كُتبت بماء الذهب وعُلقت على أستار الكعبة، وعُرفت باسم المعلقات السبع، فمن كتبها وما قصصها؟
يُحكى أنه في العصر الجاهلي لم يكن يُعبأ بأي شاعر لا يأتي إلى مكة، فكان الشعراء العرب يأتون إليها من أقاصي الأرض كل عام حتى يعرضوا كلماتهم. ويقول الدكتور محمد خير أبو الوفا في كتابه: «المعلقات السبع مع الحواشي المفيدة للزوزني»: إن «كلمات هؤلاء الشعراء كانت سجلهم النفيس ومتحفهم الناطق الذي شمل مختلف تجاربهم في الحياة».
في ذلك الوقت اختيرت من سائر الشعر سبع قصائد، وقيل إنها كُتبت بماء الذهب، وعُلقت على أستار الكعبة، وعُرفت باسم المعلقات السبع. لكن بعض المؤرخين قالوا: إن «هذا لم يثبت»، وإنها سميت بالمعلقات؛ لأنها تعلق بالنفوس والأذهان. وعمومًا «لا نستطيع أن نعترف بأن ما يُروى من سيرة هؤلاء الشعراء الجاهليين، وما يُضاف إليهم من الشعر، تاريخ يمكن الاطمئنان إليه، أو الثقة به، وإنما أكثر هذا كله قصص وأساطير لا تفيد يقينًا ولا ترجيحًا، وإنما تبعث في النفوس ظنونًا وأوهامًا»، بحسب ما ذهب إليه الأديب المصري طه حسين.
أما أصحاب تلك القصائد فهم: امرؤ القيس، وطَرَفة بن العبد، وزُهير بن أبي سُلمى، ولَبيد بن ربيعة، وعمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد، والحارث بن حلزة، ونعرض فيما يلي القليل مما كُتب عنهم وعن معلقاتهم.
امرؤ القيس بن حجر: ابن الملوك الذي عشق الشعر والخمر والنساء
ولد امرؤ القيس بن حُجر الكندي في نجد، كان والده ملكًا على بني أسد وغطفان، أما والدته فهي فاطمة بنت ربيعة أخت كليب والمهلهل، وامرؤ القيس هو واحد من أشهر شعراء الجاهلية؛ فعلى الرغم من حياة اللهو والترف التي نشأ وترعرع بها، إلا أن الشعر قد شغفه حبًا حتى أن والده طلب منه التوقف عن نظم الشعر بسبب جرأة كلماته، إلا أن امرؤ القيس لم يستجب لطلبه، وهو الأمر الذي دفع والده إلى طرده، فذهب امرؤ القيس يطوف في أحياء العرب يصطاد، ويأكل ويشرب الخمر، ويكتب الشعر.
يخبرنا التاريخ أن امرأ القيس كان شديد الشاعرية، وأنه أول من ذكر الديار في شعره فوقف عليها وبكى «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِ»، فاتبعه الشعراء بعد ذلك حتى أضحت من بعده أسلوبًا تقليديًا استطاع طي القرون وتخطي الأجيال.
والحقيقة أن بكاء امرئ القيس على الديار جاء نتيجة الظروف التي عاشها؛ إذ جاءه خبر موت والده وهو هائم على وجه وطريد، وحتى حين أراد أن يأخذ بثأر أبيه لم يستطع – إذ تخلت عنه القبائل – فسار إلى القيصر يوستنيانوس في مدينة القسطنطينية، والذي عطف عليه ووعده بمساعدته في الأخذ بثأر والده، ولكن ذلك لم يحدث.
أما معلقة امرئ القيس فتحكي بالأساس عن واقعة حدثت مع حبيبته وابنة عمه عنيزة بنت شرحبيل؛ إذ مُنع من لقائها وحُرمت عليه رؤيتها، ولذلك انتهز فرصة ذهابها إلى غدير دارة جلجل في منازل كندة بصحبة صديقاتها، فسبقهم امرؤ القيس إلى هناك، وحين نزعن ثيابهن ونزلن إلى الماء ظهر امرؤ القيس وقد أخذ ثيابهن ورفض إعطاءهن إياها حتى تخرج كل واحدة منهن عارية من الماء، فخرجن جميعًا وبقيت عنيزة وأقسمت عليه أن يعدل عن شرطه، ولكنه لم يفعل، وألح عليها أن تخرج عارية فخرجت، ثم أعطاها ثيابها.
