هنالك قوة تُسمّى بـ«قُوَّةُ الفتات»، أو ما عبَّر عنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بوضوحٍ أثار ضحك الناس عندما طالب الناس بالـ«الفَكّة»، النظام الأردني يُمارس الفعل ذاته، ولكنه يأخذ «الفكّة» عنوةً من المواطن دون أن يشعر بها. قال الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» يومًا ما: «حيثما وجدت القوة وُجدت المقاومة»، ولكن يبدو أن النظام الأردني استطاع تجاوز هذه المقولة بممارسته نوعًا من القوة لا يشعر به المواطنون فضلًا عن أن يقاوموه.

الأردن والمعاملات الحكومية

مشوار إنجاز معاملة حكومية في الأردن مشوارٌ طويل، خطوات إنجاز المعاملة غير واضحة، والمفاجآت تنزلُ عليك شيئًا فشيئًا وكلما تقدّمت قلّ المال الذي في جيبك.

يكسب النظام رزقه من نسبة ضرائب كبيرة تُنهك المواطن، وليكسب بوسائل ناعمة يفرض رسومًا يسمّيها رسوم «الطوابع» و«الأوراق» و«التوقيعات».

لنفرض أن لديك ورقةً تُريد تصديقها من وزارة التربية والتعليم ووزارة الخارجية في آنٍ واحد، ولنفترض أن تكلفة استخراج هذه الورقة العادية ثلاثة دولارات، أما تكلفة تصديقها، أي أن تُختم بختم الوزارة الرسمي، تُضيف دولارين آخرين لحسابك، ثم تكلفة تصديقها من الخارجية تزيد – على أقل تقدير – خمسة دولارات جديدة. تكلفةُ الورقة لا تُذكر، وكذلك تكلفة الختم والتوقيع، وهذا ينطبق على كافة المعاملات الحكومية الأخرى، وكلما كبرت المعاملة كانت كلفة التصديقات والأوراق أعلى (تصل في بعض المعاملات لمبالغ كبيرة جدًا).

إنها مبالغ صغيرة جدًا بالفعل، ولكنها تُؤخذ في ملايين المعاملات لملايين المواطنين، ما يعني أنها تتحوّل إلى مبالغ ضخمة تُصب في خزينة الدولة. خلال هذا العام، 2017، استبدلت الحكومة الأردنية بطاقة هويّة إلكترونية جديدة بدلًا من قديمة غير إلكترونية، وقررت الحكومة أن التجديد إلزامي خلال فترة مُحددة قصيرة بتكلفة تصل إلى 14 دولارًا.

ستُؤخذ هذه التكلفة من ملايين المواطنين الذين تجاوزوا عامهم الـ18، قرار كهذا في دولة مُتوسط الأعمار فيها 22 عامًا يعني أن الكثير من المال سيصل فجأة إلى خزينة الدولة. عُورض القرار بشكل فردي من النائب البرلماني أحمد الرقب، فتم إلغاؤه – ومن النادر جدًا أن تلغي الحكومة قرارًا كهذا -.

ملك الأردن، عبد الله ابن الحسين، يستصدر البطاقة الجديدة.

جواز السفر

استراتيجية «امتصاص الأموال» مُعمّمة على كثير من المعاملات، يمكنك أن تفكّر بتسعيرة تجديد جواز السفر التي تحاول الحكومة زيادتها بشكلٍ مستمر. كانت التسعيرة قبل عام 28 دولارًا، أما الآن فقد وصلت إلى 70 دولارًا ونصف للمواطن الأردني، أما غير المواطنين من حملة الجواز الأردني، والذين يتجاوز عددهم المليون داخل الأردن فقط، فتسعيرة تجديد الجواز أكثر من 280 دولارًا. تُجدد هذه الجوازات كلّ عامين (لأبناء قطاع غزة) أو كل خمسة أعوام (لأبناء الضفة الغربية).

اقرأ أيضًا: اللاجئ الفلسطيني: كنز تتربح الحكومات العربية من عذابه!

من الأوراق التي يجب على المواطن الأردني تجديدها بشكل دوريّ «دفتر خدمة العلم»، وهو وثيقة رسمية يجب على كل مواطن أردني يبلغ 18 عامًا أن يقوم باستصدارها، ثم عليه تجديد الدفتر سنويًا بمبلغ دينار أردني واحد حتى بلوغ سن 40 وعندئذ يُسمح له بالتوقف عن تجديده. تجديدهُ إجباري بشكل أو بآخر لأنه شرطٌ حتى يُسمح للمواطن بالسفر خارج الأردن.

غزيّ يحمل جواز سفره الأردني المؤقت.

كيس مالٍ عائدٌ إلى الوطن

يتعاطى النظام الأردني بطريقة خاصة مع المُغتربين الأردنيين، فتكلفة تجديد الجواز من خارج الأردن تبدأ من 140 دولارًا، ولكن الأمور تذهب إلى أبعد من ذلك، فالأردن كله ينتفع عند عودة المغتربين إليه، إذ تقفز الأسعار في قطاعات صناعية كالحديد ومواد البناء، وقطاع العقار والإسكانات، لاستغلال ما يحمله المغتربون معهم من مُدّخَرات ينوون استخدامها في بناء «بيت العمر».

إنهم مفتاح لحل أزمات كثيرة، لنفكر بطالب أردني يحمل شهادة الثانوية من دول أجنبية وينوي متابعة دراسته الجامعية في بلده الأردن: عليه أولًا أن يمرّ بعملية تصديق أوراقه داخل الأردن (ولكل ورقة كلفتها)، ثم عليه أن ينتظر إعادة تقييمها، (تُخفّض مُعدلات حملة الثانوية الأجنبية، وفقًا للبلد الذي يأتون منه، لاختلاف مستوى التعليم في الأردن عن غيره من الدول)، كلّ هذا ليُنافس على 5% فقط من مقاعد الجامعات الحكومية كأي مواطن أردني درسَ في الأردن.

أي أنه يُنافس باقي الطلاب على حصة 5% من المقاعد الجامعية ذات التكلفة العادية، تُسمى بفئة «التنافس»، ومَن لا يُحالفهم الحظ برسوم عادية، وهم الأغلبية، فيضطرون إلى التقديم على المقاعد الجامعية ذات التكلفة العالية، تُسمى بـ«الموازي»، وهي على أقلّ تقدير تساوي ضِعْف التكلفة العادية، ويليها المقاعد الجامعية في البرنامج «الدولي»؛ يدخل فيه الطلاب الذين درسوا الثانويّة في نظام تعليم غير عربي، كالأمريكي أو البريطاني، وتُدفع الرسوم في هذا البرنامج بالدولار الأمريكي، وتكون أكثر من الضِعف بكثير مُقارنة بالرسوم العادية.

من لم تُفلح معه الخيارات السابقة فيُمكن أن يتقدم إلى الجامعات الخاصة، وهي بالطبع بتكلفة أعلى من تكلفة الجامعات الحكوميّة. إننا نتكلم عن أرقام كبيرة هنا، فالمغتربون الأردنيون قُدّروا عام 2015 بمليون مُغترب، 350 ألفًا منهم عاملون، تصل قيمة إيراداتهم للدولة الأردنية إلى 5 مليارات دولار سنويًا وفقًا لتقديرات العام نفسه، ما يعني أن عددًا كبيرًا – لا إحصائية تُحدد الرقم – يُغذي سوق التعليم الأردني سنويًا بمبالغ تعني الكثير للدولة.

الأردن والسباحة في الضرائب

نظرة سريعة على الاقتصاد الأردني تُعطيك الحقيقة التالية: «دولة الضرائب».

إيرادات الأردن في ميزانية عام 2017 تصل إلى 11.45 مليار دولار، فمن أين تأتي؟

  1. إيرادات غير ضريبية: ما تحدثنا عنه أعلاه من رسوم وغيرها، وتزيد عن ربع الإيرادات بنسبة 26.4%.
  2. إيرادات ضريبية: لها حصّة الأسد، وهي من جيوب المواطنين مُباشرة، تصل إلى 64.1%.
  3. إيرادات خارجية: وهي الحصة الأصغر، تمثّل 9.6%.

أما النفقات العامة فتصل إلى 11.9 مليار دولار، ما يعني أن هنالك عجزًا قدّر بـ461 مليون دولار. فإلى أين تذهب هذه النفقات؟ 55.4% من النفقات هي رواتب وتقاعدات وتعويضات، ما الرواتب والتقاعدات التي تحتاج 6 مليارات ونصفًا؟ من هُنا تلعب الدولة الأردنية لعبتها الكبيرة بعيدًا عن المساءلة والمُتابعة.

هل ستصرف الحكومة أموالكم بالشكل المناسب؟

Geplaatst door 7iber op Woensdag 1 februari 2017

من يحصل على أعلى الرواتب والتقاعدات؟

تختلف الأرقام حول رواتب الوزراء اختلافًا شديدًا، إذ يقول النائب السابق، سليم البطاينة، إن راتب الوزير يصل إلى خمسة آلاف دولار، يتقاضى معها خمسةً أخرى تحت مسميات مختلفة. لكن آخر تصريح رسمي في هذا الشأن كان من رئيس الوزراء، هاني المُلقي، قال فيه إن أعلى راتب في الدولة سيكون 4950 دولارًا تقريبًا، وذلك «في ضوء السياسة» الرامية إلى تخفيض النفقات الحكومية وفقًا لـ«التوجيهات الملكيّة».

قضية رواتب المُتقاعدين الحكوميين والسياسيين أعقد مما تبدو بكثير؛ فالوزير الذي تنتهي خدمته في وزارةٍ ما قد يُحال إلى غيرها في وقتٍ لاحق، ثمّ إلى غيرها مرةً أخرى وهكذا، فهاني المُلقي، رئيس الوزراء الحالي، عملَ سابقًا وزيرًا في خمس حقائب وزارية مختلفة قبل أن يُصبح رئيسًا للوزراء. ومثله نضال القطامين، وزير العمل الحالي الذي أخذ حقيبتين وزاريتين في حكومات مختلفة، وغيرهما الكثير من وزراء تركوا حقائبهم ليأخذوا أخرى أو لينتقلوا إلى السلك الدبلوماسي سفراء في دول أجنبية أو مُمثلين للخارجيّة الأردنيّة، ما يعني أنهم يحصلون على امتيازات مُختلفة بشكل مُتتابع ومُستمر باستمرار تنقّلاتهم في مناصبهم الحكومية والدبلوماسية، وكلُّه على حساب خزينة الدولة بالطبع.

منذ ديسمبر (كانون الأول) 2009 وحتى أكتوبر (تشرين الأول) 2012، شهدَ الأردن – في وضع ظريف – خمس حكومات سقطت سريعًا حتى جاءت حكومة عبد الله النسور، الأطول والأصعب على الأردنيين. خمس حكومات: 147 حقيبة وزارية وُزّعت لفترات قصيرة – كلها أقل من عام – على عددٍ كبير من الوزراء الذين لم تُوقف رواتبهم بحلّ حكوماتهم، ولم ينتفع الأردن منهم بما فيه الكفاية، فخدمةُ وزير لأقل من عام لا تعني شيئًا مُقابل ما يحصل عليه لوجوده في منصبه.

Embed from Getty Images
سمير الرفاعي، رئيس الوزراء الأردني سابقًا، وقد شكّل حكومتين في فترة رئاسته للوزراء من أصل خمس حكومات في فترة تساقط الحكومات.

ومن خلف هذا الجيش من الوزراء جيشٌ آخر من أمناء الوزارات ونوابهم ومساعديهم جميعًا، ومُجددًا، لا تنتهي القصة هنا، ففي الأردن مجلس النواب، ومجلس الأعيان، ويجتمعان معًا في مجلس الأمّة. مجلسُ الأعيان يُعيّن أعضاءه ملك الأردن بشكل مُباشر، ومجلس النواب بالانتخابات النيابيّة.

يحوي مجلس الأعيان كثيرًا من السياسيين والدبلوماسيين السابقين الذين انتهت حكوماتهم، ما يعني أن امتيازاتهم السياسية لمهامهم القديمة يُضاف إليها امتيازات جديدة هي امتيازات «العَيْن»، ومنها الراتب الشهري الذي يُقال إنه يصل إلى 4200 دولار تقريبًا، وفقًا لمقال نُشر في جريدة السبيل الأردنيّة.

ماذا أيضًا؟

في المُحصلة، يُنفق النظام على أبنائه ورجاله مبالغ طائلة لا تخضع لمُساءلة حقيقية من النواب – الذين انتفع كثيرٌ منهم بمقاعدهم النيابية – ولا من الشعب.

يُواجه الأردن اليوم دينًا عامًا لا يُستهان به، يصل إلى 37.4 مليار دولار، ومع ذلك تضرب الدولة كلما سنحت لها الفرصة جيوب المواطنين بدلًا من ملاحقة التهرب الضريبي الفاحش وبدلًا من إيقاف الامتيازات وتخفيض رواتب الحكوميين الكبار، نفقات تصلُ إلى 6 مليارات ونصف. يشعر الأردني بثقل الضرائب مُجتمعة عليه، ولكنه لا يلحظ تفاصيلها الصغيرة التي تُشكّلها، وعلى كل حال، يبدو أن النظام الأردني لا يشعرُ بوزنه فوق رأس المواطن.

المصادر

تحميل المزيد