بين تربية الدواجن، والإشراف على ورشة لأعمال الحصاد والزراعة، وبين بيع القهوة والشاي في الشارع، تجمعت خيوط ثلاث قصص لثلاث نساء سوريات في مدن مختلفة، تجمعهن المعاناة والصمود في وجه أزمة اقتصادية، وحرب أخذت منهن أحباءهن ورمت بظلالها القاسية على أخريات، هذه القصصة للسيدات: وداد، وأم يوسف، وأم نسيم، الوجه الآخر لسوريا ولمقاومة نسائها للحياة القاسية.

السيدة وداد.. الكفاح في «تربية الدواجن» حتى السفر 

بعد وفاة زوجها عام 2016 كان على السيدة وداد ماهر التي تقطن قرية «زيدل» في مدينة حمص، تأمين حياتها وحياة ابنتيها، كانت تساعد زوجها قبل وفاته في تربية الدواجن ضمن حظائر مخصصة لها، وبسبب الوضع الاقتصادي السيئ قررت المتابعة في العمل الذي تركه زوجها.

نساء سوريا

كانت تربية الفوج الأول من الدواجن صعبة للغاية لأنها ربت الطيور بمفردها، وفي مواجهة مسؤوليات عديدة تتعلق بالمعدات وشراء الأعلاف والأدوية والتواصل مع التجار، وكانت تربية الفوج تستغرق 45 يومًا، ثم تبيعه لترتاح ما بين 10 و15 يومًا تعود بعدها لتربية الفوج التالي.

حاولت السيدة وداد الاستعانة بأصدقاء زوجها من المربين والحصول على نصائحهم إلّا أن ردة فعلهم كانت صادمة إذ نصحوها بالتخلي عن هذا العمل وعدم الخوض فيه بحسبها، إذ تعد مهنة تربية الدجاج اللاحم في المداجن واحدة من المهن الخاصة بالرجال في سوريا، ودخول نساء سوريات إلى هذا المجال هو تحدٍ حقيقيّ، نظرًا لما يتطلبه من قدرات جسدية في حمل الأوزان الثقيلة مثل أكياس العلف والحطب، لكن السيدة وداد صممت على القيام بكل هذا، بمساعدة ابنتيها.

وظهرت الصعوبات تباعًا، كان أولها التواصل مع العملاء لجلب العلف أو الدواء، إذ ماطلها التجّار بذريعة إلحاحها في اتصالاتها، بينما كان هدفها هو إنهاء عملها في الوقت المحدد، وإلى جانب ذلك واجهت السيدة وداد المزيد من الصعوبات، فالمسافة ما بين المدجنة والمنزل بعيدة، وهناك ضرورة التواجد ليلًا لمراقبة الصيصان (الكتاكيت).

وبعد تربية فوجين بحثت عن عامل لمعاونتها، لكن من الصعب التعامل مع أي رجل غريب في ظل الظروف الأمنية في سوريا، لا سيما أنها وحيدة مع بناتها، فكان من العسير اختيار الشخص المناسب، ولهذا السبب استبدلت السيدة وداد الكثير من العمال لأنها لم تكن راضية عنهم لأسباب مختلفة.

عربي

منذ سنتين
«بيزنس النظام والمهربين».. ماذا يحدث لو أردات امرأة الهرب من «سوريا الأسد»؟

ليست هذه الصعوبات الوحيدة التي واجهتها السيدة وداد، فرغم كلّ ما فعلته لم تستطع إقناع تجّار السوق بجديّة عملها، فعندما تتفق مع أحد التجار الذي سيشتري الفوج، كان يماطل رغم وعوده بأنه سيأتي في اليوم التالي وكلّ يوم يمضي دون بيع الطيور يعني خسارة لها، إلى أن تلجأ إلى أبناء أخوتها ليتصلوا بالتاجر ليأتي بالفعل في الوقت المحدد، متسائلةً: «لماذا عندما يتصل به ابن أخي يأتي، وعندما اتصل به أنا لا يأتي رغم أنني صاحبة الرزق والعمل وأنا من تعبت في التربية؟»

بعد تربية ثلاثة أفواج بمساعدة بناتها، انتقلت ابنتها في دراستها إلى الشهادة الثانوية، وبالتالي أضحى عليها التفرغ تمامًا للدراسة، أما ابنتها الثانية فترفّعت إلى السنة الخامسة في دراسة الهندسة الغذائية ولم تعد وداد قادرة على الاعتماد عليهن، وبدأت رحلة البحث عن العامل المناسب ليساعدها والذي كان يتغير تقريبًا مع كلّ فوج جديد، لأسباب عديدة.

قررت السيدة وداد لاحقًا الهجرة هي وابنتاها إلى أوروبا بعدما باعت كلّ ممتلكاتهن، أمّا سبب هجرتها فهو خسارتها الدائمة في العمل نتيجة ارتفاع أسعار العلف والتكلفة، بالإضافة إلى ضغوط المجتمع حولها الذي كان يراها غير قادرة على العمل والنجاح، فشعرت باليأس وبأنها لا تزال في مكانها رغم كل ما بذلته من جهد.

 وكان السبب الآخر للهجرة هو البحث عن مستقبل أفضل لبناتها، فالصغرى حصلت على الدرجة الكاملة في امتحان الشهادة، ومستقبلها في أوروبا أفضل، أما ابنتها الكبرى فبقيت بلا عمل بعد تخرجها من الهندسة الغذائية، مما اضطرها للعمل عند طبيب أسنان لمساعدة أمها وأختها، كل هذه الظروف الصعبة وبخاصة أن منزلها بعيد عن القرية، مع شعورها الدائم بعدم الأمان والراحة دفعها لترك سوريا.

 تقول السيدة الخمسينية لـ«ساسة بوست» إنها رحلت لأنها لم تستطع إثبات نفسها في هذا المجتمع رغم بذلها جهدًا جبارًا، وأنها فعلت كل ما في وسعها بالفعل لكنها لم تستطع ترك بصمة أو حتى التعامل معها بجدية، تضيف: «لم أستطع البقاء في بلدي وأنا أشعر بعدم الراحة، فلجأت إلى مكان أرتاح فيه» تتمنى السيدة وداد تركَ بصمة في البلد الجديد، أو أن تترك بناتها هذه البصمة التي حرمتها سوريا منها.

أم نسيم.. رئيسة ورشة العمال

بدأت أم نسيم (رويدة مكارم) منذ خمس سنوات في العمل رئيسة ورشة تضمُّ عددًا من العمال والعاملات الذين يقومون بأعمال زراعية من قبيل قطف الزيتون والتفاح، ومدّ شبكات الري والتعشيب وتنظيف الأراضي من الحجارة والصخور، وتسبب ألم في ظهرها في خضوعها لعملية أسفرت عن تركها الجامعة، كانت تعيش سابقًا من خلال حياكة الصوف لتنتقل إلى بيع الخبز، كما عملت في ذبح وتنظيف الدجاج. 

Embed from Getty Images

نساء سوريات في مجال الزراعة

ومع بدأ موجة النزوح في خضم الحرب الأهلية، قدم بعض النازحين من قرية العتيبة الواقعة من مدينة دوما، إلى قرية أم نسيم (عمرة) في شمالي مدينة السويداء والذين قاموا بتأسيس ورشة للعمل خلال المواسم الزراعية، وبعد رحيلهم بقي المكان فارغًا، فقررت أم نسيم أخذ مكان الورشة السابقة وجمع بعض عدة رجال سوريين ونساء سوريات الذين يودون العمل والإشراف على الورشة بنفسها.

 شجعها ابنها على هذه الخطوة، فيما رفض زوجها في البداية عملها رئيسة ورشة، وخيّرها بينه وبين العمل، لكنها استمرت في إقناعه إلى أن أصبح يساعدها في الإشراف على الورشة من وقت لآخر، فقد كانت تقول لزوجها: «انتظرت 20 عامًا لعلّ الأوضاع تتحسن، إلى متى سأنتظر بعد؟ يجب أن أعمل»

 وتضم ورشة أم نسيم حاليًّا رجالًا وشبابًا صغارًا من الذين يسعون إلى العمل إلى جانب دراستهم، إلى جانب عدة نساء سوريات تمتلك كلٌّ منها قصتها الخاصة ومعاناتها التي تدفعها إلى هذا العمل القاسي، أما عن عمل الورشة فلكل موسم شروط عمله الخاصة ففي موسم حصاد القمح والشعير وغيرها من المواسم، تستيقظ في الثالثة فجرًا، بينما تحضّر الطعام ليومها الشاق قبل قدوم السيارة لنقلهم إلى مكان العمل، وتعود برفقة عمالها حوالي الساعة 11 صباحًا.

وفي موسم قطاف مشاريع البندورة (الطماطم) والباذنجان وسواها من الخضار تذهب أم نسيم برفقة عمال ورشتها حوالي الساعة الخامسة فجرًا، ويعودون حوالي الثانية ظهرًا، أما أصعب الأعمال التي تصادفها فهي تلك التي تتضمن الحفر والحفر بالمعول والتعشيب خاصة حين تكون الأعشاب الضارة ضاربةً جذورها في الأرض، وتحتاج جهدًا جبارًا لنزعها، أما أسهل الأعمال فهي قطف أشجار اللوز والزيتون بالإضافة إلى أن مردودها الماديّ أفضل من غيره.

تقول أم نسيم لـ«ساسة بوست» إن الصعوبة الكبرى تتمثل في طبيعة العمل نفسها، إذ يؤدي العمال مهامًا شاقة، وخاصة إذا كن نساء سوريات، لكن ما يجعل العمل أكثر سهولة هو الروح المعنوية العالية التي تحاول بثها في عمالها، وجو المرح الذي تخلقه، فهي تشعر أن الجو المتوتر يزيد صعوبات العمل ويغدو أداء العمال أضعف. 

