عندما يغادر كتالوني لزيارة منطقة إسبانية أخرى فإنه يعيش ما يشبه عبورًا للحدود الوطنية، فهناك يصعب عليك العثور على رمز للسيادة الإسبانية حتى مركز مدينة كتالونيا لا يرفع فيه العلم الإسباني، لكنك ستجد علم حركة استقلال كتالونيا ونفس العلم يرفرف على كل مبنى بالمدينة باستثناء الكنيسة ومركز الشرطة.

حتى الآن ليس لدى الكتالونيين شيء ضد الإسبان لكنهم يريدونهم كجيران وليسوا أصحاب أرض، ولهذا دعت الحكومة الكتالونية لاستفتاء خاص بها – وإن كان غير ملزم- في 9 نوفمبر 2015، ويتعهد الانفصاليون بالمضي قدمًا حتى لو كان ذلك يعني تحديًا للحكومة الإسبانية والبرلمان والمحكمة الدستورية.

لدى كتالونيا لغة خاصة وتاريخ طويل كدولة مستقلة ذاتيًّا، وسيعد انفصالها كارثة لإسبانيا التي إذا أعلنت أن الاستفتاء غير قانوني ستواجه تمردًا مفتوحًا، خاصة بعد شعورهم بالاقتراب من هدفهم بعد فوز الانفصاليين في الانتخابات الإقليمية التي أعلنت للتو نتائجها وسط احتفالات بالخطوة الأولى.

نتيجة محفزة للانفصاليين في الانتخابات الإقليمية تدفع إسبانيا للقلق

أولى الكثير الاهتمام بالانتخابات واعتبروا الفوز شبه استقلال

أولى الكثير الاهتمام بالانتخابات واعتبروا الفوز شبه استقلال

وصفت صحف كتالونية الانتخابات الإقليمية بمثابة استفتاء على استقلال الإقليم، انتخابات صوت فيها خمسة ملايين ونصف مليون ناخب في مراكز الاقتراع الكتالونية في انتخابات برلمانية إقليمية بلغت فيها نسبة المشاركة خمسة وثلاثين بالمائة على الساعة الواحدة بزيادة 5.7 % أكثر من انتخابات 2012 ما يُعد نجاحًا هامًا للاستقلاليين ويجعل هناك إمكانية لحصول كتالونيا على الاستقلال.
هذه الانتخابات يُراد بها الضغط على حكومة ماريانو راخوي لتُنظِّم استفتاءً وطنيًّا حاسمًا حول مسألة استقلال كتالونيا كحل سياسي أولي قبل اللجوء إلى خيارات أخرى في حال تعذره، الهدف الذي أظهرته نتائج الانتخابات المحلية، فقد أظهرت النتائج الرسمية فوز حزب “معًا من أجل نعم” بـ 62 مقعدًا في البرلمان المؤلف من 135 مقعدًا، فيما حصل الحزب اليساري المتطرف المؤيد للانفصال على 10 مقاعد، أي أنهما حصلا على الأكثرية في هذه الانتخابات بنسبة 48%  التي تعد مدخلًا لمرحلة جديدة ستؤثر على مستقبل إسبانيا كلها، لكن النتيجة لم تمنحهما حق تشكيل الحكومة منفردين، الأمر الذي كان ليوفر عليهم عناء الاستفتاء ليعلنوا الاستقلال مباشرة.

يعتبر السياسيون نتيجة الانتخابات موتًا للنظام القديم، وأمرًا يدفع مدريد للقلق مع قرب الانتخابات العامة في ديسمبر، وصفعة قوية لرئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي القلوق، والذي تعارض حكومته محاولات إجراء استفتاء حول انفصال كتالونيا، قائلة إنه لا معنى له وإنها ستنقضه في المحكمة.

مشاعر الانفصال تسيطر على الكتالونيين نتيجة سنوات من الاضطهاد

زيادة عدد المشاركين بالانتخابات الإقليمية ربما تكون إشارة لاستشعارهم أهمية المرحلة

زيادة عدد المشاركين بالانتخابات الإقليمية ربما تكون إشارة لاستشعارهم أهمية المرحلة

تعتبر النزعة الانفصالية لإقليم كتالونيا الواقع شمال شرق إسبانيا أكبر المخاطر التي تواجهها المملكة، حيث يسكن كتالونيا أكثر من 7 مليون مواطن لهم لغتهم الخاصة وتاريخ وثقافة تجمعهم تحت حكم ذاتي لا يكفيهم، فهم ما زالوا يحلمون بالانفصال.

تمتع إقليم كتالونيا بالحكم الذاتي من عام 1932 وحتى 1939 بنهاية الحرب الأهلية الإسبانية، وجاء حكم الجنرال فرانسيسكو فرانكو على كتالونيا بكل سوء فأعدم الآلاف من الكتالونيين منهم رموز وقادة سياسيين كانوا يدافعون عن استقلال الإقليم، كما قام الجنرال بمنع تعليم اللغة الكتالانية في المدارس، ليستعيد الإقليم حكمه الذاتي بعد وفاة فرانكو عام 1975  ويعمل منذ هذا التاريخ على تعميق الفجوة بينه وبين حكومة إسبانيا المركزية بمدريد.

بدأ الإنذار بتصويت 88% من مواطني كتالونيا على إقرار نظام خاص بالإقليم سنة 1979، ثم خطوتان هامتان في 2003 و2006 عندما صادق البرلمان المحلي على نظام أساسي جديد يقر بسيادة الإقليم، وهو ما أشعل الخلاف بين الطرفين.

لم تسفر الحلول السياسية المرتجلة وقتئذ عن وضع متوازن لكنها أضافت للأزمة الاقتصادية الإسبانية، وعززت العاطفة الانفصالية لأكثر من إقليم بإسبانيا، وساهم ضعف الحكومة في إفساح المجال لزعماء الأحزاب الانفصالية لتسويق رسالتهم واستغلال تداعيات برامج التقشف وتضخم البطالة، بالإضافة إلى تزايد الاستياء من الأحزاب التقليدية لتحقيق أهدافهم السياسية، خاصة مع شعور كتالونيا بالتميز كالإقليم الأهم وعمود الاقتصاد الإسباني.

في عام 1981، تعرضت الحكومة الإسبانية لانقلاب عسكري جعلها تعيد تطبيق الدستور بشكل لم يعد يسمح لكتالونيا بالراحة بيد هذه الحكومة، وفي عام 2010 حكمت المحكمة الدستورية الإسبانية بأنه رغمًا عن إمكانية إطلاق مصطلح “أمة” على كتالونيا إلا أنه لم يعد قانونيًّا، لم يكن هذان هما السببين فقط أو أن الأمر ليس سياسيًّا بحتًا، فقبل ذلك ومع الأزمة الاقتصادية عام 2008 تفاقم التوتر بين كتالونيا ومدريد واضطرت الحكومة الكتالونية لدفع 5 مليار يورو عن إسبانيا المثقلة بالديون وقفزت بعدها البطالة في كتالونيا من 8،6% إلى 16،3 مع هجرة الكثير من جنوب إسبانيا إليها.

أصيب الشعب الكتالوني بخيبة أمل مع إدارة مدريد للأزمة، واتهموها بأنها المسؤولة عن أزمتهم على خلفية رفض رئيس الوزراء الإسباني، ماريانو راخوي، طلب رئيس الحكومة المحلية بكتالونيا، أرثور ماس، توقيع اتفاق ضريبي جديد يضمن للإقليم حق التصرف بعائدات الضرائب لمواجهة أزمة ديونه، كما هو الشأن عليه في إقليم الباسك، وحذر رئيس الوزراء الإسباني أي إقليم يختار الاستقلال بطرده من الاتحاد الأوروبي.

الانفصاليون أمام لاعبين آخرين يهددون الفوز بالحلم

انفصاليان يتوشحان بأعلام كتالونيا في مظاهرات العام الماضي

انفصاليان يتوشحان بأعلام كتالونيا في مظاهرات العام الماضي

وعد الانفصاليون أنصارهم باستقلال كتالونيا في 2017 على أبعد تقدير، في حال فوزهم بالانتخابات الإقليمية، وها هم فازوا، وباتوا يهددون باللجوء إلى حل راديكالي يتمثل في فرض الاستقلال كأمر واقع وإعلانه من طرف واحد خلال 18 شهرًا، في ظل سلطات كتالونية قادرة على بناء مؤسسات كالجيش والبنك المركزي والنظام القضائي، وطالبوا الكتالونيين بعصيان التشريعات وعدم تطبيق القوانين الجائرة بحق الطبقات الاجتماعية الكتالونية.

لكن الواقع أن الاستقلاليين لم يحصلوا على غالبية قوية تمكنهم من تشكيل الحكومة منفردين وتمرير إعلان بداية عملية الاستقلال، لذا هم الآن بحاجة لتشكيل ائتلاف وحتى تلك اللحظة يحسب لهم انتصار في نقطة واحدة على الأقل، وهي أنهم باتوا في صلب الجدل لتسوية “مسألة كتالونيا” المطروحة على السياسة الإسبانية منذ نحو قرن، ليس وحدهم بالطبع فهناك العديد من اللاعبين انضموا بالموافقة أو الرفض.

أول اللاعبين وأهمهم هو تحالف “معًا من أجل نعم” القوة السياسية الرئيسية التي تضغط من أجل الاستقلال، وقدمت خريطة أول سبتمبر تتوقع معها الاستقلال في غضون 18 شهرًا، ويشمل التحالف منظمات سياسية واجتماعية صغيرة وتشكيلة مختلفة من المحافظين واليسار، الحزب الثاني والمفترض التحالف معه لكسب قوة هو حزب “الوحدة الشعبية” المعروف اختصارًا باسم “CUP”، وهو حزب يساري صغير يدعم الاستقلال لكنه ليس عضوًا في تحالف “معًا من أجل نعم” لعدة أسباب أهمها الخلافات الأيديولوجية وإعلانه أنه لن يدعم حكومة يقودها الرئيس الكتالوني الحالي أرتور ماس، إلا أنه يدعم الإعلان الفوري للاستقلال من جانب واحد الآن وبعد انتهاء الانتخابات الإقليمية.

ومن المعارضين للاستقلال “حزب الوسط” الذي يدعم الطريق الثالث، وهو ما يعني التفاوض مع ريال مدريد لمزيد من الحكم الذاتي والاستقلالية دون الانفصال، ومعه على الطريق “الحزب الاشتراكي الكتالوني” وهو فرع من حزب العمال الاشتراكي، ويبقى في موقف غامض تحالف “كتالونيا المحتملة” اليساري الكتالوني، فهو يحمل موقفًا غامضًا من الاستقلال، وصرح بأنه للمواطنين حقهم في تقرير المستقبل ونفى أن الاستقلال عن إسبانيا ضرورة فورية.

“حكومة مدريد” هي البطل الأخير والأخطر، فقد صرح رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي مرارًا وبشكل قاطع أن كتالونيا لن تستقل، وكسب ماريانو بتصريحاته دعم “الحزب الشعبي” الذي وافق على منح مزيد من السلطة للمحكمة الدستورية الإسبانية.

حكومة مدريد وحدها تمسك بعصا القانون أمام الإرادة

يواجه ماريانو راخوي رئيس وزراء إسبانيا تحدي الحفاظ على الاقتصاد دون شيء آخر

يواجه ماريانو راخوي رئيس وزراء إسبانيا تحدي الحفاظ على الاقتصاد دون شيء آخر

ترى كتالونيا نفسها كأمة مستقلة بلغة وتاريخ وثقافة تعيش حالة طويلة من الإحباط مع إسبانيا، والتي بلغت ذروتها عام 2010 بحكم تاريخي من قبل المحكمة الدستورية حدد العلاقة بين كتالونيا وإسبانيا، وعزز الحكم الذاتي الكتالوني، ووافق عليه البرلمانان الإسباني والكتالوني، بالنسبة للمواطنين الكتالونيين فإن إيجاد تسوية سياسية لن يتم مع محكمة يهيمن عليها المحافظين مع خيبة أمل في مدريد وتوقع دائم لسوء النية، فمن المتوقع جدًّا أن ترفض المحكمة الدستورية الاستفتاء على الاستقلال بدفعة من حكومة مدريد، ما يجعل الاستفتاء غير شرعي ولن يضمن حضورًا جماهيريًّا كبيرًا.

سيكون رد مدريد طبيعيًّا جدًّا إذا أحالت القضية للمحكمة الدستورية كما فعلت مع الاستفتاء السابق على الاستقلال في 2014 بعدما شارك فيه 2.2 مليون مواطن، وزيادة في التعقيد فإن الحكومة الإسبانية تخطط لإصلاح دستوري من شأنه منح المزيد من الصلاحيات للمحكمة الدستورية ما يمكنها من فرض عقوبات مالية على الحكومات الإقليمية، والأهم من ذلك إقالة المسؤولين “المنتهكين للدستور”، وتمرير قانون يمنح الحكومة المركزية سلطة لتجاوز البرلمان والتهديد بتعليق الحكم الذاتي للمنطقة في حالات الطوارئ، ومن وجهة نظر مدريد فإن هذه التدابير ستضمن قوة للمحكمة الدستورية بما يكفيها للعمل في حالة ضعف الحكومة الرئيسية بمدريد بعد الانتخابات العامة في ديسمبر.

 

اقتصاد إسبانيا مهدد بشكل كامل إذا لم يتم الاتفاق

092915_1631_5.png

تعاني أوروبا من أزمة اقتصادية منذ عام 2008 تتفاقم مع دعوات كتالونيا من أجل الاستقلال، من قبل هذا وكتالونيا تواجه أزمتها الخاصة وعجزًا في الميزانية ناتجًا عن الضرائب التي تدفعها لحكومة إسبانيا المركزية، فوفقًا لحكومة كتالونيا فإنها تدفع 16 مليار يورو لمدريد حتى أصبحت الضرائب عبئًا عليها بحلول 2008 وتطلب منها اتخاذ تدابير تقشفية عميقة مقابل تشدد الحكومة المركزية لتجد كتالونيا أن مستقبل شعبها يكمن بعيدًا عن إسبانيا.

إن ولادة دولة كتالونية مستقلة يحمل عواقب سيئة لإسبانيا وأوروبا باقتصادها الهش، ففي المقام الأول سيكون فقدان 20% من الناتج المحلي لكتالونيا إضعافًا للاقتصاد الإسباني، فكتالونيا بها 16% من سكان إسبانيا وما يقرب من خمس الاقتصاد، ثانيًا فإن كتالونيا مركز رئيسي لنقل 70% من الصادرات الإسبانية، وبالتالي إذا استقلت كتالونيا فإن تكاليف نقل هذه المنتجات سيزيد من ضعف الاقتصاد الإسباني، كما أن كتالونيا هي موطن لكثير من أكبر الشركات الإسبانية والمؤسسات البحثية وعاصمتها برشلونة تعد واحدة من مدن العالم الكبرى وتجذب ضعف السياح المتجهين لمدريد كل عام، وأخيرًا فإن كتالونيا وحدها تنتج 45% من صادرات إسبانيا التكنولوجية من سيارات ومنتجات إلكترونية، وكل هذا سيجعل من خسارة المنطقة الأكثر إنتاجًا بإسبانيا خسارة فادحة تشكك في استقرارها.

سيحمل الاستقلال عواقبه على كتالونيا أيضًا، فالصادرات التي تشكل جزءًا أساسيًا من اقتصادها ستقف أمام حالة اللايقين من الحدود الجديدة أمامها، ففرنسا الوجهة الأولى للصادرات الكتالانية ترفض الانفصال وربما تلجأ لمناطق إسبانية أخرى إذا فرضت إسبانيا حصارًا على الدولة الجديدة، الأسوأ بالنسبة لكتالونيا هو احتمال قائم بعدم قبولها بالاتحاد الأوروبي لأن انضمام دول جديدة لعضوية الاتحاد يتطلب موافقة بالإجماع، وبالتالي استحالة قبول إسبانيا عضوية كتالونيا في حال انفصالها عن إسبانيا، مما يحرمها من خفض الديون الإقليمية، الدور الذي كانت تقوم به الحكومة الإسبانية وبالتالي ستكون كتالونيا المستقلة عرضة لخطر الوقوع في أزمة ديون مماثلة لإسبانيا.

يقول المتفائلون من أنصار الاستقلال إن بيد كتالونيا إعادة استثمار أموال الضرائب التي ترسلها لحكومة مدريد، وهو ما يعادل 9% من إجمالي الناتج المحلي؛ مما يرفع قدرة كتالونيا على منافسة إسبانيا، هذه النتيجة ممكنة لكن على المدى الطويل، ولكن ما يؤكده الاقتصاديون أنه ما إن وقعت كتالونيا وإسبانيا في مثل هذا الاضطراب السياسي والاقتصادي سيكون التفاوض في مصلحتهما قبل الوقوع في أزمة كبيرة.

 

عرض التعليقات
تحميل المزيد