نحن بعنا طائراتنا لأبو ظبي، لسنا بحاجة إلى طيران وجيش، نحن نؤسس لقناة ستكون القوات المُسلحة القطرية. وزير الخارجية القطري الأسبق حمد بن جاسم

في شتاء فبراير (شباط) عام 1996، شهد الخليج أزمة دبلوماسية عاصفة، إذ اتهمت قطر كلًا من السعودية والإمارات ومصر والبحرين بالتواطؤ في محاولة الانقلاب الفاشلة على الأمير حمد بن خليفة لصالح والده المخلوع المقيم في أبو ظبي، لكنّ المفاجأة التي كانت أكثر غرابة من الحدث نفسه، هي أن الحرس الأميري الذي يحمي القصر تورط مع بعض قيادات الجيش في المؤامرة؛ لكنّ العام لم يكد ينتهِ حتى أطلقت قطر قناة إخبارية تحت عنوان «هنا الجزيرة من قطر»، واختارت مُذيعًا فلسطينيًا – جمال ريّان – لكي يفتتح إطلالتها الأولى، كأنها تُخبر أعدائها بأنه حان الوقت لكي تنتقم الدوحة من أعدائها.

في هذا التقرير نخبرك كيف يمكن لقناة إخبارية أن تصنح تجربة النفوذ الكبير لدولة  صغيرة لا يتعدى جيشها 12 ألف مُقاتل.

قناة الجزيرة.. الحربُ قد تبدأ من غرفة الأخبار

حين أرادت السعودية أن تعزل قطر عن الجزيرة العربية قامت في عام 1965 بتوقيع اتفاق منفرد مع الإمارات، حيث تنازلت الأخيرة عن الشريط الساحلي المعروف بخور «العديد»، وكان الهدف الحقيقي ألا يكون هناك حدودٌ مشتركة بين الإمارات وقطر، بما يضمن للسعودية ألا تتحقق أحلام آل نهيان بضم كل من البحرين وقطر لتصبح الإمارات تسع ولايات، بدلًا عن سبع، ومن جهة أخرى أن تصبح الدوحة مُحاصرة كُليًا من الحدود البرية، بحيث لا يستطيع أي قطري الخروج من البلاد إلا بالمرور على السعودية؛ لكنّ الحصار الجغرافي سُرعان ما انهار بعد إنشاء قناة الجزيرة، والتي ساهمت السعودية في إنجاحها بدون قصد، وتلك قصةٌ أخرى تبدأ من لندن.

اقرأ أيضًا: قبل تيران وصنافير.. هكذا حسمت السعودية 6 خلافات حدودية لصالحها

كانت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) قد عزمت على إنشاء قناة عربية في عام 1994، وسعت السعودية التي كانت تستحوذ على الفضاء الإعلامي العربي في ذلك الوقت – عن طريق مجموعة قنوات «إم بي سي» إضافة إلى صحيفتي الشرق الأوسط والحياة – للحصول على الصفقة، لكنّ القناة الجديدة لم تصمد سوى عامين بعد تعرضها لانتقادات واسعة بسبب جرأتها وسقف حرياتها المرتفع، وكان آخرها انتقاد الحكومة السعودية على أراضيها، لذلك قررت شركة أوبريت الشريك الرئيس وقف البث من القمر الصناعي، وتسريح 150 من طاقم القناة كانوا يُمثلون في ذلك الوقت خبرة عربية استثنائية من مدرسة بي بي سي؛ وسُرعان ما قامت قطر بإقناع الطاقم للانضمام إلى القناة الجديدة التي وفرت لها التمويل السخي المباشر من الحكومة القطرية، والذي قُدر وقتها بمليون و40 ألف دولار، وبذلك تحول المشروع فجأة من مجرد قناة، إلى شبكة فضائية عربية مهدت لمنافسة القنوات الأجنبية فيما بعد، تُرى ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم ترتكب السعودية ذلك الخطأ؟

«نحن اليوم انتزعنا منكم طاقم عمل «البي بي سي»، وغدًا ننافسكم في الزعامة العربية»، كانت الرسالة الإعلامية للجزيرة في بدايتها شديدة اللهجة حين فتحت أبوابها للمعارضين من كافة الأنظمة العربية لاسيّما السعودية تحت شعار «الرأي والرأي الآخر»، ففي عام 2002، استضافت القناة معارضين سعوديين انتقدوا الأسرة الحاكمة؛ وهو ما أدى إلى قيام الرياض باستدعاء سفيرها فورًا، وفي أواخر عام 2003، انتفضت المعارضة السعودية لأول مرة داعين لحراك سياسي واسع، وهو سرعان ما تلقفته الجزيرة بعد ذلك عبر برنامج «الاتجاه المعاكس» الذي وجه انتقادات مباشرة للحكومة متسائلًا: «هل بدأ الحراك الحقيقي في بلاد الحرمين؟» وفي عام 2004، أفردت القناة مساحة عبر شاشاتها لتناول الفضيحة المعروفة إعلاميًا بـ«صفقة اليمامة»، والمتورطة فيها الحكومة السعودية بدفع رشاوي لأكبر شركات السلاح البريطانية، كما انتقدت القناة في أحد برامجها المبادرة العربية للسلام التي أطلقتها السعودية قبل عامين، واتهمتها بالتطبيع الكامل مع إسرائيل، إسقاط حق اللاجئين في العودة، من أجل تحسين صورة المملكة أمام واشنطن خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول).

على الجانب الآخر كانت الدول العربية المتضرر من مظلة «الرأي الآخر» تسعى لإنشاء منصات إعلامية بتمويل سخي من أجل الاشتباك مع الجزيرة فيما بعد، فقامت مصر في عام 2000 بإنشاء مدينة الإنتاج الإعلامي، كما قامت السعودية في عام 2003 بإنشاء قناة «العربية» بتمويل سخي، بلغ 500 مليون دولار، وذكرت تسريبات ويكليكس أن نصف أسهم القناة تعود لأحد أبناء الملك فهد، وقدمت القناة نفسها على أنها الصورة المعتدلة لقناة الجزيرة، كما يقول صاحبها، لكنّ الأجندة الإعلامية كانت مختلفة تمامًا عمّا كانت تروّج له الجزيرة، فبينما كانت القناة القطرية تستخدم لفظ «الشهداء الفلسطينيين»، و«الاحتلال الأمريكي للعراق»، كانت القناة السعودية تصفهم بـ«القتلى»، و«القوات الأجنبية»، وهو ما دعا الجزيرة إلى أن تصف منافسيها دائمًا بأنهم يمثلون وجهة النظر الأمريكية، بينما هي تمثل وجهة النظر العربية.

المعارك السياسية.. الصوتُ آخر ما تبقى

التاريخ لا ينسى أن الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز زار قطر عام 1996، وقام بتوقيع اتفاقيات بيع الغاز القطري لإسرائيل، ثم انقطعت العلاقات على إثر الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، ثم تكررت الزيارة مرة أخرى في عام 2007، والمثير أن صحيفة إسرائيلية ذكرت أن الأمير السابق قام بمساعدة بلادها في عام 2013، عن طريق مساعدة آخر ما تبقى من يهود اليمن في الوصول إلى فلسطين؛ وقد يبدو الحديثُ وكأنه ضربًا من التناقضات للدولة التي تدعم حماس دعمًا مُطلقًا، وتخوض في محرمات السياسة للأنظمة العربية، وبالرغم من كل الاتهامات والعداوات، إلا أن «الصوت هو آخر ما تبقى»، فالقناة الآن تحظى بلقب «الأكثر مشاهدة» في الشرق الأوسط منذ وقتٍ طويل.

1) ما قبل الربيع العربي

قبل 11 عامًا كانت الأنظمة العربية خالية من المعارضة، أو هكذا كان يبدو في فضاء الإعلام؛ الإخوان المُسلمون مضطهدون في مصر، والمعارضة السعودية تتظاهر في لندن، والنشطاء المغاربة تفرقوا بين فرنسا وإسبانيا، لكنّ القناة أعطتهم فرصة «الظهور» وسمحت لهم أن يصبحوا رموزًا للغضب؛ وهذه هي الخطوة التي تسبق الثورات عادةً؛ لذلك قامت كل من (الكويت والعراق والأردن وفلسطين والسودان والجزائر والمغرب) بغلق مكاتب الجزيرة حين تعدت المحظورات؟

والبداية كانت في عام 1999، حين اتخذ الرئيس الجزائري الحالي عبد العزيز بوتفليقة أول قراراته الرئاسية بغلق مكتب الجزيرة بعد إذاعة مقتطفات من حديثه معها ليلة الانتخابات الجزائرية، ثم تكرر الأمر نفسه في عام 2004 حين استضافت دبلوماسيًا جزائريًا قال: إن «15 من جنرالات الجيش مازالوا في مناصبهم بعدما قاموا بانقلاب 1992). ليبيا أيضًا قامت في العام 2000 حين قامت بسحب سفيرها من الدوحة بصورة نهائية اعتراضًا على حلقة «الاتجاه المعاكس» الذي انتقد تجربة الحُكم.

القناة نفسها أزعجت الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي بإغلاق مكتبها في رام الله عدة مرات أشهرها إرسال برقية رسمية لحكومة قطر تشكوها من سياسة القناة؛ إضافة لموقف الخارجية القطرية من دعم حماس التي سيطرت على غزة عام 2007، بعد أسبوعين فقط من زيارة حمد بن جاسم، وهو الأمر الذي اعتبرته إسرائيل والسعودية بأن قطر هي من خطط لذلك.

الكويت أيضًا لم تسمح للدوحة بأن تثير الحديث حول سياساتها الداخلية فأغلقت المكتب للمرة الثانية في عام 2004، وهو نفس العام الذي سحب فيه كل من العراق والسودان التصريحات اعتراضًا على التغطية؛ بينما في عام 2010، قامت المغرب بغلق مكتب الجزيرة قبل عدة أشهر من اندلاع الحدث الهام.

2) ثورات الربيع العربي

يعتقد مؤسس موقع ويكليكس أنه ساهم في تأجيج الغضب في الشوارع بفضل التقارير المُسربة في عام 2008 التي كشفت فساد بن علي وأسرته، وأجبرت المجتمع الدولي أن يقف بعيدًا عن الاحتجاجات التي وصلت إلى سوريا واليمن، لكن النيران التي لم تكن لتصمد لولا تدخل الجزيرة، وهذا الرأي حمله الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي بصورة مباشرة.

بعدما سقط النظام التونسي، استعدت القناة لتغطية أكثر جرأة بعدما انتقلت الاحتجاجات إلى نظام مبارك، إذ قررت الجزيرة تخصيص معظم ساعاتها التليفزيونية لمتابعة تطور الأوضاع، وفي شهادة مكتوبة لأحد صًحافيها يقول: «كانت مهمتي عسيرة للغاية.. أجلسُ في غرفة الأخبار أجمع مقاطع الفيديو من النشطاء في الميادين»، ثم خصصت الشبكة قناة بث أسمتها «الجزيرة مباشر مصر»، في إعلان صريح باحتضانها الثورات العربية التي انتقلت لاحقًا إلى اليمن وسوريا وليبيا.

3) ما بعد انتفاضة الأنظمة

في عام 2012، حاولت الإمارات إعادة تجربة السعودية في إنشاء قناة مُنافسة للجزيرة فظهرت النسخة العربية من «سكاي نيوز» البريطانية، بتمويل ضخم، حيث تمتلك القناة 30 مكتبًا لها في الشرق الأوسط موجهة نحو 50 مليون منزل، ويبدو أن القناة سرعان ما اكتسبت حضورًا إعلاميًا لكنها ظلت مُقيدة بالأجندة السياسية لدولة الإمارات المُتهمة بإجهاض الربيع العربي، وبهذا ظلت الجزيرة مسيطرة على الفضاء الإعلامي، لكن الحل الذي لطالما تألمت منه الجزيرة كان «التشويش»، وكان دائمًا السلاح الفعال.

في عام 2010 قامت الأردن – بحسب تصريحات الجزيرة – بالتشويش على القناة أثناء إذاعة مباريات كأس العالم، الأمر نفسه تكرر عقب عزل الرئيس المصري محمد مرسي في عام 2013، لكنّ المفاجأة أنه خرج من منشآت عسكرية مصرية، لكن الخطوة لم تكن مؤثرة على النحو المطلوب، ولم تمنع القناة مع استهداف النظام المصري لكن القناة أصبحت أقل حدة بعد الأزمة الخليجية، إذ قامت كل من السعودية والإمارات والبحرين بسحب سفرائها من قطر بسبب ما اعتبرته أن القناة تتدخل في الشئون الداخلية لها، ولم تحل الأزمة إلا بعد سبعة أشهر، لكنّ الحصار الأخير الذي أوشك على دخول أيامه المائة، يشترط على الدولة التي لا تزيد مساحتها على 11.51 ألف كيلو متر على إغلاق قناة الجزيرة نهائيًا.

لكي تعرف أكثر كيف أدارت قطر معركتها الدعائية ضد دول الحصار عبر الشبكة الإعلامية المكونة من 4000 موظف حول العالم، اقرأ التقرير التالي الذي أعدته «ساسة بوست»: «دفاع مرِن وهجمات مرتدة»: تعرف على خطة قطر للالتفاف على الحصار الخليجي.

المعارك المهنية.. كاميرا «الجزيرة» سبقتكم

«أحبوها أو اكرهوها.. الجزيرة مؤثرة ونسبة مشاهداتها تتزايد في الولايات المتحدة» هيلاري كلينتون

نعود مرة أخرى إلى العام 1998، حيث الضربة العسكرية التي وجهتها الولايات المتحدة وبريطانيا إلى العراق والتي سُميت «عملية ثعلب الصحراء»، ولمّا كان الإعلام الغربي هو الوحيد القادر على تغطية الأحداث الكبرى وحده، لذلك جاءت تغطية الجزيرة كتجربة لافتة للنظر، فقد محت صورة الصحافي الأمريكي بيتر أرنت الذي حصل على تصريح حصري بنقل أحداث حرب العراق منفردًا، وبذلك أنهت عهد احتكار المراسلين الأجانب للصورة والمعلومة.

لفتت الجزيرة أنظار العالم مرة أخرى خلال حرب أفغانستان عام 2001، إذ كانت القناة الوحيدة التي تمتلك مراسلًا ميدانيًا – تيسير علواني – يسير بكاميرا وحيدة تنقل مشاهد القصف الجوي خلال أول الأيام الأولى، وبذلك باتت القنوات الكبرى مُجبرة على التعامل مع الجزيرة كمصدر وحيد للمعلومة، والأمر تطور فيما بعد عندما احتكرت الشبكة أشرطة زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن، ليس هذا فقط، بل إنها قامت ببيع التسجيل الأول بمبلغ 250 ألف دولار لشبكة أجنبية، بعد دقائق من عرضه، ليس هذا فقط، فتسريبات ويكليكس تخبرنا أن الإمارات نصحت الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش بقصف مكتب القناة في كابل؛ لأن تغطيتها أثارت غضب الولايات المتحدة التي استمعت للنصحية وقامت بقصف القناة بالفعل.

عادت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى العراق مرة أخرى في عام 2003، حيث أعلنت أن عملياتها العسكرية تستمر بنجاح دون وقوع أية إصابات، لكنّ الجزيرة أعلنت كذب التصريحات الأمريكية عن طريق نشر الصور التي نقلها مراسوها من بغداد، وكانت النتيجة استشهاد المراسل في عملية قصف مكتبها، لكنّ الجزيرة رفعت شعارها الشهير «التغطية مستمرة».

وبينما كانت الأنظمة العربية تستعد لإنشاء قنوات لمنافسة الجزيرة، كانت الشبكة الإعلامية قد تحولت شبكة دولية بامتياز في عام 2003،وهو العام الذي أعلنت فيه شبكة (البي بي سي) عن توقيع اتفاق لتبادل الصور والمعلومات، بما في ذلك لقطات الأخبار، وبذلك حصلت الجزيرة على اعترافٍ باعتبارها شبكة تفوقت في التغطية الإخبارية، ومارست دورًا كبيرًا في صناعة التأثير.

وتواجه الجزيرة الآن حملة اعتقالات لمراسليها، إضافة إلى غلق مكاتبها، وحجب مواقعها الإلكترونية، بالإضافة إلى عمليات التشويش، لكنها لازالت تحتفظ بشريحة كبيرة من المشاهدين في ظل غيابها الرسمي.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد