة.

شعار منظمة أوبك

خرق السعودية ورفع إنتاجيتها للنفط أدى وقتها لانخفاض مدوٍ لسعر النفط وصولًا لنحو 6 دولارات، ما أدى بدوره لضرب الإنتاج الأمريكي. رغم ذلك استمرت السعودية في طريقها، إذ ما الذي يدفع بدولة كالسعودية تملك أكبر احتياطي نفطي مُؤكد في الثمانينات وثاني أكبر احتياطي الآن، لتحميل أعباء تحركات السوق العالمية على الاحتياطي النقدي وحده؟!

ومع أننا لا نقول بالتجاهل الكُلي للأبعاد السياسية للموقف السعودي- الخليجي. لكننا أيضًا لا نستطيع تجاوز المقاربة التاريخية التي عقدناها، والتي تبدو منطقية بالنسبة لمنطقة تحتل شعوبها مراكز مُرتفعة في معدلات الرفاهية. كما يبدو منطقيًّا تأثر المملكة اقتصاديًّا بأزمة الخام، وهو ما أكده صندوق النقد الدولي في تقرير أغسطس الماضي الذي توقع حدوث تراجع كافة المؤشرات الاقتصادية على مدار العام الجاري والذي يليه (2016).

الموقف السعودي/ الخليجي من الأزمة السورية يمكن الآن الاعتماد عليه في التدليل على التداعي السلبي لانخفاض سعر النفط على منطقة الخليج. في أغسطس الماضي نقلت صحيفة صنداي تايمز عن “مسؤول سوري بارز” قوله إن محمد بن سلمان، ولي ولي العهد ووزير الدفاع السعودي، التقى بعلي مملوك مدير المخابرات السورية، في الرياض، في شهر يوليو 2015، بعد أن توسطت روسيا لترتيب هذا اللقاء الذي يُعد الأول من نوعه منذ اندلاع أحداث الأزمة السورية.

جاء هذا اللقاء كخطوة أولى في سلسلة تحركات يبدو أنها ترمي في اتجاه تقليل حدة تمسك السعودية بموقفها من الأزمة السورية، إذ أعقبته زيارتان سعوديتان رسميتان لموسكو، الأولى لولي العهد، ثُم تلتها ثانية لوزير الخارجية. أما المثير للاهتمام حقًّا فهي المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز في 27 سبتمبر المنصرم، والتي جاءت متزامنةً مع تعزيز روسيا لتواجدها العسكري في سوريا.

هذا التواجد العسكري الذي تجلّى في الأيام الأخيرة في هجمات عسكرية رسمية، لم تُعلق عليه المملكة لفترة، حتى أصدرت أخيرًا بيانًا مُشتركًا مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وقطر وتركيا، أعربت فيه تلك الدول عن “قلقها البالغ” من هذا التواجد العسكري الروسي. لم ينتهِ الأمر عند الموقف الضعيف المتمثل في “الإعراب عن القلق”، بل تجاوزه إلى دعوة لروسيا أن تركز هجماتها ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)!

[c5ab_facebook_post c5_helper_title=”” c5_title=”” url=”https://www.facebook.com/syria.usembassy/photos/a.73223327648.68773.48261722648/10153569605197649/?type=3&permPage=1″ width=”” ]

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد