يحاول البشر الفرار بحياتهم من آلة الحرب الدائرة، وبينما ترتفع الأصوات باحترام القوانين الدولية التي تحكم سير الحروب، تستمر الأطراف المتحاربة بحصد الأرواح بلا توقف. هل سألت من قبل عن ماهية تلك القوانين وأحكامها؟ على من تسري؟ هل تساءلت عن مدى فعاليتها وإمكانية الاحتكام إليها لعرقلة تروس الحرب قليلا؟ هذا ما سنجيبك عنه فى هذا التقرير.

ماذا قبل القوانين الحديثة؟ المحاولات الأولية لوضع قانون إنساني

إيجاد عرف يقلل من آثار الحروب، كان هذا أحد مساعي الإنسان الدائمة. في الحضارات القديمة أعلن السامريون قبل ألفي عام قبل الميلاد ” قانون حمورابي” وأقروا فيه ضرورات إعلان الحرب، والتحكيم بين الخصوم, وحصانة للمفاوضين, ومعاهدات الصلح. وٌقدمت الحضارة المصرية (الأعمال السبعة للرحمة الحقيقية) كتعاليم إلهية تلتزم بها الجيوش. كما أرست تعاليم مانو في الهند قواعد إنسانية تحمي الأسير والمسالم وقت الحروب. وناقشت الأديان كلها حقوق الأسير والمستضعفين من غير حاملي السلاح ونهت عن قتلهم أو التنكيل بهم.

أصبحت قضية التفرقة بين المقاتل والمسالم، وإيجاد تعريفات واضحة للضرورة العسكرية إحدى مثارات الفلسفة الحديثة. دعا إليهما الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو-في نظريته ” العقد الاجتماعى”

“إن الحرب علاقة بين الدول لا بين البشر فالعداء للجنود لا للإنسان، فبإلقاء الجندي سلاحه واستسلامه يعود بشرا لا يحق لأي كان الاعتداء على حياته”

جندي يحاول تهدئة زميله بعد المعركة

الشرارة الأولى

الزمان 24 يونيو 1859، المكان: سولفرينو (إيطاليا الحالية)

إيطاليا الممزقة إلى دويلات تئن تحت وطأة الاحتلال النمساوي، وفي المدى يعبر نابليون الثالث امبراطور فرنسا جبال الألب ب 200,000 جندي فرنسي ويتحالف مع جيش سردينيا بقيادة فيكتور إيمانويل الثاني. يلتقي الجيشان المتحالفان ب 100,000 جندي نمساوي بقيادة الامبراطور فرانسوا جوزيف في معركة (سولفرينو) التي انتهت بانتصار نابليون نصراً باهظ الثمن، فقدت فيه قوات الحلفاء 170,000 من الضباط والجنود بين قتيل وجريح، تخلد ذكراهم ثلاث مقابر ضخمة ضمت رفات عشرات الآلاف من ضحايا المعركة.

رتبت الأقدارمجيء رجل الأعمال السويسري ” هنري دونان ” إلى كسيتليوني ديلا بيف للقاء الامبراطور نابليون أملاً فى الحصول على تصاريح تجارية لأعماله. وصل دونان بعد ساعات فقط من نهاية المعركة التي خلفت ما يقارب من 40 ألفًا من جرحى الجيشين ينازعون لحظاتهم الأخيرة، بينما لم تكن الخدمات الطبية العسكرية كافية لاحتواء الوضع ولا كان لها أي حماية خاصة. فأسرع ببناء مشفى صغير داخل كنيسة القرية ودعا أهلها للمساعدة فى التمريض، محاولين إنقاذ من بقي على قيد الحياة من الجانبين وتكريم من مات منهم.

هنري دونان يجمع الناس لمساعدة الجرحى بعد المعركة (صورة تخيلية)

تذكار سولفرينو: النداء العالمي الأول

عاد دونان إلى جنيف بذكريات مروعة من الحرب سجلها فى كتابه المنشور 1862 ” تذكار سولفرينو”، الذي نادى فيه بفكرتين ثوريتين في ذلك الوقت، الأولى: إنشاء جمعيات إغاثة مستقلة في كل بلد لإغاثة ضحايا الحرب. والثانية: وضع اتفاقية دولية لتقنين قيامها ونظام عملها.

انتشرت أفكار دونان بسرعة حتى وصلت إلى جوستاف موانييه -رئيس إحدى جمعيات النفع العام فى سويسرا-، فدعى أعضاء جمعيته لدراسة اقتراح دونان وشكل لجنة لدراسته ضمت دونان نفسه. وفي جنيف عام 1863 وجهت اللجنة الدعوة لعقد مؤتمر دبلوماسي عالمي يبحث مقترحات دونان. اتفق المؤتمر على إنشاء جمعيات الغوث الدولية التطوعية التي تعد نفسها في وقت السلم للمساعدة فى تقديم الخدمات الصحية أثناء الحرب، ووقعت ست عشرة دولة على أول اتفاقية دولية تعمل على حفظ حياة البشر أثناء الحروب. وبموجب الاتفاقية أنشأت اللجنة الدولية للصليب الأحمر واتخذت من معكوس العلم السويسري (صليب أحمر على رقعة بيضاء) شعارًا لها ومن جنيف مقرا لبعثتها الدولية. وتمثلت عبقرية هذه الاتفاقية أنها الأولى التي تقوم على اتفاق الطرفين لا على سلطة إلهية أو أي سلطة أخرى.

اللجنة المؤسسة للصليب الأحمر الدولي

“ليتك هلكت فجأة أيها الشهيد البائس مضروبا برصاصة على أرض المذبحة وسط تلك الأهوال العظيمة التى يسمونها المجد بل ليت أولئك القرويين الذين آلت إليهم مهمة الدفن قد دفنوك حيًا عندما التقطوك فاقد الوعي على جبل السرو أو في سهل ميدولي لما طال عندئذ عذابك الرهيب على الأقل. لكنك الآن تمر بعذابات متتابعة كتب عليك أن تتحملها ويدركك الألم المفرط ويليه الموت الموحش بكل أهواله وأخيرا يلصق باسمك ذلك النعت المقتضب ” مفقود” كمرثية وحيدة لك.” * من كتاب تذكار سولفرينو لهنري دونان

 

” قصة فكرة- رسوم متحركة مقتبسة من كتاب”

اتفاقية جنيف الأولى

تولد من الشق الثاني لنداءات دونان المؤتمر الدبلوماسي العالمي الأول عام 1864 الذي أعلن اتفاقية جنيف الأولى بشأن تحسين حال الجرحى العسكريين فى الميدان. شملت الاتفاقية عشرة مواد معلنة فيها قواعد راسية إلى يومنا هذا، منها حياد عربات الإسعاف والمستشفيات العسكرية، وضرورة حمايتها واحترامها، وحياد وحماية أفراد الخدمات الطبية والمتطوعين المدنيين لإغاثة الجرحى، وتقديم المساعدة الطبية دون تمييز.وأصبحت هذه الاتفاقية هي نواة قانون الحرب الذي أصبح يُعرف اليوم بالقانون الدولي الإنساني.

ثم في 1899 أعلن المجتمع الدولي اتفاقية جنيف الثانية، التي أسبغت ذات الحماية على جرحى ومرضى الحرب البحرية وناقشت إنقاذ الغرقى والموشكين على الغرق.

عربات إسعاف وأفراد طواقم طبية يضعون شارات الحماية الدولية

الحرب تدفع باتفاقية جنيف الثالثة إلى الوجود

اندلعت الحرب العالمية الأولى 1914-1918 عملت خلالها اللجنة الدولية للصليب الأحمر للعناية بالجرحى والمصابين في ميادين القتال البرية والبحرية، وعلى الرغم من ذلك انتهت الحرب بمقتل 37,508,686 إنسانا!

كانت هذه الخسارة الفادحة هي التي دعت المجتمع الدولي إلى بحث انتهاكات الحرب وإعلان اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1929 مكملة للاتفاقيتين السابقتين وغير لاغية لهما. جاءت الاتفاقية الثالثة في اتفاقيتين: نصت الأولى: على تطوير اتفاقية جنيف لحماية الجرحى واعتمدت شارتي (الهلال الأحمر والأسد والشمس الأحمرين) كشارات دولية للحماية إلى جانب الصليب الأحمر، -استجابة لبعثات تركيا ومصر وجمهورية فارس الإسلامية (إيران)-

وكانت الاتفاقية الثانية أول ميثاق دولي يناقش معاملة أسرى الحرب ويسن القوانين المتعلقة بهم. فوردت سبع وسبعين مادة تناقش أهم ما يتصل بحماية الأسير وتوفير الحماية له وأضافت إلى اختصاصات اللجنة الدولية للصليب الأحمر مهمة جمع المعلومات عن الأسرى وزيارتهم وتبادل الرسائل مع ذويهم.

توزيع الطعام في إحدى معسكرات أسرى الحرب بأوكرانيا يوليو 1941

 

هل يتطور القانون الإنساني دون كارثة؟

الإجابة الواقعية ستكون: لا!

فمع اندلاع الحرب العالمية الثانية التزمت الدول المتحاربة بقوانين كأسرى الحرب والحرب الكيماوية، بينما شهدت الحرب جرائم إبادة جماعية عديدة وألقيت القنابل الذرية في هيروشيما وناجازاكي لأول مرة في التاريخ. إثر انتهاء الحرب دعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أواخر 1949 لمناقشات لمراجعة اتفاقيات جنيف أسفرت عن اتفاقيات جنيف الأربع التى تعد أعمدة القانون الدولي الإنساني الحديثة.

جاءت الاتفاقية الرابعة في أربع اتفاقيات. الأولى: لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان تنقيحأً لاتفاقية جنيف الثالثة 1929. الثانية: لتحسين حال جرحى ومرضى وغرقى القوات المسلحة في البحار كتعديل لاتفاقية لاهاي 1907. الثالثة: تضيف مزيدا من الحماية لأسرى الحرب، -وهي تعديل لاتفاقية جنيف الثالثة بشأن الأسرى 1929-. الرابعة: اتفاقية جنيف بشأن حماية المدنيين أثناء الحرب، وهي أول اتفاقية دولية تتناول أحوال المدنيين أثناء الحرب

توقيع اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949

البروتوكولان الإضافيان لعام 1977

رغم الاصطلاح على كثير من مبادئ الإنسانية مثل: حماية الجرحى والمرضى والمنكوبين في البحار وأسرى الحرب والمدنيين وتوفير الحماية لأفراد ووحدات ووسائل نقل الخدمات الطبية، ظهرت في القانون الدولي الإنساني ثغرات خطرة مثل آليات سير العمليات القتالية , وحماية السكان المدنيين من آثار هذه العمليات . ما استلزم إعلان البروتوكولين الإضافيين لعام 1977، مكملين لاتفاقيات جنيف (1949) ولا يحلان محلها.

اللجنة الدولية للصليب الأحمر تسعف الجرحى في حرب فيتنام

البروتوكول الإضافي الأول: وسع مفهوم النزاع المسلح الدولي – الأعمال العدائية بين الدول-ليشمل حركات التحرر الوطني أيضًا. وأعاد تعريف ما الذي يعد هدفا مشروعا للهجوم العسكري، حيث حظر الهجمات العشوائية أو الانتقامية على الأشخاص المدنيين والأعيان المدنية، والأعيان التي لا غنى عنها لحياة المدنيين: كمصادر المياه، وأماكن العبادة، والبيئة الطبيعية، كما حظر اتخاذ المقاتلين صفة مدنية. وصنف أي انتهاك لهذا الحظر على أنه جريمة حرب. وبهذا النص أصبح من حق حركات التحرر الوطني أن تقاضي الأنظمة الاستعمارية على جرائمها، وتقيد تحركاتها العسكرية ضد المدنيين.

البروتوكول الإضافي الثاني: أرسى -للمرة الأولى- قواعد تطبق خلال النزاعات المسلحة غير الدولية، -هي النزاعات المسلحة التي تدور على أراضي دولة بين القوات المسلحة لها ومجموعات مسلحة متمردة تسيطر على جزء من أراضي هذه الدولة وتعمل تحت قيادة مسؤولة. وأسبغ حماية للمقاتلين الذين وضعوا سلاحهم وكفوا عن الاشتراك في القتال، كما منح حماية قانونية للمحاكمين في قضايا النزاعات المسلحة. وحظر كذلك الترحيل القسري للسكان المدنيين خلال النزاعات المسلحة غير الدولية.

البروتوكول الإضافي الثالث: أعلن عام 2005 البروتوكول الإضافي الثالث لاتفاقيات جنيف شارة (الكريستالة الحمراء) كشارة جديدة للحماية تتساوى مع شارتي الصليب والهلال الأحمر في وضعهم القانوني. وتخلو الشارة الجديدة من أية دلالات تجاوزا لإشكالية ارتباط شارتي الصليب والهلال بأيديولوجيات دينية، تعوق دون وصول الحماية لمستحقيها وتعرض مرتدي الشارة للخطر.

شارات الحماية الدولية الصليب والهلال والبلورة الحمراء

 

 

من بعد اتفاقيات جنيف استمر المجتمع الدولي في إبرام الاتفاقيات التي تقنن سير الحروب وتحمي المشاركين وغير المشاركين فيها، حتى انتهى إلى إعلان النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية 2002.

يكمن التساؤل الآن: استنادا إلى هذه القوانين، ما الذي يمنع المجتمع الدولي من التدخل عسكريا أو سياسيا لإيقاف الحروب الدائرة في العالم حاليا؟ الجواب فقط أنَّ الدول الكبرى ـ والقائمة على رعاية هذا القانون ـ متورطة في جرائم ضد الإنسانية في حروب حول العالم.

اليمن: مندوب اللجنة الدولية للصليب الأحمر يزور أسرى الحرب المصريين

 

إطلاق سراح أسرى الحرب من معسكر شانجي 1945

تحميل المزيد