يمضي الرئيس الفلسطيني محمود عباس نحو اتخاذ العديد من الإجراءات التي تضيق على قطاع ملحوظ من الفلسطينيين في قطاع غزة على وجه التحديد، تحت مسوغ الضغط على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) حتى تسلمها مسؤولية الحكم بالقطاع.
لكن هناك قرار يشغل الرأي العام هذه الأيام يخص فئة الأسرى سواء كانوا في قطاع غزة أو الضفة الغربية، قرار خاص بحرمانهم من الرواتب أو خصم جزء من رواتبهم محررين أو معتقلين، فيما لا يستبعد أن يفضي الأمر نحو قطع رواتب كافة الأسرى الفلسطينيين، بعد وصول الضغوط الإسرائيلية الأمريكية، لحد تشريع قوانين تمنع الأموال عن السلطة الفلسطينية لكونها تدفع رواتب الأسرى، فهل يدفع القانون الأمريكي «تايلور فورس» والقانون الإسرائيلي القاضي باقتطاع مبالغ من أموال ضرائب السلطة نحو وقف كلي لهذه الرواتب في المستقبل القريب؟
كيف يتعامل الأسرى الفلسطينيون مع الأخبار الجديدة؟
على رصيف «دوار الساعة» وسط مدينة رام الله بالضفة الغربية، فقد أحد الأسرى المضربين عن الطعام وعيه، وقبل أن يحاول زملاؤه مساعدته طبيًا، كان أطفاله قد التفوا حوله يمسك أحدهم برقبته، بينما الآخر يقبض على يده، والخوف الشديد يغزو كافة ملامحهم البريئة.

صورة الأسير المحرر علاء الريماوي مع ابنته (المصدر : شبكات التواصل الاجتماعي)
هذا المشهد القاسي، كان بمثابة إجابة واضحة لتساؤل كثيرًا ما شغل بال الأسير المحرر المضرب عن الطعام علاء الريماوي، وهو: كيف يكون قلق الأهل على الأسير المضرب داخل السجون؟ يقول الريماوي أحد المعتصمين في دوار الساعة لـ«ساسة بوست»: «لقد رأيت بأم عيني كيف يكون الخوف قاسيًا على أهلنا ونحن مضربون عن الطعام داخل سجون الاحتلال، كان الأمر مريبًا للغاية».
الريماوي وزملاؤه من الأسرى المحررين والمتضامنين معهم، اتخذوا خلال الأيام القليلة الماضية قرارًا بالاحتجاج اعتصامًا وإضرابًا مفتوحًا عن الطعام على أزمة قطع رواتبهم التي تعود إلى عام 2007 بذريعة مخالفتهم السياسية لنهج السلطة الفلسطينية، وهو القرار المتزامن مع قرار حظر حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الضفة الغربية، والذي نال من أسرى يحسبون تنظيميًا على الحركة، فقد أوقفت السلطة راتب 35 أسيرًا (بينهم أسيرة واحدة) أمضوا سنوات طويلة في سجون الاحتلال أقلها 10 سنوات، وأكثرها 20 عامًا، وذلك بالرغم من أنه يحق للأسير المحرر الذي أمضى في السجون الإسرائيلية فترة اعتقال تجاوزت خمسة أعوام، أن يصرف له راتب وأن يحصل على وظيفة.
انتفاضة الأسرى.. لماذا قررت السلطات الإسرائيلية قمع أسرى حركة حماس؟
وقد جاء قرار الاحتجاج كما يقول الريماوي الذي أفرج عنه قبل عشرة أيام من سجون الاحتلال نتيجة لقائه في اعتقاله الأخير بمجموع من الأسرى المقطوعة رواتبهم، حيث اتفقوا على خوض احتجاجات داخل السجون وخارجها، ويضيف الريماوي: «يعود الراتب ثم ينقطع ثم عندما نعتقل يتم صرف جزء من الراتب، لكن منذ 2013 قطع الراتب نهائيًا».

من إضراب الأسرى في دوار الساعة (المصدر : شبكات التواصل الاجتماعي)
لم تنفك الدوافع السابقة عن استشعار الأسرى لقرار قريب قد يشملهم جميعًا ويقضي بقطع رواتبهم استجابة للضغوطات الأمريكية الإسرائيلية، ولذلك قال الريماوي: «علينا جميعًا أن نجتمع لمنع السلطة من الاستجابة للابتزاز الأمريكي، وقطع رواتب من تبقى من الأسرى الفلسطينيين استجابة لهذه الضغوطات الأمريكية والإسرائيلية»، وتابع القول: «نرفض أن يحاكم النضال الفلسطيني تحت منظومة الضغط الأمريكية، وعلى السلطة أن تمارس وقفة حقيقة مع الأسرى، وأن يكون هناك حالة انتقامية من بعض كبار الموظفين الذين يحاولون أن يرسموا سياسية خاصة بأموال الشعب الفلسطيني، وكأنهم أموال خاصة تمنح لمن يشاؤون وتقطع عمن يشاؤون».
السلطة تنفي أي استجابة للضغوط لكنها تقطع رواتب الأسرى
ينتهج الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورجال سلطته التأكيد على أن السلطة لن تقدم على قطع رواتب الأسرى أو على الأقل أن من قطعت رواتبهم هم من حماس، وأن ذلك نتيجة النزاع الداخلي الفلسطيني وليس استجابة للضغوط الأمريكية والإسرائيلية.
وفي الواقع هناك العديد من الإجراءات تفند حقيقة ما يصرح به المسؤولون الرسميون الفلسطينيون، فبدءًا بما حدث في يونيو (حزيران) 2017، اتخذت السلطة قرارًا غير معلن بوقف رواتب ما يزيد عن 277 من أسرى صفقة وفاء الأحرار في الضفة الغربية وقطاع غزة 2011، ومنهم الأسير إبراهيم شلش الذي تم الإفراج عنه في الصفقة، ثم أعيد اعتقاله في عام 2014، تقول زوجته ليلى وهي أم لأربعة أطفال: «صدمت عندما سمعت أن الراتب قد توقف، لدي الكثير من المسؤوليات، هناك المنزل الذي لم ينته بعد بنائه، وأطفالي يدرسون ويحتاجون إلى المال لمواصلة تعلمهم، ثم هناك حياة يومية متطلباتها كثيرة».
وقد كان ما حدث في الأشهر الثلاثة القليلة الماضية أكثر وضوحًا لاستجابة السلطة للضغوطات الإسرائيلية والأمريكية، حيث تفاجأ ما يزيد عن 360 أسيرًا وأسرة قتيل على أيدي الاحتلال في غزة فقط بقيام السلطة بإرسال كشوفات للبنوك لتجميد حساباتهم والتوقف عن دفع مخصصاتهم المالية، ناهيك عن أن هناك الأسرى داخل السجون خصمت رواتبهم بنسبة 50%، وجاء قرار محمود عباس بإقالة وزير هيئة شؤون الأسرى والمحررين، عيسى قراقع، وتعيين قدري أبو بكر خلفًا له في رئاسة الهيئة في أغسطس (آب) الماضي دليلًا على مضي عباس نحو إجراءات أكثر قتامة تجاه الأسرى، فقراقع الداعم لقضايا الأسرى، يرفض بشدة العقوبات، التي فرضها عباس على غزة، وشملت قطع رواتب بعض من أسراها، وقد طالب بوضوح بإعادة رواتب أسرى غزة المقطوعة.
وتقدر قيمة رواتب الأسرى والشهداء شهريًا بنحو 300 مليون دولار (1.15 مليار شيكل) وهي تشكل 7% من موازنة السلطة، ما قيمته 20% من الدعم المالي الخارجي السنوي، ويتقاضى نحو 6500 أسير داخل السجون وآلاف الاسرى المحررين رواتب شهرية، وتقسم رواتب الأسرى داخل السجون الإسرائيلية إلى نصف يحول للأسير لإعالة نفسه والنصف الآخر تصرفه على من كان يعيلهم خارج أسوار السجن من زوجة وأبناء وغيرهم.
إسرائيل تسرق أموال السلطة
«لقد وعدنا بوقف رواتب الإرهابيين، وقد أوفينا بوعدنا، إن كل شيكل يدفعه أبو مازن إلى الإرهابيين والقتلة سيتم خصمه تلقائيًا من ميزانية السلطة الفلسطينية»، كتب هذه العبارة ما يسمى بـ«وزير الدفاع الإسرائيلي» أفيغدور ليبرمان محتفيًا بموافقة الكنيست الإسرائيلي بأغلبية على قانون يبيح للاحتلال حجب جزء من الضرائب الشهرية للسلطة الفلسطينية حتى توقف رواتب الأسرى.
فعليًا، وبعد جولة كبيرة من التحريض بأن رواتب الأسرى تشجع على العنف وتكافئ الإرهاب، بدأت إسرائيل في يوليو (تموز) الماضي، باحتجاز أموال الضرائب الخاصة بالسلطة الفلسطينية التي تجمعها إسرائيل نيابة عن السلطة منذ اتفاق أوسلو، وذلك لعقاب السلطة على الاستمرار بدفع رواتب الأسرى الفلسطينيين وعائلاتهم، القانون السابق يتيح لمجلس وزراء الاحتلال التحكم بقرار الإفراج عن الأموال المجمدة من عدمه، ففي حالة توقف السلطة الفلسطينية عن دفع الرواتب للأسرى قد يتم التراجع عن تجميد هذه الأموال، ويقضي القانون الإسرائيلي باقتطاع ما يعادل المبلغ (300 مليون دولار سنويًّا) المدفوع للأسرى وعائلات الشهداء الذين تصنفهم دولة الاحتلال «مدانين بالقيام بعمليات ضدّ أهداف إسرائيلية ذات خلفية قومية»، بل يذهب القانون الإسرائيلي في عملية قرصنة وسرقة لأموال السلطة لوضع هذه الأموال في صندوق خاص لتعويض عائلات الإسرائيليين الذين قتلوا على يد فلسطينيين.
«واشنطن بوست»: بعد 25 عامًا على إبرامها.. ماذا قدمت اتفاقية أوسلو للفلسطينيين؟
ولمواجهة ذلك، يقول وزير هيئة الأسرى والمحررين المقال عيسى قراقع أنهم يعملون على: «تشكيل ضغط دوليّ على إسرائيل يجبرها على إسقاط قانون إسرائيل باقتطاع جزء من أموال الضريبة الفلسطينيّة، من خلال تعزيز حقيقة أنّ إسرائيل سنّت هذا القانون كإجراء انتقاميّ وعقاب سياسيّ وماليّ ضدّ السلطة، بسبب موقفها الرافض لأيّ رعاية أمريكيّة لأيّ مفاوضات سلام مستقبليّة مع إسرائيل بعد اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل في السادس من ديسمبر (كانون الأول) 2017».
واشنطن تلبي الرغبات الإسرائيلية بـ«قانون تايلور فورس»
«ارفع يديك عاليًا إذ كنت تتفق معي على أن الرئيس عباس يجب أن يتوقف عن دفع الإرهابيين ليقتلوا اليهود، أنت تعرف كم يدفع؟ يدفع حوالي 350 مليون دولار سنويًا للإرهابيين وعائلاتهم، هذا أقل بقليل من 10% من الميزانية الفلسطينية الإجمالية، وهو رقم مذهل»، هكذا قال رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطاب ألقاه في مارس (آذار) الماضي أمام لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية.
لم يكف الإسرائيليون عن تحريض الأمريكيين على وقف مساعداتهم للسلطة الفلسطينية حتى يوقفوا رواتب الأسرى، فإضافة إلى ما قاله نتنياهو كتب سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة فيداني دانون في خطاب إلى مجلس الأمن يقول: «بكل بساطة هذه أموال دم فلسطينية رسمية تكافئ إرهابيين يقتلون اليهود».
ويعود التحريض الإسرائيلي بشكل عام ضد رواتب الأسرى إلى عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، ولكن الإسرائيليين تشجعوا بشكل كبير حين أصبح دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، فسرعان ما دعا ترامب علنًا إلى وقف رواتب الأسرى والمحررين الفلسطينيين على اعتبار أن ذلك «يشجع الفلسطينيين على ارتكاب اعتداءات عنيفة»، بل كان ترامب أكثر جرأة حين استجاب للضغوطات الإسرائيلية وقد دفعت الكونغرس إلى تمرير مشروع قانون قضى بخفض مساعدات الولايات المتحدة للسلطة الفلسطينية ما لم تتوقف عن دفع رواتب الأسرى، وعرف هذا القانون باسم «قانون تايلور فورس»، و«تايلور فورس» الذي سمي القانون باسمه هو ضابط سابق في الجيش الأمريكي يبلغ من العمر 29 عامًا طعن على يد فلسطيني في تل أبيب في عام 2016، وقد قدم هذا القانون السيناتور المؤيد لإسرائيل ليندسي غراهام في عام 2016، وحصل القانون على دعم قوي من مجلس النواب ومجلس الشيوخ.
وينظر المراقبون إلى خطورة هذا القانون أنه قائم بذاته، ينطبق على جميع الأموال الأمريكية للسلطة الفلسطينية،ويستثني فقط الأموال التي تم دفعها لشبكة مستشفى القدس الشرقية، ومشاريع مياه الصرف الصحي، وهي بتكلفة 5 ملايين دولار لكل سنة مالية، وكذلك البرامج التي تقدم التطعيمات للأطفال، وهي لا تتجاوز نصف مليون دولار في أي سنة مالية واحدة، كما لن تتأثر الأموال التي تدعم التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال.
ويبدو أن الأمريكيين يلمسون استجابة رسمية فلسطينية للضغوط، ولذلك قال وزير الخارجية الأمريكي ريكس ترلسون في شهادته أمام لجنة الخارجية في الكونغرس حول موازنة وزارة الخارجية الأمريكية: «الفلسطينيون غيروا سياستهم في هذا الموضوع، ولديهم نية الوقف الكامل لرواتب الأسرى، نحن أوضحنا للسلطة أننا لن نقبل دفع مثل هذه الأموال».