لمدة 15 دقيقة من التصفيق المدوي، احتفى جمهور كان السينمائي بفوز فيلم «كفرناحوم» للمخرجة اللبنانية «نادين لبكي» بجائزة التحكيم في الدورة 71 من المهرجان. وفيما عبرت هي عن فرحتها بإطلاق (زغرودة شرقية)، سجل لبنان انتصارًا ثقافيًا بإظهاره واقع الطفولة المهمشة على أراضيه، وفضح العيش الذي يُحطِّم المهمّشين خاصة من الأطفال في لبنان، لكن المفاجأة كانت أن هذا الفوز الذى أسعد اللبنانيين، واجه هجومًا من قبل أنصار «حزب الله اللبناني» لأسباب عدة.
«كفرناحوم».. فيلم صغير يحقق إنجازًا كبيرًا
«لا يمكننا إهمال هؤلاء الأطفال الذين يعانون ويكافحون بقدر استطاعتهم في وجه هذه الفوضى التي تفشّت في هذا العالم»، هذا ما قالته المخرجة اللبنانية «نادين لبكي» عن فيلمها «كفرناحوم» الفائز بجائزة التحكيم في مهرجان (كان) الـ71، كما قالت لبكي: «هذا فيلم صغير أنجزناه في المنزل، لم يعد بإمكاننا أن ندير ظهرنا إلى مأساة الأطفال المشردين، ولكن لا أعرف ما هو الحل، يجب أن نفكر معًا».
تدور قصة الفيلم الذي حكت فيها لبكي عن الطفولة المعذبة والاستعباد المعاصر ومفهوم الحدود، حول طفل سوري لاجئ في لبنان، يدعى «زين الرافعي» ويبلغ من العمر 13 عامًا، وهو طفل لم يسبق له أن قام بالتمثيل، فقد لفت نظر معدي الفيلم بينما كان يلعب مع أقرانه في أحد الأحياء الشعبية ببيروت، وتعيش شخصية زين في الفيلم وسط عائلة فقيرة للغاية، فهو ينام في أقل من نصف متر مربع مع أخواته، ويفتقدون إلى أسياسيات الحياة، كما أن أبناء العائلة غير مدرجين في السجل الرسمي لدولة، لذلك يضطر الفتى للعمل لدى «أسعد» الذي يملك محلًا تجاريًّا صغيرًا لبيع الدواجن في ذات الحي.
ورغم أن زين يتعرض للضرب والتسرب من المدرسة بسبب والديه، لكن مأساته تتفاقم حين يجد والديه قد أقدما دون أدنى شعور بالذنب على تزويج شقيقته ذات الحادية عشرة سنة، فقد كان إقدام «أسعد» على خطبة «سحر» وهي الشقيقة الأقرب لقلب زين، صادمًا لحد دفعه للهروب من عائلته، فتشرد زين حتى التقى بالسيدة الإثيوبية «رحيل»، وهي عاملة في لبنان ولديها طفل يدعى «يوناس»، يضطر زين إلى الاهتمام به عندما يجد نفسه وحيدًا معه، فيما تسعى أمه لخوض معركة الحصول على أوراق إقامة رسمية للطفل، فتتعرض لكل أشكال السلب والاستغلال، لكن زين لن ينسى في هذا الوقت سحر، فيقرر الثأر لها، حيث يوجه نداء عبر التلفزيون فتهرع محامية التي تؤدي دورها «لبكي» للدفاع عنه.
وكي تكون أقرب ما يكون لشخصيات الفيلم، قامت لبكي بزيارة سجون أحداث ومناطق عشوائيات وإصلاحيات في لبنان، وتبادلت الحديث مع الأطفال، واختارت أن يكون أغلب الممثلين في الفيلم غير محترفين، حتى تكون خطوط التصوير عفوية، وتأثيراتها واقعية لحد كبير.
تقول لبكي: «الأشخاص الذين شاركوا في هذا الفيلم لم يمثلوا، بل عكسوا واقعهم الأليم، واستطاعوا إيصال رسالة إلى العالم، وإن ردة الفعل عند مشاهدة الفيلم أكدت أنه سينال السعفة الذهبية»، ثم تابعت القول: «للسينما دور كبير ومهم في إيصال وجع الناس وألمهم على المستوى العالمي»، أما بعد إعلان النتيجة وإطلاقها زغرودة شرقية في المهرجان، فقالت: «السينما ليست فقط للترفيه وللحلم بل للمساعدة والتفكير والطفولة المهمشة، واللاجئون السوريون، وعاملات المنازل من إثيوبيا والفلبين المهضومة حقوقهن، وزواج القاصرات. كل هذه المواضيع جمعت في الفيلم فكان حقًا كفر ناحوم بمعنى فوضى عارمة».
لماذا هاجم أنصار «حزب الله» فوز «كفرناحوم»؟
«ماذا عن الأثرياء الذين (واللواتي) ينتزعون الأطفال الفقراء ويطيرون بهم إلى عواصم الغرب يستعرضونهم طمعًا في جوائز الرجل الأبيض»، كان هذا هو الـتساؤل الذي طرحه الكاتب في جريدة الأخبار «أسعد أبو خليل» ضمن موجة الاعتراض والتبخيس من قبل أنصار «حزب الله اللبناني» التي رأى البعض أنها جاءت للتصدي لموجة التهاني اللبنانية للبكي على ما حققت من إنجاز في مسيرة السينما اللبنانية على مستوى العالم.

خلال تصوير الفيلم (المصدر: موقع رصيف22)
هذه الحملة بدأت بمهاجمة مذيعة تعمل في قناة (المنار) التابعة للحزب هي «منار الصباغ»، فقد وصفت الفرحين بفوز الفيلم بـ(أبناء فينيقيا) وكتبت: «بمناسبة الإفراط بالحديث عن الشخصيات التي ترفع رأس لبنان عاليًا لجائزة أو مسابقة أو تحدٍ ما.. يا معشر المثقفين. أبناء فينيقيا منهم تحديدًا. هذه الصور لشهداء اليوم الأول من معركة القصير 2013. قبلهم وبعدهم ارتقى كثير من قديسينا الشهداء.. باعتقادي لبنان يكفيه هذا المجد لقرون».
كذلك انضم إلى حملة «الكورال المقاوم» كما سماها الإعلام اللبناني المعارض لحزب الله، النائب المنتخب مؤخرًا «نواف الموسوي»، فقد غرد قائلًا: «بلا لبكي، بلا وجع راس: وقت الجدّ ما فيه غير سلاحك بيحميك»، وتابع «موعظته» بالقول: «المعترض على بلا وجع راس وأختها، هلّا سمّ لي أسماء الأفلام التي تتناول المقاومة، أيّ مقاومة عربية كانت، ونالت جائزة غربية».
ويعد هذا الهجوم مضمرًا على الفيلم ورسالته الإنسانية، حيث ينظر بعض أنصار الحزب إلى مشاركة أطفال سوريين في الفيلم على أنها تساهم في تبديد مقولاتهم أن اللاجئين السوريين في لبنان ما هم إلا «دواعش»، أو مجرمين، كما شعر أنصار الحزب أنّ العمل يحمل في طياته اتهام للحزب بالمساهمة في تشريد السوريين، ويرى المتابعون اللبنانيون أن «هذا الموقف ينطوي على عدائية مغلّفة تجاه رسالة الفيلم، وفيه يستعير أنصار حزب الله الشهادة ثم يضعونها في مواجهة مع مأساة اللاجئين والمهاجرين، بغية احتكار المجد وتلزيمه معايير معيّنة».

بوستر فيلم كفرناحوم
ويرى هؤلاء أن لبكي وقعت فيما اعتبروه «خطيئة» حين تحدثت عن أطفال ليسوا ضحايا في ثقافة الممانعين، لكون الكرامة بالنسبة لهم فقط هي الموت في (طريق القدس)، تقول الصحافية اللبنانية «نسرين مرعب»: «نادين لبكي اليوم أمام محاكمة، وعليها أن تحرق الجائزة، وأن تحرق كل ما أخرجته من أفلام، وأن تبحث بين قصص مقاتلي حزب الله، عن قصة مقاتل قتل طفلًا سوريًا؟ أو احتل منزلًا في الطفيل أو القصير؟».
وتابعت القول في موقع «جنوبية» اللبناني: «أن تبحث عن قصص دماء وبطون الزبداني ومضايا الفارغة بفضل حصار الممانعين المقاومين؟ أن تبحث عن سوريا المدمرة بسبب حروب الوكالة؟ وأن تنقل كل هذا المشهد بجمالية الانتصار.. حينها فقط ستصفق منار الصباغ، سيفتخر أسعد أبو خليل، وسيكرمها نواف الموسوي»، أما الإعلامية اللبنانية «بهية سكافي» فذكرت: «هي ليست المرة الأولى التي يقوم فيها حزب الله بتأكيد تمسكه بالسلاح وبثقافة التقوقع وعزل لبنان عن محيطه، طبعًا بحكم أن الحزب أصبح يعتبر بيروت العاصمة الرابعة لإيران وبالتالي يجوز له شرعًا أن يفرض سلاحه وسياساته وثقافته على كل الفينيقيين»، وتضيف: «خصوصًا وأن حزب الله يَبرع في سياسة تصنيف البشر بين ممانع موالٍ للحزب وبين خصم عدو متآمر لأنه مثلًا دافع عن بطون رُضّع بلدة مضايا الفارغة بفعل الحصار الذي فرضه عناصره على تلك البلدة السورية».
لبنان ليست نانسي وهيفاء فقط.. ماذا تعرف عن القمع والتعذيب هناك؟
لبكي.. تعيد للبنان مجد الفوز العالمي
«مبروك للمخرجة نادين لبكي وكل طاقم فيلم كفرناحوم الفوز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي. كل لبنان يفتخر بنجاحك يا نادين»، هذا ما قاله رئيس الوزراء اللبناني «سعد الحريري» مهنئًا لبكي على إنجازها.

المخرجة نادين لبكي مع بطل الفيلم زين (المصدر :جيتي)
بعيدًا عن المشاكل الداخلية التي يعيشها لبنان من انتشار النفايات وأزمة كهرباء وانقطاع المياه وكذلك البطالة وغيرها من المشاكل، جاء فوز «كفرناحوم» ليشكّل نافذة فرح لدي قطاع كبير من اللبنانيين، ودليلًا أن لبنان ما يزال مبدعًا ولدى أبنائه الكثير من الإمكانيات التي باستطاعتها المنافسة على المستوى العالمي، وبالفعل تمكنت مجموعة مؤسسات لبنانية متخصصة بالأفلام من تعزيز حضور المنتج اللبناني ضمن المسابقات العالمية، مدفوعة بتلبية الطلب على الأفلام العربية الذي زاد بشكل عام منذ اندلاع الثورات عام 2011، كما خرج اللبنانيون بأفلام تتحدث عن صراع طائفي أو ديني، وهي قضايا يعنى بها الأوروبيين.

خلال استلام الجائزة
وتعد مشاركة الفيلم هي أول مشاركة لبنانية منذ العام 1991، فقد حصل المخرج اللبناني «مارون بغدادي» على جائزة لجنة التحكيم عن فيلمه «خارج الحياة» في هذا العام، فيما تعد لبكي رابع مخرجة لبنانية (وثاني امرأة) تشارك ضمن المسابقة الرسمية بعد كل من جورج نصر بفيلمه «إلى أين» عام 1957، وهيني سرور بفيلم «ساعة التحرير دقت»، وشاركت لبكي في كان أول مرة عام 2007 بفيلمها الذي حمل عنوان «كاراميل»، ثم شاركت بعد أربع سنوات بفيلم «هلأ لوين» في مسابقة «نظرة ما» التي تعتبر أدنى بدرجة واحدة من المسابقة الرسمية، أما في العام 2015، فقد أصبحت جزءًا من لجنة تحكيم المسابقة الخاصة.