«الكل يبحث عن مصلحته»، و«الغاية تبرر الوسيلة»، هذه العبارات التي أصبح الناس يرددونها كثيرًا هذه الأيام، تبدو انعكاسًا لما أصبح عليه تفكير الغالبية من البشر اليوم، الأنانية. من كبار القادة والزعماء السياسيين، إلى صغار الموظفين، وربما حتى الطلبة، أصبح الكل مهتمًّا بما هو في صالحه، وبما يريده، دون أن يراعي الآخرين، هذه هي الظاهرة التي يرصدها ويشكو منها الناس.

لطالما كان هناك افتراض عام بأن البشر أنانيون في الأساس. نحن على ما يبدو كائنات لا ترحم، ولدينا دوافع قوية للتنافس بعضنا ضد بعض من أجل الموارد والحصول على القوة وتجميع الممتلكات. وإذا كنا لطفاء معًا، فعادةً ما يكون ذلك نتيجة لوجود دوافع خفية، وإذا كنا جيدين، فهذا فقط لأننا تمكنا من التحكم في أنانيتنا ووحشيتنا الفطرية وتجاوزناهما.

كان الفلاسفة يتجادلون دائمًا حول ما إذا كان الناس أنانيين بطبيعتهم منذ القدم. أجرى سقراط مناقشة مع شقيقه الأكبر جلوكون، أصر فيها جلوكون على أن السلوك الجيد للناس موجود في الواقع فقط من أجل المصلحة الذاتية؛ أي يفعل الناس الشيء الصحيح فقط لأنهم يخشون التعرض للعقاب. يقول جلوكون إنه إذا كانت الأفعال البشرية غير مرئية للآخرين، فحتى أكثر الأشخاص عدلًا سيتصرفون من أجل أنفسهم تمامًا.

دوكينز يروج لعصر الأنانية

ترتبط هذه النظرة القاتمة إلى الطبيعة البشرية ارتباطًا وثيقًا بالكاتب ريتشارد دوكينز، الذي ألف كتابه «الجين الأناني»، وهو الكتاب الذي أصبح شائعًا بين العلماء والباحثين لأنه يتلاءم جيدًا مع الروح التنافسية والفردية للمجتمعات في أواخر القرن العشرين، بل ساعد في تبرير تلك الحالة التنافسية القاسية.

مثل الكثير من العلماء والمفكرين، يبرر دوكينز آراءه بالإشارة إلى مجال علم النفس التطوري. إذ يفترض علم النفس التطوري أن السمات البشرية الحالية تطورت في عصور ما قبل التاريخ، خلال ما يسمى «بيئة التكيف التطوري»، والمقصود بها أنه من أجل فهم وظائف الدماغ بشكل صحيح فيجب على المرء أن يفهم خصائص البيئة التي تطور فيها الدماغ.

بكلمات أخرى، فإنه من أجل فهم البشر وخصائصهم، فعلينا أن نعرف كيف كانت البيئة المحيطة بهم في الوقت الذي ظهر وتطور فيه الجنس البشري لأول مرة على الأرض. بحسب أغلب العلماء، فقد ظهر البشر (جنس هومو)، منذ ما بين 1.5 و2.5 مليون سنة، وهو الوقت الذي يتزامن تقريبًا مع بداية العصر الجليدي (البليستوسيني) قبل 2.6 مليون سنة، ونظرًا إلى أن العصر الجليدي انتهى قبل 12 ألف عام فقط، فإن معظم التكيفات البشرية تطورت حديثًا خلال هذا العصر.

لذلك يقترح علم النفس التطوري أن غالبية الآليات النفسية البشرية تكيفت مع المشكلات الإنجابية التي تصادف وقوعها كثيرًا في بيئات العصر الجليدي. بشكل عام، تشمل هذه المشكلات؛ مشكلات النمو، والتمايز، والإعالة، والتزاوج، والأبوة، والعلاقات الاجتماعية.

