من بين الصور الملتقطة لمجازر إدلب وريفها على يد النظام، شدّت صورة لطفلة في الخامسة من عمرها أنظار العالم، فقد ظهرت الفتاة الجريحة العالقة بين أنقاض الطابق الخامس وهي تمسك بيد شقيقتها الرضيعة التي ألقاها القصف على حافة الأنقاض.
لكن بعد دقائق انهارت الأنقاض فسقطت ريهام وشقيقتاها، وأصبن إصابة شديدة توفيت على إثرها ريهام مع شقيقتها روان، بينما نجت الرضيعة تقى، كذلك رحلت أم ريهام قبل أن تعلم أن تنشئتها لابنتها كانت تنشئة عظيمة، فقد تمسكت الأخت الكبرى حتى الرمق الأخير بيد الرضيعة، ولن يؤثر في عطائها فداحة ما ألقى الطيران الحربي المكثف منذ أيام على منزلها، ولا ما وجدته حولها من بحر الأنقاض الأسمنتية والحديد.
ريهام.. طفلة هزت العالم
في 24 من يوليو (تموز) 2019، خرج المصور السوري بشار الشيخ بشكل طارئ كعادته لتوثيق حوادث القصف على مناطق إدلب المتعددة، وقد كانت أريحا التي تقع في ريف إدلب الجنوبي هي تلك المنطقة التي فرض كثافة القصف عليها ذهاب الشيخ إليها.
تعرضت أريحا في ذلك اليوم، وتحديدًا في العاشرة صباحًا، إلى غارة جوية قُتل على إثرها أم وطفلها وسقط ثلاثة جرحى آخرين، وقبل أن ينتهى رجال الدفاع المدني والمسعفين من عملهم، وفي الوقت الذي كان الشيخ ما يزال يلتقط الصور، وقعت غارة حربية أخرى قريبة المكان، وبحكم هذا القرب وصل الشيخ في اللحظات الأولى للقصف، قبل أن ينقشع غبار القصف.
سمع الرجل صوت صغار يبكون، ثم وضحت الرؤية قليلًا؛ فرأى مشهدًا لا يصدّقه عقل: طفلتان معلقتان بين أنقاض الطابق الخامس من البناية، إحداهما هي ريهام أمجد العبد الله (خمس سنوات) التي تمسكت رغم إصابتها بيد شقيقتها الرضيعة تقى المتدلية على حافة الأنقاض.
يقول الشيخ عن صورته التي هزت العالم لـ«ساسة بوست» : «كان أمرًا مفزعًا للغاية، التقطت الصورة كي أثبت فجاعة الموقف، ثم أغلقت كاميرتي وذهبت للاقتراب من المبنى بحذر، ففزع الفتاة يعني سقوطها مع شقيقتها من الطابق الخامس، كان على مقربة متر واحد منهن جار لهما، حاول إنقاذهما لكن الاقتراب كان يعني حتمية سقوطهما مع أي حركة هينة لتصدع الجدران والأسقف».
ويواصل الحديث منهكًا عن تلك اللحظات: «أخذت أقترب حريصًا على ألا ألفت نظرهما، لكن القدر كان أسرع، سقطتا مع الركام من الطابق الخامس للأرض»، يصمت الشيخ عن الحديث لعظم ما حملته تلك اللحظات من آلام لا يمكن وصفها كما يقول، فقد تمكن من تمالك قواه فركض ناحية الركام وحمل الطفلتين بحالة حرجة للغاية مع مدني المنطقة نحو أقرب نقطة طبية.
رجل يحاول إسعاف طفلة مصابة في أريحا (المصدر: شبكات التواصل الاجتماعي)
ويروى الشيخ كيف نزفت ريهام كثيرًا طيلة الطريق إلى المستشفى، وهو الأمر الذي أدى لوفاتها بعد ساعات قليلة: «الألم فاق كل الأوصاف التي يمكن استخدامها للتعبير عن ما يحدث، كيف يمكن أن نصف مشاعرنا ونحن نصور وننقل مع المسعفين صور الناس محروقة ومشوهة من شدة القصف على سراقب ومعرة النعمان وأريحا وغيرها من مدن الشمال السوري».
يضطر الشيخ وهو مهجر من ريف حلب الشمالي، ويقطن الآن في أريحا، عند الذهاب لتصوير مجزرة تلو الأخرى أن يخلع ثيابه ويرتدى ثياب فرق الدفاع المدني التي تواجه ضغطًا كبيرًا، حدث ذلك قبل فترة عندما سارع لإطفاء جثة رجل محروقة من شدة القصف، وهو يقول عن ذلك: «الوضع على الأرض هنا يفوق كل الأوصاف، لم يسبق أن شعر أحد في العالم بما يشعر به السوريون الآن في تلك المناطق التي تتعرض للقصف الشديد المتواصل، في ظل إمكانات فقيرة للغاية لإنقاذ الناجين، الناس هنا لا خيار لهم إلا الهرب نحو الخلاء والاحتماء بالأشجار، ويا ليتهم ينجون!».
أهوال القصف تُذهب العقول
تقطن السيدة حسناء بدران بالقرب من مسجد الفتح في منطقة أريحا، وهي كغيرها من سكان المنطقة، منذ 10 أيام تعيش أهوالًا صادمة من شدة القصف من حولها، فهي كما تقول باللهجة السورية: «ما عم نحسن نأخذ نفس من القصف، طول النهار ضرب ضرب على المباني، وفي كل مكان».
طفل مصاب في مجازر إدلب (المصدر: شبكات التواصل الاجتماعي)
حسناء التي لا تخرج من قبو منزلها إلا للضرورة القصوى، لا تكف عن التفكير في آلام الناس من حولها، فما يزال ذهنها مشغولًا بذوى عروسين، قُصف منزلهما في ليلة العرس، فقتل العريس على الفور ونقلت العروس إلى المستشفى في حالة خطر شديد، كذلك لا يذهب عن نظرها مشهد الضحايا محروقين لا تُعرف هويتهم من شدة التشويه الذي نال منهم، ولا مشهد قدم رضيعة مبتورة بحذائها الأبيض الأنيق.
تخبرنا حسناء أن المستشفيات في منطقتها تضع المصابين على المداخل، وتردف لـ«ساسة بوست» : «منذ 10 أيام وكل يوم مجزرة أو اثنتين، تنال من النساء والأطفال والرجال، الناس تبقى تحت الركام أيامًا حتى يستطيعوا إخراجهم»، وتصمت قليلًا ثم تقول بقهر: «والله لم نعد نملك عقلًا يتحمل هذا الوضع، أين نذهب؟ لا نملك أموالًا كي ننزح وننجو بأجسادنا».
في ذات الحال السابق يعيش سليمان عبد القادر (30 عامًا)، لكن الرجل وهو جار الطفلة ريهام قرر مع عائلته النزوح من أريحا بعد وقوع المجزرة بحق جيرانهم، وحتى الآن لم يجد مكانًا يؤويه، خاصة أن بيته تضرر من القصف فيما هدم بالكامل بيت حماه، يقول عبد القادر: «تتعرض المدينة لغارات شرسة، تسقط أربعة صواريخ متفجرة دفعة واحدة على رؤوسنا، فيكون ضحاياها كلهم من المدنيين وغالبيتهم من الأطفال».
وعن يومه في هذا الحال، يقول عبد القادر وهو ناشط إعلامي: «قبل وقوع القصف يرتعب الصغار والنساء من صوت الطيران، وهذه الأيام يكون الخوف مضاعفًا فالجميع يتوقع أن يكون هو الهدف»، ويبين لـ«ساسة بوست»: «حين قصفت بناية سكنية بجوار منزل حماي خالد عيد، وسارعنا لتفقد حالهم، وجدت البيت مدمرًا بالكامل، لكنهم بفضل الله الكريم كانوا قد تمكنوا من الخروج مباشرة بعد قصف هذه البناية، خرجوا حفاة، والغبار يغطى أجسادهم ثم قصف منزلهم، وبسبب هذا القصف ما يزال طفلي ابن الثانية من العمر مفزوعًا للغاية، لا يتحمل أي صوت من حوله حتى لو صوت حركتنا من حوله».
لا ينسى عبد القادر تفاصيل المجزرة التي وقعت بحق جارهم محمود الحسن في 27 يوليو 2019، وعن فاجعة هذه العائلة وهي نازحة من بلدة سنجار (تقع الآن تحت سيطرة النظام)، يقول: «وجدنا طفلًا من هذه الأسرة وعمره 10 سنوات تقريبًا، وقد دخل منزلنا مرعوبًا من صوت الطائرة، وحين سألناه ما بك: أشار إلى البناية القريبة وقال أهلي كلهم ماتوا، استشهد أشقاؤه الأربعة وأمه، وكان هو وقت القصف قد ذهب للشراء من البقالة».
لماذا يصعد النظام حملته ضد إدلب؟
حين تدوي صفارات الإنذار في مناطق إدلب لتُحذر الناس من قصف جديد، يخرج الناس كالفراش المبثوث، يتخبطون ببعضهم البعض، يتجهون نحو الملاجئ، لكنهم يدركون أن الصاروخ أو البرميل المتفجر من السهل أن يصل إلى قاع الأرض حيث يختبئون.
هؤلاء العاجزون عن النزوح -لكون مناطق الشمال المحرر كلها أهداف للقصف الآن-، يصف حالهم الإعلامي السوري مهند اليماني (24 عامًا)، فيقول: «أرى هذه الأيام مشاهد قاسية للغاية حين أصل إلى مكان القصف، أرى أجساد الضحايا وقد بترت أطرافهم وخرجت أمعاؤهم وكسرت جماجمهم، وأرى أشلاء بدون معالم تدل على الهوية، يوميًّا نرى مشاهد لا يتخيلها عقل الإنسان».
يعمل اليماني في حالة طوارئ مستمرة كغيره من الإعلاميين والأطباء ورجال الدفاع المدني بأريحا، فهو في كل وقت على أهبة الاستعداد، ينطلق حين يسمع صوت القصف، ثم تخبره المراصد أين مكانه بالتحديد، فيذهب على وجه السرعة حاملًا الكاميرا، يقول اليماني إن من أصعب المواقف التي تمر عليه أن يقف على أنقاض المنازل المهدمة مع ذوي الضحايا خاصة من الأطفال الذين طمرهم القصف تحت الركام، يحبس أنفاسه على أمل أن يخرج الطفل من تحت الركام حيًّا يرزق كما يأمل أهله.
لكن في الغالب يُصدم الجميع بأن الجسد الغض قد خرج مفتتًا لم يحتمل أطنان الأنقاض ولا شظايا الصواريخ، ويضيف اليماني لـ«ساسة بوست» : «شهدت بالأمس عملية إنقاذ رجل نالت الشظايا من سيارته، وقد أخرج الرجل جثة متفحمة لا معالم لها».
رجلان من الدفاع المدني منهكان بعد عمل طويل من جراء الغارات (المصدر: شبكات التواصل الاجتماعي)
يهاب اليماني وكل سكان إدلب من أن تعود الطائرة وتقصف المكان قبل أن يُخلى من الجرحى والموتى والمنقذين، وهو أسلوب أصبح معهودًا من قوات النظام وحلفائهم، وقد زاد من عدد الضحايا في تلك الحملة، ويوضح اليماني: «يتبعون أسلوب الغارات المزدوجة، يقصف المكان ثم تغير الطائرة على مكان آخر، ثم تعود لضرب المكان الأول، لذا فقد وقع ضحايا من الدفاع المدني في تلك الحملة».
وتتعرض محافظة إدلب ومحيطُها لقصفٍ من النظام وروسيا، منذ نهاية أبريل (نيسان) 2019، إلا أن الأيام الأخيرة شهدت حملة مكثفة تستهدف المنازل والمرافق الطبية والمدارس والأسواق، تهدف للضغط على الفصائل وحاضنتها الشعبية، وخاصة في مناطق ريف إدلب الجنوبي، وريف حماة الشمالي المجاور.
ودفع الوضع السابق اليماني لأن يخرج من بيته في أريحا، ويعزو الإعلامي السوري شدة الحملة العسكرية التي تقتصر على الطيران إلى الفشل الذي ينال من هؤلاء في الجبهات الميدانية، فعدم تحقيقهم أي إنجاز عسكري بري يدفعهم نحو التوحش في ضرب المناطق المدنية بالطيران من أجل الضغط على الفصائل العسكرية للمعارضة.