توصّلت الحكومة التونسية، الجمعة، إلى عقد اتفاقٍ مع محتجي الكامور في محافظة تطاوين الواقعة في أقصى الجنوب على الحدود التونسية الليبية، مُعلنة انتهاء الأزمة الاجتماعية الأبرز خلال الأشهر الماضية، وليُرفع الاعتصام المتواصل منذ أشهر، والذي عطل إنتاج البترول في المنطقة.
الاعتصام الذي انطلق في الثالث من أبريل (نيسان) الماضي بنصب عشرات الخيام، ومنع عبور الشاحنات والسيارات إلى حقول النفط في صحراء تطاوين، ثم على أثره إيقاف الإنتاج، وقّع عليه كلٌّ من مبعوث الحكومة والمكلف بإدارة المفاوضات ووزير التشغيل، عماد الحمامي، والأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، ووالد الشاب أنور السكرافي الذي قتل في مواجهات مع قوات الأمن نائبًا عن الشباب المُعتصم.
اقرأ أيضًا: الثورة على شركات النفط.. لماذا تعجز الحكومة التونسية عن تلبية مطالب المحتجين؟
تراجع ثقة التوانسة في العملية السياسية
لم يكن من المُفاجئ الاقتصار على إمضاء هذه الأطراف فقط، رغم حضور نواب مجلس الشعب عن المُحافظة وممثلي الأحزاب السياسية فيها وبعض الجمعيات، فقد أعلن التحرّك الشبابيّ منذ انطلاقه استقلاله التام عن الأحزاب السياسية والجمعيات، داعيًا في الآن ذاته للحول دون ركوبها على الأحداث والتصدّر للحديث باسم هؤلاء الشباب.
وبالإضافة لبحث المُعتصمين عن اللافتة المُجمّعة بديلًا عن اللافتات الحزبية المُفرّقة، كشف اعتصام الكامور عن حالة من انعدام الثقة في الأحزاب السياسية والعملية السياسية ككل. وفي هذا السياق، كشف تقرير أعدّه المعهد الجمهوري الدّولي (International republican Institute) حول المزاج العام للشعب التونسي عن أرقام ذات دلالة:
1- ارتفاع مؤشر التشاؤم

رسم بياني يكشف مدى ارتفاع مؤشر التشاؤم لدى التونسيين
يعتقد 83% من التونسيين خلال شهر أبريل (نيسان) أن البلاد ماضية نحو الأسوأ، في حين يرى 13% فقط من التونسيين أن البلاد سائرة في الطّريق الصّحيح. هذه النّسبة هي الأعلى على الإطلاق منذ إسقاط نظام بن علي، ودخول مرحلة الانتقال الدّيمقراطي، وسبق أن تم تسجيلها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من سنة 2015.
2- قلق من صعوبة الوضع الاقتصادي

رسم بياني يكشف عن ارتفاع مؤشر القلق لدى التونسيين حول الوضع الاقتصادي
رغم حديث الحكومة التونسية عن تحسُّن بعض المؤشرات الاقتصادية، وبداية تعافي عجلة الإنتاج في عدد من القطاعات الحيوية في البلاد، يتشارك 81% من التونسيين في الشعور برداءة الوضع الاقتصادي في البلاد، وهو رقم قياسي آخر مقارنة بفترات ماضية.
3- تردي صورة البرلمانيين

رسم بياني يكشف نسبة رضا التونسيين عن أداء البرلمانيين بمجلس نواب الشعب
ويشير هذا الرّسم البياني إلى العلاقة التونسية مع المُؤسّسة التّشريعية مُمثّلة في مجلس نواب الشعب الذي يحتوي على 217 نائبًا، موزّعين على عدد من الكتل البرلمانية. وفق ذات المصدر؛ يرى 66% من التونسيين أن النّواب لا يُقدّمون شيئًا للمساعدة في تلبية احتياجاتهم، ويرى 16% أن ما يُقدّم قليل مُقارنة بآمالهم.
4- نوايا التصويت في الانتخابات البلدية

رسم بياني يكشف عن نوايا التصويت في الانتخابات البلدية القادمة
بالإضافة للتراجع الحاد في شعبية أغلب الأحزاب، وخاصّةً حزبي حركة النهضة ونداء تونس، يكشف هذا الرّسم عن أن 60% من التونسيين لا يعلمون لمن سيصوتون، أو قد يقاطعون الانتخابات البلدية القادمة، رغم أنها على الأبواب، وهو ما يعكس عمق الهوة بين عامة الشعب من جهة، والمنظومة السياسية عمومًا، والأحزاب خصوصًا من جهة أخرى.
5- لا ينصتون لاحتياجات وأفكار الشباب

رسم بياني يكشف عن رؤية التونسيين لعلاقة السياسيين بحاجيات وأفكار الشباب
يُظهر الرّسم البياني أعلاه أن 77% من التونسيين يتبنون الفكرة القائلة بألا يولوا اهتمامًا لحاجيات وأفكار الشباب، وهو ما يُفسّر رقمًا آخر كان قد أعلنه المرصد الوطني للشباب، وهو نسبة انخراط الشباب في الأحزاب، والتي لم تتجاوز الثلاثة بالمائة.
كلّ ما سبق يؤكّد حجم الهوّة بين عموم النّاس، والعملية السياسية في تونس: انعدام الثقة وارتفاع مُؤشّرات القلق، وعدم قدرة الأحزاب على لعب دور الوسيط في التحرّكات الشعبية الاحتجاجية، اعتصام الكامور مثالًا؛ تضع في الميزان عملية الانتقال الدّيمقراطية الأخيرة الصّامدة في العالم العربي.
أسباب الاهتراء السياسي
عملية التحوّل العميقة التي شهدتها تونس، والتي كان من أبرز سماتها ارتفاع سقف حرية التعبير وحرّية التّنظّم كان يُمكن أن يُقلّص المسافات بين عامّة النّاس والمنظومة السياسية في تونس، لولا تظافر جملة من الأسباب التي أعادت ترسيخ عزوف الشعب عن السياسة بالمقارنة مع أشهر ما بعد الثّورة.
اقرأ أيضًا: الحرب على الفساد في تونس.. هل ينجح «يوسف الشاهد» في تمديد حكومته لـ2019؟
1- المُنافسة السياسية الخالية من الضّوابط
أفرزت انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011 ائتلافًا حاكمًا قادته حركة النّهضة برفقة حزبي المُؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات.
ورغم هشاشة الوضع الانتقالي، رفضت الأطراف الحزبية المُنهزمة في الانتخابات الالتحاق بالائتلاف الحكومي مُعلنة نفسها مع المُعارضة، لتجد نفسها ضمنيًّا في نفس الخندق مع النّظام القديم الذي كان يُراهن على إفشال القوى الطّارئة على السّلطة ليتسنّى له العودة إليها ديمقراطيًّا هذه المرّة من خلال دفع النّاس للمُقارنة بين فترة ما قبل الثورة، وفترة الانتقال الديمقراطي.
من أجل تحقيق حالة انعدام الثقة في المنظومة الجديدة؛ شهدت الساحة السياسية التونسية طيلة حكم الترويكا حربًا شعواء استعمل فيها الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والإشاعة بهدف تهرئة ثالوث الحكم، وخلق حالة من الصّد الشعبي تُجاهه.
وبيّنت نتائج الانتخابات المُوالية والتي تم تنظيمها في أواخر سنة 2014 نجاحًا نسبيًّا في تحقيق مُخطّط ترذيل الأحزاب الحاكمة، والذي ظهر من خلال اضمحلال الحزب الثاني والثالث في الانتخابات الأولى، وتراجع شعبية الحزب الأوّل ليحل ثانيًا هذه المرة، إلا أن اعتماد هذه السياسة في التعاطي مع الخصوم السياسيين أتى على الطّبقة السياسية كلّها، وكانت النتيجة أن فقد التونسيون أو قطاع واسع منهم الثقة في السياسة والأحزاب السياسية كلها بلا استثناء.
2- ضعف الثقافة الحزبية
على صعيدٍ آخر؛ عانت الساحة السياسية وما زالت من هشاشة المشهد الحزبي في البلاد. باستثناء حركة النّهضة التي بلغت عقدها الرّابع، وتُعتبر باقي أحزاب المشهد السياسي يافعة وفي طور التّشكّل، وهو ما ظهر في ضعف الثقافة الحزبية الدّاخلية، وفي قدرتها على إدارة الاختلافات الدّاخلية.
حزب نداء تونس مثلًا، وهو الحزب الأوّل في نتائج الانتخابات التشريعية 2014، لم يستقر له حال منذ مغادرة مؤسّسه الباجي قائد السبسي نحو كرسي الرّئاسة في قرطاج: شقوق وانسحابات وانقلابات وطعن في الشّرعيات وتسريبات لاجتماعات داخلية وغيرها من الظّواهر السلبية، كان لها دور محوري في الإساءة لصورة الأحزاب والعملية السياسية برمّتها.
3- دور سلبي للإعلام
الإعلام بدوره وإن كان من الطّبيعي أن يُركّز على الجدل السياسي والتناقضات التي يُفرزها، انخرط مع استثناءات قليلة، بحكم تداخل السياسة بالإعلام والإعلام بعالم المال، في محاور الفعل السياسي والدّعاية الحزبية غير المباشرة والمباشرة أحيانًا، عوض التّركيز على الرّسالة المهنية للإعلام، بل إن بعض المنابر الإعلامية تحوّلت لمنصّات للنيل من الخصوم السياسيين وتشويههم.
اقرأ أيضًا: «شفيق جراية».. الذي أعاد واجهة رجال الأعمال إلى السلطة في تونس بعد الثورة
وعلى سبيل الذّكر لا الحصر، اعتبر عدد من النّقّاد أن البرنامج الفكاهي «الماسك» حمل بين طيّات الهزل ترذيلًا كبيرًا للساسة والسياسيين في تونس. تقوم فكرة البرنامج على الإيقاع بمواطنين عاديين من خلال وضعهم وجهًا لوجه مع أحد أبرز شخصيتين في البلاد، وهما الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي، واللذان أتقن الفكاهي وسيم الهريسي تقليد شخصيتيهما باستعمال أقنعة عالية الدّقة، مستفيدًا من قدرته على التقليد.
أغلب هذه الوضعيات الفكاهية قدّمت الرّجلين في ثوب المُخادع والسّمسار والمُتسلّط على النّاس، وهو ما يُكرّس بحكم التكرار صورة نمطيّة سيئة عن الساسة والسياسيين في تونس.
نموذج لإحدى الحلقات: