في الحرب على الفساد ليس هناك خيار.. إما الفساد أو الدولة.. وإما الفساد أو تونس.. وأنا مثل كل التونسيين اخترت الدولة واخترت تونس.. أريد أن أطمئن كل التونسيين بأن الحكومة متحملة لمسؤولياتها وستخوض المعركة على الفساد حتى النهاية، وأطلب من التونسيين أن يكونوا متحدين في هاته المعركة، ومعًا نقف لتونس. *يوسف الشاهد رئيس الحكومة التونسي.
كان هذا التّصريح الذي رافق أوّل ظهورٍ إعلاميٍّ لرئيس الحكومة التونسي، يوسف الشاهد، 42 سنة، بعد الإعلان عن حملة إيقافات متزامنة شملت عددًا من أباطرة التّهريب، الذين لم تكن أنشطتهم، ولا ثرواتهم المتأتية من أنشطتهم، خافية على أحد.
الحملة التي باغتت الجميع
لم يكن يوم 23 مايو (أيار) الماضي كغيره من أيام تونس ما بعد الثورة؛ ففي خضمّ أعلى درجات الاحتقان الاجتماعي والسياسي، أعلنت وسائل الإعلام عن خبر اعتقال «شفيق جراية»، أحد أبرز رجال الأعمال الذين بنوا إمبراطورياتهم المالية عبر التّجارة الموازية والتهريب. ولم تكد تمر بعض السّاعات حتّى تم الإعلان عن اعتقال المُرشّح السابق للانتخابات الرّئاسية ورجل الأعمال «ياسين الشّنوفي»، وهو عون جمارك سابق قبل أن يتحوّل لأحد أثرياء تونس.
اقرأ أيضًا: «شفيق جراية».. الذي أعاد واجهة رجال الأعمال إلى السلطة في تونس بعد الثورة
حملة الاعتقالات التي أتت على حين غفلة، تواصلت وسط صمت حكوميّ طال ثلاثة أيام، لترتفع قائمة الموقوفين وتبلغ 10 من أبرز أباطرة التّهريب، ولتتزايد الأسئلة حولها، خاصّة وأن لم يكن أحد – باستثناء الفريق الحكومي، وربما لم يعلموا بالكامل أيضًا – يعلم ما الذي يحدث.
انتظر التونسيون أكثر من 24 ساعة ليتم إعلامهم رسميًّا على لسان رئيس الحكومة – في تصريحٍ مقتضب – بأن الأحداث المُتسارعة تندرج ضمن سياسة الحكومة المُوجّهة لمحاربة الفساد الذي أصبح يُهدّد كيان الدّولة.
اقرأ أيضًا: الحكومة تريد تشريعه.. كيف استشرى فساد أسرة «بن علي» بعد الثورة التونسية؟
السياق والظّرفية
في الحقيقة؛ لم تُربك هذه الحملة المُتورّطين في الفساد والتّهريب، والذين بلا شكّ ظلوا يترقّبون دورهم فحسب، بل أربكت جُلّ المُتابعين للشأن العام في تونس من محلّلين وساسة وباحثين: شُحّ المعلومات وغياب المُقدّمات المنطقيّة لمثل هذه الحركة وهذه الرمزية، خاصّة باعتقال «جرّاية» أحد ممولي حزب «نداء تونس» وأحد النّافذين فيه، بحسب روايات الكواليس. فتح الباب على مصراعيه لسيلٍ من القراءات والتحليلات التي انطلقت من جملة السياقات والظّرفيات التي حصلت في ظلها، وحاولت أن تجد رابطًا سببيًّا بينها.
1- تصاعد الأصوات المُنادية بمحاربة الفساد
تزامنت الفترة التي سبقت حملة الاعتقالات مع تصاعد الأصوات المُنادية بضرورة خوض الحرب على الفساد الذي أنهك الاقتصاد التونسي واستوى في ذات المرتبة من ناحية تهديده لكيان الدّولة مع الإرهاب والتّطرّف.
وفي هذا السياق، قال «شوقي الطبيب» رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (مؤسسة عمومية مستقلة)، إنّ تخصيص ميزانية بقيمة 100 مليون دينار لصالح الهيئة هو بمثابة الاستثمار في مكافحة الفساد الذي سيمكِّن من استرجاع 10 مليار دينار سنويًا كعائدات مباشرة لميزانية الدولة.
وطالب شوقي الطبيب، في تصريحٍ إعلاميٍّ، على هامش ندوةٍ علمية حول أهمية دور مجلس المنافسة في التصدي للفساد بمناسبة إمضاء اتفاقية شراكة بين الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ومجلس المنافسة، إلى ضرورة أن تتحمل الحكومة مسؤوليتها في دعم الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والسلطة القضائية ودائرة المحاسبات، وكذلك دعم كل هيئات الرقابة.
وذهبت بعض الأصوات الأخرى لاتهام الحكومة بالتواطؤ مع الفساد والتّغطيةِ عليه، خاصّة بالتّزامن مع إعادة طرح قانون المُصالحة الاقتصادية للمرّة الثالثة من طرف الرّئيس التونسي «الباجي قائد السبسي»، والذي يهدف لإيجادِ تسويةٍ مع رجال الأعمال وكبار مُوظّفي الدّولة المُتعلّقة بهم ملفات فساد، يتم بمُقتضاه التفاوض حول مبالغ يُرجعها المُورّطون مُقابل إغلاق ملفاتهم نهائيًا.
2- تقرير «crisis group» حول تونس
من جهتها؛ أصدرت منظمة «مجموعة الأزمات الدولية – Intrenational Crisis Group» يوم 10 مايو (أيار) 2017 تقريرًا عن الوضع في تونس تحت عنوان «الانتقال المعطَّل: فساد وجهويات في تونس». وخلص التقرير إلى أن حوالي 300 «رجل ظلّ» يتحكمون في أجهزة الدولة في تونس، ويعرقلون الإصلاحات، وبأنّ بعضهم يعطِّل تنفيذ مشروعات تنموية بالمناطق الداخلية، ويحرك الاحتجاجات الاجتماعية فيها.
وتحدَّث التقرير أيضًا عن مظاهر الإثراء من خلال المناصب السياسية والإدارية وعن المحسوبية والسمسرة التي أصبحت تنخر الإدارة والطبقة السياسية العليا في الأحزاب وفي البرلمان، الذي تحوّل إلى مركز التقاء لشبكات السمسرة، وفق توصيف التقرير.
وأشارت المنظمة إلى أن تونس تعيش في ظل «منظومة مافيوزية» وأن الفساد بلغ مستوياتٍ خطيرة، خصوصًا في وزارة الداخلية والجمارك والقضاء، وأن «رجال الظلّ» يحركون خيوط اللعبة في الكواليس؛ للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية، ويؤثرون في الإعلام والسياسية على حدٍ سواء.
3- «فاجعة الكامور» واتساع رقعة الاحتجاجات
ونحو الجنوب من العاصمة، كانت محافظة تطاوين تعيش على وقع تصعيد شباب المدينة المُحتج على غياب التنمية والمُطالب بالتّشغيل؛ تصعيدٍ بلغ حدّ قطع الطريق المُؤدّي للمنشآت البترولية في المدينة، وهو ما عطّل حركة تنقُّل الشاحنات في مرحلةٍ أولى، ثم تطوّر نحو الإنتاج في مرحلة لاحقة بعد وصول المُفاوضات بين الحكومة والمُحتجّين إلى طريقٍ مسدود.
اعتصام الكامور، والذي تعود تسميته نسبة للمسلك الفرعي الكامور، الذي تعتمده شركات التنقيب على البترول لتزويد المحطات ونقل البترول، والذي مثّل حالة نضج مُميّزة للحراك الاحتجاجي في تونس من خلال مُحافظته على سلميته وتطوير أساليب تفاعله مع السّلطة، شهد حالة تطور دراماتيكية دفعت البلاد نحو أقصى درجات الاحتقان، فبعد أن كان التونسيون ينتظرون إتمام الاتفاق بين الحكومة والمُحتجين، تمَّ الإعلان عن فشل المُفاوضات والتّصعيد من خلال التوجّه لأحد الآبار البترولية وإغلاق خط الإنتاج، قبل أن تُحاول الحكومة فض الاعتصام لتندلع اشتباكات انتهت بمقتل الشاب أنور السكرافي دهسًا يوم 22 مايو (أيار).
ومثّل خبر مقتل أحد المُحتجّين نقطة تحوّل حادّة في مسار الأحداث، حيث توسّعت رقعة الاحتجاجات في باقي مناطق البلاد وشهدت محافظة تطاوين حرق مقرات أمنية والمستودع البلدي، لتجد الحكومة نفسها أمام حالة من الغضب الشعبي المقترن بقلق من مآل الأمور، خاصّة وأن محافظة تطاوين هي محافظة حدودية وتقع على الحدود التونسية الليبية، مع كل ما يعنيه ذلك من ثقلٍ أمني.
اقرأ أيضًا: الثورة على شركات النفط.. لماذا تعجز الحكومة التونسية عن تلبية مطالب المحتجين؟
4- مشاركة الباجي قائد السبسي بمؤتمر الرياض
ومن بين الأحداث التي لم تتركها بعض القراءات تمرُّ دون الاتكاء عليها كمدخل من مداخل فهم هذه الحرب المُفاجأة على الفساد، مُشاركة الرّئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، في أشغال القمة العربية الاسلامية الأمريكية، والتي انعقدت في الرّياض.
القمّة التي كان نجمها الرّئيس الأمريكي «دونالد ترامب»، والتي خاضت جهرًا وسرًا في ملفاتٍ تخص الشرق الأوسط، تنبّأ البعض بأنه كان لها تأثير لما حصل في تونس، خاصّة بعد الأحداث اللاحقة التي شهدتها منطقة الخليج العربي في علاقته بقطر.
تفاعل التونسيين مع الحملة على الفساد.. بين مُرحّب ومحترز
تباينت آراء التونسيين حول حملة الاعتقالات بين مرحبين ومؤيدين لها من جهة وبين متحفظين ومحترزين من جهة أخرى، سواء على المُستوى الرّسمي للأحزاب والمُنظّمات أو حتى على المُستوى الشّعبي من خلال ردود الفعل التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي.
فبينما طالب البعض بضرورة مساندة «يوسف الشاهد» رئيس الحكومة، في الخطوة التي أقدم عليها بغية تثبيته في هذه الحرب التي لن تكون سهلة؛ اعتبر البعض الآخر أنّ الشاهد أقدم على هذه الخطوة لإنعاش حكومته الغارقة في وحل الحركات الاحتجاجية المُطالبة بالتنمية، ولتحويل مركز اهتمام الرأي العام من الكامور وشهيدها السكرافي نحو القصبة (مقر الحكومة بتونس العاصمة) من جديد.
وذهبت بعض التحليلات لاعتبار أن حملة الشاهد كان هدفها «شفيق جراية» تحديدًا، وهو ذو العلاقة المتينة مع زعيم حزب الوطن ورجل الأعمال الليبي «عبد الحكيم بالحاج»، في إطار إملاءات خارجية بُلّغت لقائد السبسي خلال قمّة الرّياض، وأنّ بقية الأسماء التي تضمّنتها القائمة كانت للتغطية لا غير.
وبالرغم من هذا الانقسام على مُستوى ردود الفعل؛ استبشر السّواد الأعظم من التونسيين، حتى أولئك الذين لا يثقون في جدّية الحكومة في حربها على الفساد، بهذه الاعتقالات التي اعتبرت بمثابة إعادة الأمل في دولة استقوى عليها أباطرة الفساد وأصبحوا لا يُخفون تدخّلهم في الحياة السياسية وفي وسائل الإعلام، بل يتبجّحون بذلك.
هل أمّن يوسف الشاهد مكانه إلى حدود 2019؟
تعاقبت على تونس منذ ثورة 17 ديسمبر (كانون الثاني) – 2010 – 7 رؤساء حكومة خلال سبع سنوات، وأصبح من تقاليد العملية السياسية في الجمهورية التونسية الثانية تغيير الحكومات مع كل انسدادٍ للأفق وتراكمٍ للمشاكل.
وحتّى وقتٍ قريب؛ تكثّفت التّصريحات والتّلميحات المُشيرة إلى انتهاء صلاحيّة «وثيقة قرطاج»، وهي اتفاقٌ سياسي أشرف عليه قائد السبسي، وكان من ثماره حكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها يوسف الشاهد، وأنّ هذه الحكومة أخفقت هي والمنظومة التي أفرزتها في تحقيقِ المنشود منها، وبلغ الأمر حدود المُطالبة بحكومة كفاءاتٍ تقنية غير متحزّبة «تكنوقراط» يُعهد لها الإعداد للانتخابات البلدية المُزمع عقدها أواخر هذه السنة أو بداية السنة المُقبلة.
يُمكن القول أن يوسف الشاهد بحركته المُفاجئة نجح في إطالة أنفاس حكومته، وهو ما تجلّى في انخفاض كل الأصوات التي كانت تُطالب بتغيير الحكومة. وأيّا كانت حساباته السياسية، وأيا كان مُستوى صدق إصراره على مُكافحة الفساد؛ فإنّه سجّل نُقطة ثمينة أضافها لرصيده السياسي وضَمِنَ ذكر التّاريخ له بأنه تجرّأ على ما لم يتجرّأ عليه سلفه من رؤساء الحكومات السابقة.
في المُقابل، وبالنّظر لحجم الآمال التي علّقها التونسيون على استفاقة مارد الدّولة في وجه أرباب الفساد، سيكون على الشّاهد تجنّب تحطّم هذه الآمال على صخرة الرّجوع على الأعقاب والتّراجع عن تصريحه الذي خرج به قائلًا: «إمَّا الفساد أو الدولة.. وإما الفساد أو تونس.. وأنا مثل كل التونسيين: اخترت الدولة، واخترت تونس».
صحيح أنّ الشاهد نجح في إطالة أنفاس حكومته، لكنّه وضع مستقبله، وهو الذي لا يزال المُستقبل أمامه بحكم سنّه، في الميزان، وإن كان له طموحٌ للعِبِ أدوارٍ سياسية أخرى في المُستقبل، سيكون عليه أن يصدُق في وعوده، وأن يمضي في حربه على الفساد حتى النهاية، كما قال، لأن ذاكرة الشعوب ضعيفة، لكنّها لا تغتفر أبدًا خيبات الأمل.