ما تزال أصداء حادث مقتل الكاتب الصحافي السعودي جمال خاشقجي حاضرة بقوة على المستوى الدولى، وسط غموض يكتنف مستقبل هذه القضية بالنسبة للسعودية وولي العهد صاحب النفوذ الأكبر في المملكة، والتي تشير التكهنات إلى كونه متهمًا رئيسيًا في هذه القضية.

الانطباعات الأولية تُشير إلى أن أمراً جلل ينتظر المملكة بعد خروج تأكيد تركي رسمي حول تورط الرياض فى مقتل خاشقجي، وأن الخسائر لن تقف عند المستوى الاقتصادي بل ستمتد لجوانب أخرى قد تُشكل عقبة حقيقية أمام الأمير الشاب.

التقرير التالي يحاول عد هذه الخسائر التي قد تصيب المملكة في حال التأكد من تورطها في اختفاء خاشقجي.

هباءً منثورًا..  الرأي العام الغربي ينقلب على المملكة

على مدار الثلاثة أعوام الماضية، أنفقت السعودية ملايين الدولارات للتعاقد مع شركات علاقات عامة لتحسين صورتها داخل الدوائر الغربية وتسويق ولي العهد السعودي لصناع القرار والمجموعات البحثية في واشنطن باعتباره حاكمًا مستقبليًا للسعودية، فهو العصري والمنفتح على خلاف أعمامه من الجيل القديم المنغلق المتشدد، كما حاول أن يُقدم نفسه.

Embed from Getty Images

امتدت هذه الجهود انطلاقًا من أهمية تأثير الرأي العام في واشنطن إلى تشكيل لوبي سعودي أمريكي (سابراك)، برئاسة سلمان الأنصاري، أحد رجالات ولي العهد السعودي؛ وامتدت أنشطة هذا اللوبي إلى إبراز الانفتاح الاقتصادي، وخطة المملكة المعروفة برؤية 2030، وكذلك الدفاع عن وجهة نظر وسياسات ولي العهد السعودي فضلاً عن تسويق شقيقه الذي عُين سفيرًا لبلاده في أمريكا.

وتُشكل قضية كسب الرأي العام الغربي وبالأخص في أمريكا، عاملاً مؤثرًا بالنسبة لولي العهد السعودي؛ إذ تعاقدت المملكة أواخر العام الماضى مع شركة «بيرسون مارستيلار» الأمريكية لتسويقه داخل الدوائر الغربية، فضلاً عن تقديم صورة مغايرة للحرب في اليمن على خلاف الصورة السائدة عن المملكة بوصفها متورطة في جرائم ضد الإنسانية في هذه الحرب.

وفي سبيل احتواء الرأي العام؛ استضاف ولي العهد السعودي كبار الكُتاب الأمريكيين داخل مكتبه فى الرياض، محاولاً في هذه المقابلات التعريفية تقديم نفسه لدوائر الإعلام في واشنطن والتي استهلها بمقابلة مع الكاتب الأمريكي توماس فريدمان أحد أهم كتاب «نيويورك تايمز»، والذي كتب عن تفاصيل لقائه مع ولي العهد السعودي في مكتبه خلال زيارته للسعودية، وتحدث عن الجهود التي يبذلها من أجل رقي المملكة، موكدًا سعي ابن سلمان إلى محاربة الفساد الحكومي الذي يُعد أحد أبرز التحديات، وسط اتهامات طالت فريدمان بحصوله على أموال مقابل نشر مقالات تمتدح ولي العهد.

سياسة

منذ 4 سنوات
مصادر خاصة: عذّبوه وقتلوه.. والشرطة التركية تعتقد أنّ خاشقجي قُتل داخل القنصلية السعودية

لقاء ولي العهد السعودي مع الكاتب الأمريكي الشهير ديفيد أجناشيوس شكل أيضًا ملمحًا مهمًا على سعي الأمير الشاب نحو استقطاب كُبار الكتاب الأمريكيين؛ إذ كتب الصحافي الأمريكي بعد هذا اللقاء مقالاً عنوانه «ملك السعودية القادم» نقل فيه عن مسؤول أمريكي قوله إن محمد بن سلمان «لديه رؤية مؤثرة بشكل كبير».

انقلاب الرأي العام الغربي على الأمير الشاب، بدأت إرهاصاته في التجلي، بدءًا من التغطية الخبرية لصحيفة «واشنطن بوست» التي تركت عمودًا فارغًا في نسختيها الورقية والإلكترونية دعمًا للصحافي السعودي الذي اعتاد أن يكتب مقالات رأي فيها، وكذلك إعادة نشر مقالاته، علاوة على افتتاحيتها التي اتهمت فيها السلطات السعودية بارتكاب فعل فظيع لا يمكن تصوره، كل ذلك بالرغم من أن مالكها هو جيف بيزوس، الرئيس التنفيذي لشركة «أمازون»، وهو  نفسه من سيستعين به محمد بن سلمان لإنشاء مركز معلومات لتجهيز منطقة شحن كبرى على سواحل البحر الأحمر.

الكاتب الصحافي توماس فريدمان، طالب هو الآخر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتدخل للإفراج عن خاشقجي، وتوجيه رسالة إلى ولي العهد السعودي ووزير الخارجية عادل الجبير، بأنه يتوجب عليهما إيجاد خاشقجي وإطلاق سراحه، موضحًا أن كارثة دبلوماسية سعودية تنتظر المملكة بسبب هذه القضية.

سياسة

منذ 4 سنوات
كاتب كبير تراجع عن دعم بن سلمان.. كيف استقبل المجتمع الدولي أخبار خاشقجي؟

ومن وجهة نظر الأستاذة في جامعة ووترلو الكندية بسمة مومني، والتي أدلت بها إلى موقع «فرانس 24»: «فإنه حال التأكد من موت خاشقجي فإن صورة ولي العهد الإصلاحي ستصبح أكثر صعوبة للاستيعاب وخصوصًا في واشنطن والعواصم الغربية الأخرى». وهو الرأي الذى يتقاطع مع ما يعتقده الباحث في جامعة «رايس» كريستيان أولريشسن؛ الذي يرى أن هذه الحادثة قد تُعزز النظرة في واشنطن بأن «السعودية بقيادة محمد بن سلمان عرضة للمُمارسات المتهورة في ظل ما يبدو أنه تفكير محدود جدًا بالعواقب، سواء أكان حصار قطر أو احتجاز سعد الحريري أو الخلاف مع كندا ناهيك عن حرب اليمن».

وعلى مدار العقود الماضية لم تكن المملكة عنوانًا رئيسيًا للصحف الغربية بهذه الكثافة كما هو حاضر في الوقت الحالي؛ وهو ما قد يُشكل أزمة كُبرى للنخبة الحاكمة الجديدة تجاه انتقادات وسائل الإعلام الغربية، إذ يبدو أن المملكة باتت متهمًا رئيسيًا في كُل حوادث الشرق الأوسط.

ما بعد خاشقجي.. العلاقات الدولية للمملكة لن تكون على ما يرام

بقراءة المعطيات الراهنة، نجد أن المملكة تنتظرها أيام صعبة تتعلق بمستقبلها مع حلفائها الدوليين الفترة القادمة؛ إذا خرج تأكيد رسمي تركي بتورط السعودية في حادث اختفاء ومقتل خاشقجي؛ خصوصًا أن هذه الجريمة تُمثل انتهاكًا واضحًا لنصوص اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية والتي تُحدد الإجراءات والضوابط الخاصة بالعمل الدبلوماسي بين الدول وتبين الحقوق والواجبات الخاصة بأفراد البعثات الدبلوماسية.

Embed from Getty Images

أما التحول الأكبر فينتظر علاقة المملكة مع أمريكا التي أصبح رئيسها يتعامل معها بمنطق المال دونًا عن غيره ودون مراعاة لموقع المملكة في الشرق الأوسط، والذي كانت تنظر له دومًا واشنطن باعتبار وأهمية كبيرة.

يُعزز من هذه الضغوط أيضًا تحركات أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي الذين يتمتعون بصلات وثيقة مع ترامب ضد المملكة على خلفية حادثة خاشقجي، ويبرز من بينهم السيناتور ليندسي جراهام، المُعروف بقربه من ترامب، والذي نشر تغريدة ذكر فيها أن العواقب ستكون مدمرة على العلاقات بين واشنطن والرياض إذا ما تأكدت المعلومات التي تفيد باغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي.

ومؤكدًا أن رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، بوب كروكر، يشاطره الرأي أيضًا. ترامب أيضًا دخل على خط الأزمة عبر إطلاقه تصريحات عبر فيها عن قلقه من الحادثة، قائلاً :«أنا قلق بسبب ذلك. لا أحب سماع تلك الروايات. أتمنى أن يتم حل الأمور. لا أحد يعلم حتى الآن أي شيء».

وبحسب مقال نشره الصحافي المختص بالشؤون العربية باتريك كوبيرن في جريدة «آي»، فإن: «حرص نظام آل سعود على مدار السنوات الماضية على إبقائها بعيدًا عن الأضواء كان عاملًا أساسيًا على استمراره؛ أما الآن فقد ظهرت للعلن وبوضوح كما حدث الأسبوع الماضي عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بكل وحشية ودون مراعاة لأي شيء أن نظام آل سعود يعتمد الدعم الأمريكي وأنهم يجب أن يدفعوا مقابل ذلك».

سياسة

منذ 4 سنوات
ليسا على قلب رجل واحد.. 3 قضايا اختلف فيها الملك سلمان مع ولي العهد

ويُشكل الخيار الثاني حال ما تفادت المملكة اضطرابات على مستوى علاقاتها الدولية هو استخدام هذه الدول لهذه الحادثة لجلب مزيد من الأموال من المملكة وابتزازها مقابل السكوت، وهو الاحتمال الذي ربما ينعدم تأثيره فى ظل عدم قدرة المملكة على إسكات وسائل الإعلام الدولية ذات التأثير الواسع فى العواصم الغربية.

النظر لتقييم العلاقات بين المملكة والغرب فى هذه المرحلة فى ظل الخصومات القائمة بين السعودية مع دول غربية مؤثرة مثل ألمانيا وكندا وبلجيكا، يرفع من آثار تبعات هذا الحادث على العلاقة بين الرياض والحلفاء في الغرب، مع عدم قدرة المال على إعادة العلاقات معهم كما كانت.

يتضح ذلك من واقع مُتابعة ردود الفعل الغربية التي تفاعلت مع الحادث مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا وكندا التي أبدت قلقًا واسعًا من الحادث في كلمات تعطي انطباعًا على تقديرهم لمكانة خاشقجي مثل تصريح الناطقة باسم وزارة الخارجية الفرنسية، أنييس فون در مول، التي وصفت خاشقجي بأنّه: «شخصية سعودية معروفة ومحترمة»، مضيفةً: «نأمل أن تنجلي الأمور بأسرع وقت ممكن».

وتُشكل تركيا هي الأخرى بعدًا مهمًا ومؤثرًا للسعودية؛ خصوصًا إذا ما خرج تأكيد رسمي بعد التحقيقات التي تتولاها الأجهزة المعنية بشأن تورط الرياض في قتل خاشقجي إذ سيكون ذلك إساءة لسيادة تركيا وانتهاك لأمنها؛ مما سيجعل تداعياتها شديدة على العلاقة بين الجانبين. ويُعزز من هذه التداعيات التوتر القائم بين البلدين بعدما دعمت تركيا قطر في نزاعها مع السعودية والرياض، وكذلك التصريحات التي سُرّبت عن ولي العهد السعودي يهاجم فيها إسطنبول خلال وجوده في مصر.

سياسة

منذ 4 سنوات
ماذا يمكن لتركيا أن تفعله مع القنصلية السعودية الآن؟ القانون الدولي يجيبك

خاشقجى ليس أميرًا متمردًا

ينطلق التحليل القائم على ترجيح  وقوع خسائر كبرى للسعودية من وراء حادثة خاشقجي على عدة اعتبارات غفلت عنها الرياض وتخيلت أن وقوع الحادثة سيمر حال الحوادث السابقة التي وقعت مع أمراء منشقين من آل سعود خارج المملكة في أزمنة مختلفة.

Embed from Getty Images

وتتعاظم آثار هذه الحادثة عن سابقاتها بالنسبة للخارج لاعتبارات تتعلق بجمال خاشقجي نفسه؛ فالأخير ليس من العائلة الحاكمة، وتنطلق أهميته وتأثيره من واقع علاقاته الواسعة والمتشعبة مع دوائر البحث والصحافة في أمريكا، فخاشقجي ليس غريبًا عنهم؛ فهو الشاب الذي درس الصحافة في أمريكا، وأجاد الإنجليزية، ونسج علاقات مع كبار الكتاب ومسؤولين نافذين في الإدارة الأمريكية خلال عمله مستشارًا للأمير تركي الفيصل؛ وهي المرحلة التي شهدت علاقات وثيقة بين الجانبين.

يكتسب خاشقجي أهميته في هذه الدوائر التي واظب على المُشاركة في جلساتها النقاشية من واقع قدرته على نسج مواقف متماسكة، وهي المسألة التي جعلت اختفاءه قضية رئيسية للصحف الأمريكية التي تتعامل معها باعتبارها قضية رأي عام تتعلق بموقف صحفي من نظام حاكم أدى به إلى الموت، دون النظر للاعتبارات التي تقولها الصحف السعودية حول علاقته بقطر أو بالإخوان المسلمين.

تتأكد هذه الأهمية أيضًا من واقع التحرك الأمريكي الفاعل في القضية على خلاف القضايا السابقة؛ إذ كشف مسؤولان كبيران في الإدارة الأمريكية، كما أسمتهما شبكة «سي إن إن»  الأمريكية عن تحرك أمريكي بشكل غير مُعلن «للحصول على إجابات حول مكان خاشقجي (المقيم الدائم في الولايات المتحدة)، والتحدث إلى المستويات العليا من الحكومة السعودية». هذا التحرك المدفوع بتأثير الرأي العام والدوائر البحثية المؤثرة على صناع القرار فى واشنطن ينطلق من هذه الأهمية، ويؤشر على أن مستقبلًا ما غائمًا وعقبات تنتظر طريقى ولي العهد السعودي في طريقه نحو السُلطة.

المصادر

تحميل المزيد