طرفة بن العبد: الشاعر الذي قتله لسانه
منذ طفولته المبكرة كان طرفة بن العبد ذكيًا حاد الذهن، وحين كبر أصبح شاعرًا جريئًا حتى أضحى معروفًا بأنه يقوم بهجاء قومه وهجاء غيرهم، وكان ابن العبد معتدًا بنفسه لديه الكثير من الكبرياء، وأمضى سنواته القليلة التي لم تتعد العشرين عامًا في معاقرة الخمر واللهو والهجاء، حتى أنه هجا عمرو بن هند قائلًا:
وحين علم عمرو بن هند بما قاله ابن العبد، استقدمه إليه وطلب منه أن يختار ميتته، فاختار بن العبد أن يشرب الخمر حتى الثمالة ثم تُقطع أوصاله، فمات بالطريقة التي طلبها، وكان الشاعر الذي قتله لسانه.
أما بالنسبة لمعلقه الشهيرة فقد نظمها ابن العبد حين ضلت إبل أخيه معبد، فذهب طرفة إلى ابن عمه يسأله إن كان رأى الإبل، ولكن الأخير نهره ولامه قائلًا له: «فرطت فيها ثم تتعب في طلبها»، ومن هنا أُلهم ابن العبد بقصيدته الطويلة التي قال في مطلعها:
يستفيض بعد ذلك ابن العبد في وصف ناقته وصفًا جميلًا حتى ليتخيل للقارئ أنه يصف حبيبته، ولكن ابن العبد يفاجئنا بأنه لا يتحدث سوى عن ناقته؛ إذ يقول:
ينتقل ابن العبد بعد ذلك للحديث عن الموعظة والحكمة، ثم يعاتب ابن عمه على نهره له.
وقد جُمعت أشعار بن العبد في ديوان طبع في شالون بفرنسا سنة 1900، مصحوبًا بترجمة فرنسية، كما سُطرت أخباره وأقواله في كتب عدة، مثل: «الأغاني والجمهرة» و«ديوان الستة الجاهليين» و«أمثال الميداني» و«شرح المعلقات السبع».
زهير بن أبي سلمى: حكيم الشعر الجاهلي
يقول إمام اللغة العراقي ابن الأعرابي: إن زهير بن أبي سلمى كان له من الشعر ما لم يكن لغيره؛ كان أبوه شاعرًا، وخاله شاعرًا، وأخته سلمى شاعرة، وأخته الأخرى الخنساء شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعرين، وحفيده المضرّب بن كعب شاعرًا، وخلافًا لغيره من الشعراء كان ابن أبي سلمى معتدلًا وحكيمًا؛ إذ لم يكن يمدح أحدًا إلا بما فيه كما قال عنه ابن عباس، ويُذكر أن عمر بن الخطاب سأل ابن زهير عن مصير المعلقة التي كُسيت بالذهب فرد ابن زهير: «أبلاها الدهر»، ليرد عليه ابن الخطاب قائلًا: «ولكن ما كتبه أبوك لا يبليه الدهر».
وكان زهير يكتب القصيدة في شهر، وينظمها وينقحها في سنة، ثم يعرضها على المقربين إليه، وبعد ذلك يقرأها للعامة، وفي شعره كان زهير تقيًا ورعًا وحكيمًا، وكان يؤمن بالبعث، إذ قال مرة:
أما معلقته فقد كتبها على أثر الحرب التي درات رحاها بين قبيلتي عبس وفزارة بسبب سباق، وهي حرب داحس والغبراء، التي احتدمت شراراتها لأكثر من 40 عامًا، حتى أصلح بين الطرفين هرم بن سنان والحارث بن عوف، ودفعا الديات من مالهما الخاص، وقيل إنها بلغت 3 آلاف بعير، وقد نظم زهير معلقته ليمدح فيها المصلحين بعد أن حقنا الدماء، ويحذر فيها الفريقين من شر إضمار الحروب ونتائجها المدمرة لكل الأطراف.
لبيد بن ربيعة: الشاعر المخضرم الذي أبهره القرآن فاعتزل كتابة الشعر
يقول الإمام الشافعي في ديوانه: ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد، في كناية عن عظمة شعره وقوة وسلامة لغته.
إنه لبيد بن ربيعة العامري، الذي عاش 145 عامًا، 90 منها في العصر الجاهلي، والباقي في الإسلام، وقد أسلم لبيد وعاش في الكوفة أيام خلافة عمر بن الخطاب، ولكنه اعتزل كتابة الشعر تمامًا بعد الإسلام، إذ كان يرى ألا كلام يمكن أن يُقال بعد القرآن، فلم يكتب بعد إسلامه سوى بيت واحد من الشعر قال فيه:
وبالنسبة لمعلقته فلم يكتبها ابن ربيعة لأمر أو حادثة بعينها، وإنما نظمها فقط ليحكي عن نفسه، وعن بساطة الحياة البدوية، والرجل البدوي، الأبي النفس عالي الهمة.
وبدأ ابن ربيعة معلقته بوصف الديار وما فعلت بها الأمطار، ثم وصف ناقته ونفسه، وانتهى إلى وصف بيئته الصحرواية. وعلى عكس تراث الشعر الجاهلي، الذي ضاع أغلبه بسبب قلة التدوين وانشغال المؤرخين بالكتابة عن الإسلام بعد ذلك، جُمعت أشعار ابن ربيعة في ديوان طُبع في فيينا عام 1880، ثم تُرجمت إلى اللغة الألمانية، ولابن ربيعة سيرة باللغة الألمانية بقلم المستشرق شارل هوبر.
عمرو بن كلثوم: شاعر الجاهلية الفارس الذي كان مضرب الأمثال في القتال
هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن تغلب بن وائل وكنيته أبو الأسود، أما أمه فهي ليلى بنت المهلهل بن ربيعة أخو كليب، وقد كانت أمه شديدة التكبر؛ لأن أباها مهلهل بن الربيعة، وعمها كليب وائل أعز العرب، وزوجها كلثوم بن مالك أفرس العرب، وابنها عمرو بن كلثوم سيد قومه.
وقد حدث ذات يوم أن دعا عمرو بن هند بن كلثوم ووالدته إلى بيته للطعام، ولأن ليلى كانت معروفة بطبعها فقد أرادت أم عمرو بن هند أن تكسر عزة نفسها قليلًا، فقالت لها: «يا ليلى ناوليني هذا الطبق»، لترد عليها ليلى: «لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها»، فأعادت أم عمرو بن هند طلبها وألحت عليها، فصاحت ليلى: «واذلاه!»، وهنا سمعها عمرو بن كلثوم ورأى سيفًا معلقًا على الحائط فأخذه وقتل عمرو بن هند وقال مطلع معلقته فور قتله.
عنترة بن شداد: شاعر الحب والحرب
كان عنترة ابن شداد واحدًا من أشهر فرسان العرب، عانى في حياته كثيرًا، فأبوه استبعده من جواره؛ لأن أمه جارية، وهو عبد، وفي إحدى المرات هاجمت بعض القبائل بني عبس فأسرع إليه أبوه يستنجده، ولكن عنترة رد عليه قائلًا إن العبيد لا يشاركون في القتال وإنما يحسنون الحلب فقط، وهنا قال له أبوه قاتلهم وأنت حر، ومن هنا بدأ عنترة يُعرف بأنه مقاتل بارع.
وبالرغم من قوة بأسه وشدة قتاله، إلا أن عنترة كان رقيق القلب، فأحب عبلة ابنة عمه حبًا كبيرًا، وهام بها عشقًا.
أما معلقته، فقد كتبها بعد أن شارك في حماية بني عبس من إحدى الهجمات، وحين جلس ليستريح قليلًا عايره أحد رجال قبيلته بسواده وسواد أمه، فنظم عنترة معلقته التي بدأها بذكر عبلة وبُعد ديارها، وبعدها وصف نفسه فارسًا نبيلًا يحمل أجمل قيم الإنسانية.
الحارث بن حلزة: الشاعر الذي كتب معلقته خصيصًا ردًا على ابن كلثوم
كان الحارث بن حلزة شديد الفخر بقومه معتدًا بنفسه، وكتب معلقته لعمرو بن هند، ردًا على عمرو بن كلثوم وغضبًا لقومه، إذ كان معروفًا عن ابن كلثوم أنه شديد الاعتداد بقومه، وفي هذا المجلس تجاوز ابن كلثوم الحد في فخره، ولم يراعِ حرمة مجلس ابن هند، فرد عليه الحارث بمعلقته، ولكنه لم ينشدها بنفسه، وإنما أنشدها جماعة من قومه نيابة عنه؛ لأن الحارث كان مريضًا بالبرص، وكره أن ينشدها لعمرو بن هند من خلف سبع ستور، ثم يُغسل أثره بالماء كما كان يُفعل بسائر مرضى البرص حينها.