عادًة ما ينظر إلى هذا العصر على أنه فترة منافسة شديدة، عندما كانت الحياة نوعًا من معركة المصارعة التي برزت فيها السمات التي أعطت الناس ميزة البقاء على قيد الحياة بينما سقط الآخرون. ولأن بقاء الناس يعتمد على الوصول إلى الموارد، مثل الأنهار والغابات والحيوانات، فلا بد أن يكون هناك تنافس وصراع بين الجماعات البشرية، مما أدى إلى تطوير سمات مثل العنصرية والحرب.

كيف تبدو بيئة ما قبل التاريخ

يبدو ما سبق منطقيًّا، ولكن في الحقيقة فإن الافتراض الذي يستند إليه هؤلاء العلماء من أن حياة ما قبل التاريخ كانت صراعًا قويًّا من أجل البقاء، غير صحيح. من المهم أن نتذكر أنه في عصر ما قبل التاريخ، كان العالم قليل الكثافة السكانية، لذلك من المحتمل أن يكون هناك وفرة من الموارد لمجموعات الصيادين من البشر التي كانت تعتمد على الجمع والالتقاط وصيد الحيوانات.

وفقًا لبعض التقديرات، قبل حوالي 15 ألف عام، كان عدد سكان أوروبا 29 ألف نسمة فقط، وكان عدد سكان العالم كله أقل من نصف مليون. مع هذه الكثافة السكانية الصغيرة، يبدو من غير المحتمل أن مجموعات الصيادين والجامعين في عصور ما قبل التاريخ كانت مضطرة للتنافس بعضها ضد بعض، أو كان لديها أي حاجة لتطوير صفات القسوة والقدرة على المنافسة، أو الذهاب إلى الحرب. في الواقع، يتفق العديد من علماء الأنثروبولوجيا الآن على أن الحرب تطور متأخر وقع في تاريخ البشرية، ونشأت مع قيام المستوطنات الزراعية الأولى، وبالتالي لم تكن جزءًا من عالم ما قبل التاريخ.

هناك أيضًا أدلة مهمة من مجموعات الصيادين والجماعات المعاصرة التي تعيش بالطريقة نفسها التي عاش بها البشر في عصور ما قبل التاريخ. من الأمور اللافتة للنظر في مثل هذه الجماعات هي المساواة التي يعيش فيها أفرادها. يتسم الصيادون والجامعون بما يسمى «المساواة السياسية والجنسية المتطرفة». الأفراد في هذه المجموعات لا يجمعون ممتلكاتهم الخاصة، بل لديهم التزام أخلاقي لتقاسم كل شيء، ولديهم أيضًا طرقًا للحفاظ على المساواة من خلال ضمان عدم ظهور اختلافات في المكانة بين الأفراد.

عندما يذهب بعض هؤلاء في جنوب أفريقيا إلى الصيد، على سبيل المثال، ويتبادلون الأسهم التي يصطادون بها، فعندما يقتل حيوان، لا يعود الفضل إلى الشخص الذي أطلق السهم، بل إلى الشخص الذي ينتمي السهم إليه من البداية. وإذا أصبح الشخص متسلطًا أو متعجرفًا للغاية، فإن أعضاء المجموعة الآخرين ينبذونه.

عادة في مثل هذه المجموعات، لا يملك الرجال أي سلطة على النساء. وفي الأغلب – وفق دراسة هذه المجموعات – تختار النساء شركاءهن في الزواج، ويقررن العمل الذي يرغبن في القيام به، ويعملن متى شئن ذلك. وإذا انهار الزواج، فلديهن حقوق حضانة أطفالهن. يتفق العديد من علماء الأنثروبولوجيا على أن مثل هذه المجتمعات القائمة على المساواة كانت طبيعية حتى قبل بضعة آلاف من السنين، عندما أدى النمو السكاني إلى تطوير الزراعة وأسلوب حياة مستقر حول الأنهار والمياه العذبة.

الأنانية تطورت وليست أصلية في جيناتنا

هذه الأدلة تعطينا القليل من الأسباب لافتراض أن سمات مثل العنصرية والحرب، وهيمنة الذكور على الإناث، هي أمور أصلية تطورت في جينات الإنسان الأول، وذلك لأنه لم يكن لها أي فائدة في عصور ما قبل التاريخ، وبالتالي لا يمكن للانتقاء الطبيعي أن يختار ظهور هذه السمات وتطورها. بمعنى أن الأفراد الذين يتصرفون بأنانية وقسوة سيكونون في بيئة ما قبل التاريخ أقل عرضة للبقاء على قيد الحياة، لأنهم كانوا سيبعدون من مجموعاتهم.

في العشرين عامًا الماضية، اكتشفنا أن الناس في جميع أنحاء العالم أكثر أخلاقية بكثير وأقل أنانية بكثير مما افترضه الاقتصاديون وعلماء الأحياء التطورية سابقًا، وأن التزاماتنا الأخلاقية متشابهة بشكل مدهش، مثل المعاملة بالمثل، والإنصاف، ومساعدة الأشخاص المحتاجين، حتى لو كان التصرف بناءً على هذه الدوافع يمكن أن يكون مكلفًا لشخص ما.

مجتمع

منذ سنتين
كيف يفسر علم النفس ممارسات بعض مصابي كورونا بنقل العدوى للآخرين؟

من المنطقي إذن أن نرى سمات مثل التعاون، والمساواة، والإيثار، والسلام على أنها سمات طبيعية للبشر. هذه هي السمات التي كانت سائدة في حياة الإنسان لعشرات الآلاف من السنين، وهي الصفات التي دخلت في جينات البشر منذ بدايتهم، لذلك من المفترض أن هذه السمات ما تزال قوية فينا حتى الآن.

لماذا يتصرف البشر بأنانية إذًا؟

بالطبع، قد يجادل الكثيرون بأنه إذا كان هذا هو الحال، فلماذا يتصرف معظم البشر في الوقت الحاضر بأنانية وبلا رحمة؟ لماذا هذه الصفات السلبية أصبحت طبيعية في العديد من الثقافات، خصوصًا ما نشاهده في ثقافات الغرب وأمريكا الحديثة؟ الجواب هنا أنه ربما ينبغي النظر إلى هذه السمات على أنها نتيجة عوامل بيئية ونفسية، وليست ناجمة عن عوامل وراثية في الإنسان.

أظهرت العديد من الأبحاث أنه عندما تتعطل وتتلف البيئات الطبيعية عند الرئيسيات من الحيوانات، فإنها تميل إلى أن تصبح أكثر عنفًا، وتبدأ في بناء التسلسل الهرمي في مجتمعها، لذلك من الممكن أن يكون الشيء نفسه قد حدث لنا، نحن البشر، منذ أن تخلينا عن أسلوب حياة الصيد والجمع.

نحن خلقنا متعاونين ومتساوين، وكان نمط حياة الصيد والجمع هو ما أكد هذه الصفات في البشر. لكن مع نهاية زمن الصيد والجمع والتحول إلى الزراعة، بدأ يحدث تغير نفسي معين في بعض مجموعات البشر. بدأ يظهر شعور جديد بالفردية والانفصال؛ مما أدى إلى ظهور سمة الأنانية، وفي نهاية المطاف تطورت الأنانية حتى وصلنا إلى المجتمعات الهرمية، والسلطة الأبوية، والحروب.

هذه السمات السلبية تطورت مؤخرًا لدرجة أنه لا يبدو من الممكن تفسيرها بمصطلحات تكيفية أو تطورية. الخلاصة هنا أن الجانب الجيد من طبيعتنا أكثر عمقًا من الجانب الشرير، لكننا سمحنا وطورنا نمط حياتنا بأيدينا بما يسمح للجانب الشرير بالطغيان على الجانب الجيد.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد