في القرن السادس عشر جرى تعميد الموريسكيين قسرًا، واعتبرتهم السلطات مسيحيين، وقامت محاكم التفتيش بمراقبة مدى إيمانهم، وسجّلت خلال عملها هذا كمًا هائلًا من الوثائق – من وجهة نظر معينة – حول أنشطة الأفراد، ومدى تمسّكهم بمعتقداتهم، وحتى عن الأحفاد في المنفى، وهذه الوثائق إلى جانب ما كتبه الموريسكيون أنفسهم من وثائق ومخطوطات ترسم صورة عما كانت عليه أوضاعهم.

نقض معاهدة تسليم غرناطة

حين سقطت غرناطة عام 1492 كانت معاهدة التسليم تقضي بأن يمارس المسلمون عقيدتهم بحرية، لكن واقع عدم وجود أية ممالك إسلامية أخرى تحمي أوضاعهم دفع بالملكين الكاثوليكيين ( فرناندو الثاني وإيزابيلا الأولى) إلى نقض المعاهدة بعد سنوات قليلة، وفُرض على أهل غرناطة واقع جديد مُنعوا فيه من ممارسة حرية العقيدة بقرارات متتالية، مع ذلك فقد استطاع مسلمو غرناطة الحفاظ على شعائر الإسلام بعد سقوط دولتهم بحوالي 120 عامًا تظاهروا خلالها بممارسة الشعائر المسيحية، وأخفوا شعائر الإسلام.

Embed from Getty Images
مسجد قرطبة الذي تم تحويله إلى كاتدرائية

حتى عام 1495 كان الأذان لا يزال يرتفع في بعض المدن الجنوبية التي كان كل سكانها مسلمين، مثل مدينة سورباس، ولأسباب مختلفة تأجّلت القرارات التي تهدف إلى القضاء على العادات الموريسكية، مثل عدم التخضيب بالحناء، والذهاب إلى الوعظ في الكنيسة، وألا يتخذوا ألقابًا إسلامية.

كان كارلوس الأول في حاجة إلى ذهب الموريسكيين في حروبه، لكن بعد ذلك في عهد فيليبي الثاني تعاقبت مثل تلك القرارات، ولم يعد هناك مفر من إخفاء الشعائر الإسلامية والتظاهر بحب المسيحية، وتحوّل المسلمون إلى جماعة كبيرة سرية، يخفي فيها الفقيه طبيعته، وهذا ما لم تتحمله أسر كثيرة، ففضّلت الهجرة، أما الذين آثروا البقاء، فقد غلّفت السرية حياتهم، وأخفوا إقامتهم للشعائر الإسلامية، وحتى للعادات التي رأت السلطات محوها لإدماجهم في المجتمع المسيحي.

أسماء جديدة

كان التعميد الذي تم قسرًا يعني تحوّل الشخص إلى مسيحي، وكان الموريسكيون الذين أصبحوا «المسيحيون الجدد» يخضعون لمراقبة محاكم التفتيش، ولم يكن هناك مجال للحديث عن حرية الاختيار، فقد أعلنت الكنيسة مشروعية التعميد باعتبار عدم مقاومة الموريسكيين للتنصير حتى الموت يعني القبول به، وأن إجبارهم كان قويًا نعم، لكنه لم يكن كاملًا.

وهكذا بينما كان الموريسيكون يعتبرون أنفسهم مسلمين، كان المجتمع يعتبرهم مسيحيين غير متديّنين، وصارت لهم أسماء جديدة، وكانوا – من مبدأ التقية – يتظاهرون بممارسة الشعائر المسيحية في العلن. كانت السجلات التوثيقية تعكس التطور الذي يجري في المجتمع، ففي عام 1500 كانت تذكر الاسم المسلم، وبحلول عام 1510 تذكر: «أنا: (الاسم واللقب المسيحي) الذي كنت أدعى (الاسم واللقب الإسلامي)» إلى أن يختفي تمامًا، ويُستخدم فقط الاسم أو اللقب المسيحي.

الشعائر السرية.. النظافة الشخصية تعرضك للمحاكمة

كان الموريسكيون يحافظون على أداء الشعائر الإسلامية ما أمكنهم ذلك، ويتناقلون سرًا سور القرآن لتلاوتها في الصلاة، وكانوا يراقبون الطريق حتى لا يراهم أحد يقيمون الصلاة في منازلهم، بينما لم يكونوا قادرين على إقامة صلاة الجمعة، وكان الإفراط في النظافة يوم الجمعة دليلًا على الإسلام، وكان يعرّض صاحبه للمحاكمة، وكان العمل يوم الأحد دليلًا على عدم الوفاء بالشعائر المسيحية.

وظلت أصعب الفرائض التي يمكنهم تأديتها هي فريضة الحج، مع ذلك فقد سجلًت كتاباتهم كيفية أداء شعائر الحج، وسجّل مخطوط نادر عُثر عليه في أراجون رحلة حج أحدهم، وكان ذلك مسموحًا للمدجّنين، وهم المسلمون الذين عاشوا في الممالك المسيحية، مثل قشتالة وأراغون ونابارا.

Embed from Getty Images
أحد الحمامات العربية في مايوركا وقد مُنعت الحمامات أيضًا لأنها كانت تتعلق بالثقافة الإسلامية

وفيما يتعلق بالأكل كان الموريسيكون لا يشربون الخمر، ولا يأكلون لحم الخنزير، وكانت لهم محال الجزارة الخاصة بهم، وتعرّضوا لضغوط كبيرة لكي يتناولوا لحم لخنزير ويشربوا الخمر، وحرموا تدريجيًا من كل ما قد يُفسر على أنه عادات إسلامية، من عادات خاصة بالمأكولات والمشروبات، والأزياء، والاحتفال بالأعياد.

الاحتفالات والزواج.. ختان الذكور ذنب لا يغتفر

كان الزواج المبكر محظورًا، وكانت الاحتفال بمناسبات، مثل الولادة والزواج، يتم أولًا في الكنيسة – علنًا – ثم يتم سرًا في البيوت، وفي مراحل تالية صار إغلاقها ممنوعًا أثناء الاحتفالات، ومُنعت النساء الموريسكيات من ممارسة القبالة، فكان لابد أن تكون القابلة مسيحية، وأن يتم تعميد الطفل وإطلاق اسم مسيحي رسمي عليه، ويراقِب الطفل مسيحيون قدامى ممن تثق بهم السلطة.

كانت بعض المشكلات تظهر إزاء ذلك، كأن تصر القابلات المسيحيات على رفع أجورهن – انتهازًا للفرصة – وهو ما ألجأ الموريسيكيين إلى رفع شكواهم إلى الملك مرات عديدة؛ كان نتيجتها أن سُمح للموريسكيات بالعمل بشرط حضور مسيحيين قدامى لمراسم التعميد.

بعد ذلك كان يجري – سرًا – الاحتفال على الطريقة الإسلامية، ويُختار للطفل اسم من الأسماء التي كانت محببة إلى الموريسكيين؛ موسى وهاشم وإبراهيم ويوسف للأولاد، وفاطمة وعائشة وسليمى ومريم وسارة للبنات، وبمجرد أن يبدأ الكلام كان الطفل يتعلم أن يتوخى الحذر أمام المسيحيين، وكان ختان الذكور دليلًا على الهوية الإسلامية، وكان الرجال يتعللون بأنهم خُتنوا وهم أطفال، وكان ختان الأطفال ذنبًا كبيرًا أمام محكمة التفتيش للمتهمين بالإسلام أو اليهودية.

منع اللغة العربية.. تعلم الإسلام بالإسبانية

في عام 1501 تم إصدار مرسوم ملكي بحرق كل المؤلفات الدينية التي كانت بحوزة الموريسكيين،  وتلاه قرار في عام 1511 يأمر بجمع كل الكتب وتسليمها للسلطات باستثناء الكتب المتعلقة بالطب والفلسفة، لكن هذه أيضًا كان يجب تسليمها للسلطات؛ لفحصها، إذ كان الموريسكيون يخفون فيها النصوص الممنوعة، وبالرغم من القرارات المتتالية، كان المويسيكون يجدون طريقًَا لمخالفة القرار، وبين الحين والحين كانت السلطات تضبط – في أقبية الدور، أو في تجويف داخل أحد الجدران – نسخًا من القرآن أو كتبًا تتعلق بالسنة أو تتضمن أدعية.

كان تعلّم العربية يجري سرًا، وهذا أدى إلى عدم إتقان الكثيرين لها، كان تعلم الدين يتم باللغة الإسبانية، وهو ما كان الموريسيكون يتحسرون عليه، وكانت المعرفة بالعربية تكفي لجعل الشخص موثوقًا به بين الموريسيكيين.

أدب الألخميادو.. الحصن السري

كان أول نص يُكتب بلغة الألخميادو في عام 1462 هو كتاب مختصر السنة لفقيه سيغوبيا عيسى بن جابر، الذي قام بترجمة القرآن الكريم مع خوان دي سيغوبيا، وخطّ ذلك الفقيه وتلاميذه بداية الأدب الألخميادو حين أدرك خطورة الاعتماد على تناقل النصوص شفويًا، خاصة وأن غالبية مسلمي قشتالة لا يتحدثون بالعربية؛ إذ كانوا يمثلون أقلية في البلاد، تأثرت لغتهم بالأغلبية، وأصبح بينهم الكثيرون ممن لا يجيدون العربية.

اقرأ أيضًا: آخر حصون الأندلسيين.. لغة «الألخميادو» السرية

وطبقًا لما ورد بالكتاب «كانوا يتعرضون لمصاعب كبيرة، ودفعوا ضرائب كثيرة، فقلّت ثرواتهم وفقدوا مدارس اللغة العربية، ولمعالجة هذه الأضرار الكبيرة طلب مني أصدقائي أن أترجم وأكتب بالإسبانية هذا النص عن شريعتنا المقدسة والسنة، وعن كل ما يجب أن يعلمه ويطبقه كل مسلم طيب».

إحدى مخطوطات الالخميادو

كان ذلك يتعلق بالمدجّنين الذين عاشوا في الممالك المسيحية – قشتالة وأراغون ونابارا – لحوالي أربعة قرون، تحكمهم قوانين معترف بها، ويتبعون نظامًا إسلاميًا يحمي هويتهم، وهؤلاء تغيّرت أوضاعهم جذريًا، وصاروا في موقف أضعف بسقوط مملكة غرناطة في نهاية القرن الخامس عشر، والتنصير الإجباري للمسلمين فيها في القرن السادس عشر.

سجّل أدب الألخميادو – الذي لم يكن أدبًا بالمعنى المعروف، وإنما كان كتابات دينية، احتفظ فيها الموريسيكون بتفسير آية قرآنية أو حديث نبوي أو أدعية – الشكل الذي كانت عليه ممارساتهم، والملحوظ في أدب الألخميادو أنه – وإن تضمن الشعائر الصحيحة للإسلام – تسللت معلومات غير حقيقية إليه أيضًا، مثل الحديث عن صلاة مفروضة بين الظهر والعصر يوم عاشوراء، وصلاة الخير في ليلة الخامس عشر من شعبان، ولم يكن لدى الموريسكيين القدرة على التمييز بين الصحيح والمنسوب لمصادر الإسلام حقًا وبين البدع.

التأثر بالدين المسيحي.. قصص أنبياء لم يذكروا في القرآن

كان من المحظور تمامًا أن يتصل الموريسكيون بالجانب الآخر من البحر المتوسط، لذلك كان يجري دائمًا إبعادهم عن المدن الساحلية، وكان الفقهاء يمارسون عملهم سرًا، وكانوا أقل معرفة بتعاليم الدين مقارنة بنظرائهم، لكنهم كانوا على علم بالأساسيات، مع ذلك، ونتيجة للعزلة عن المجتمع الإسلامي من ناحية، والتأثر بالمجتمع المسيحي من ناحية أخرى، فقد لوحظ اقتراب مكانة الفقيه لدى الموريسكيين من مكانة القسيس لدى المسيحيين، فكان الفقيه هو المصدر الرئيس لمعرفة أحكام الشرع، وكان بعضهم يظهر ممسكًا بالعصا في رداء مطرز بالحرير والذهب، مثل القساوسة.

كما تأثرت اعتقادات الموريسكيين أيضًا بالمسيحية واليهودية أحيانًا، فمثلًا ورد في نصوصهم ذكر أنبياء لم يرد ذكرهم في القرآن، وإنما في العهد القديم، وتناول أحد النصوص قصة سيدنا داوود كما وردت في التوراة.

صدور قرار الطرد

كانت القرارات المتعلقة بالمهاجرين إلى مدن وقرى شمال إسبانيا تقضي بألا يعيشوا في أحياء منفصلة، وبأن تُسجل أسماؤهم وأوصافهم والمواليد والوفيات، وفُرضت عقوبات صارمة على من يحاولون العودة إلى أوطانهم، وشمل القرار استخدام اللغة العربية وممارسة العادات الإسلامية. واهتم القرار بتعليم الأطفال.

لكن الكثيرين بقوا في غرناطة بحجج مختلفة، منها: انتظار بيع ممتلكاتهم، والفصل في نزاعات قضائية بشأنها، ومنها كونهم من أصول مسيحية،  وفي عام 1582 عاد الكثيرون أيضًا إلى غرناطة بعد تهجيرهم.

علاقاتهم بالمسيحيين.. ليست سيئة كما يبدو

كان المسيحيون مقتنعون بأن التنصير دون تعليم الموريسكيين لتعاليم المسيحية سببًا في عدم تدينهم، ونُظمت في القرن السادس عشر حملات تبشيرية، وظهرت لاحقًا كتب تتعلق بالجدال اللاهوتي بين المسلمين والمسيحيين، كما أرسل الملكان الكاثوليكيان الكثير من القساوسة إلى غرناطة.

في النهاية تمسّك أغلب الموريسيكيون بإسلامهم، وبإقامة شعائرهم حوالي 120 عامًا، وظهرت آثار متعددة لوجود الموريسكيين في غرناطة، حتى بعد قرار الطرد، ومكّنتهم العلاقات الشخصية الطيبة التي جمعت بين المسلمين والمسيحيين في أغلب الأحيان من تحمل ما تحمّلوه في إسبانيا.

وكان هناك أسباب أخرى، بينها: أن اقتناء المسلمين للعمل يعني للنبلاء الإسبان مزيدًا من الثروة؛ إذ كان الموريسكيون معروفين بتقشفهم وحبهم للعمل، وكان المقابل الذي يطلبونه بسيطًا: أن يمارسوا شعائرهم الدينية بحرية، كان الأمر إذًا يتم بدافع المصلحة أحيانًا، وبدافع الشفقة في أحيان أخرى.

المصادر

تحميل المزيد