لأم نسيم طريقتها في التعامل مع العمال فهي قادرة على استيعابهم، على عكس زوجها، فحين يذهب بدلًا عنها تحصل العديد من المجادلات والشجارات بينه وبين العمال، لكن الصعوبة الأكبر هي التعامل مع أصحاب الأراضي والمشاريع والذين تختلف طباعهم في كلّ يوم.

 فبعض أصحاب المشاريع طباعهم صعبة، وتحاول السيدة رويدة تجنب الشجار دائمًا، وفي أحيان أخرى تتشاجر معهم خاصة حين يعاملون العمال بطريقة متعالية أو يشتمونهم، تقول: «لا أسمح أن يُنعَتُ عامل لدي بالحمار».

 نوعية البشر المتبدلة في كل يوم تدفع أم نسيم لتغيير طريقة التعامل مع كل ربّ عمل جديد وإيجاد المفاتيح الخاصة بأرباب العمل الذين يأبون في بعض الأحيان دفع ما يتوجب عليهم.

 من جهة أخرى فهي صلة الوصل المباشرة بين طرفين، لكلّ منهم هدف مختلف فمن جهة يجب إقناع العمال أن عملهم سهل والأجر جيد ليتمكنوا من متابعة الأعمال الشاقة، ومن جهة أخرى يجب أن تقنع أصحاب العمل أن العمل شاقٌ والأجر مقابله أكثر مما يودون دفعه، وتحاول السيدة رويدة التوفيق بين الجهتين قدر المستطاع، في بعض الأحيان تقبل الورشة بأجور أقل مما تتقاضاه باقي الورشات فقط ليحاولوا مجاراة صعوبات الحياة واحتياجاتهم اليومية.

 فرغم كلّ الجهد الذي تبذله أم نسيم برفقة ابنها، فإنها تدرك في نهاية اليوم أن كلّ ما حصلت عليه جرى صرفه على احتياجاتهم اليومية بالفعل، فلا وجود لدخل ماديّ قويّ تستطيع من خلاله جمع بعض المال لـ«الأيام السوداء» حسب تعبيرها، لتنهي أم نسيم حديثها مازحة: «أصعب شي بالشغل هو بس نفيق ونحن عم نضرب من النعس بالحيطان، لليوم ما تعودت ع الفيقة بكير».

أم يوسف.. بائعة الشاي التي صارت معْلَمًا لـ«باب توما»

من في سوريا لا يعرف أم يوسف بائعة القهوة والشاي في ساحة باب توما بالعاصمة دمشق؟ من لم يرَ الفان الصغير الخاص بها نوع الـ«فولكس فاجن»، القديم والباهت، بإطاراته فارغة من الهواء، حيث اعتاد الكثيرون المرور واحتساء مشروب ساخن.

 Embed from Getty Images

باب توما في العاصمة السورية دمشق

تقضي أم يوسف معظم وقتها في حديقة باب توما تتبادل الأحاديث مع الأصدقاء الذين عرفتهم عبر سنوات عملها الطويلة، باتت اليوم أم يوسف حالة خاصة في ساحة باب توما وكأنها مَعْلمٌ من معالم المكان ونقطة التقاء الذين أبرموا موعدًا أو جمعتهم الصدفة.

لم يخطر لأم يوسف يومًا وهي واحدة من النساء السوريات العمل في بيع القهوة والشاي، كانت تعمل مربية، تترك الجارات أطفالهن لديها خلال ذهابهن للعمل مقابل أجرٍ ماديّ لكن وبعد بدء الحرب لم تعد تتجرأ العائلات على ترك أطفالها خلفها خاصة مع سقوط القذائف، وبعد فقدان الدخل من تربية الأطفال وخلال وجودها في السوق، وجلوسها للراحة في أحد المقاهي الشعبية، رأت بعض النادلات اللواتي يعملن، ففكرت حينها لم لا تعمل في بيع القهوة والشاي؟! 

توفي ابن أم يوسف الأصغر بمرض السرطان، بينما استشهد ابنها الآخر منذ حوالي الست سنوات بقذيفة هاون سقطت في ساحة باب توما، حيث كانت تعمل وتعد فنجانًا من القهوة لأحد زبائنها بينما كان ابنها جالسًا في مكانٍ قريب، توفيت كذلك الزبونة التي كانت تنتظر فنجان القهوة وترتاح على أحد المقاعد وهكذا غدت أم يوسف وحيدة تمامًا.

واجهت أم يوسف في البداية العديد من المضايقات من طرف أصحاب البسطات في المنطقة، والذين لم يقبلوا أن تعمل نساء سوريات في مجالهم ونطاقهم، وحاولوا جعلها ترحل عنوةً فأرسلوا نساء سوريات ورجالًا بهدف مضايقتها والإساءة لها، لكن لم يتمكن أحدٌ من ترحيلها من باب توما.

 وحتى الآن ما زالت هذه المضايقات تتكرر من وقت لآخر، لكن أم يوسف متمسكة بسيارتها ومكانها، تروي ضاحكة حكاية اضطرت فيها لضرب أحدهم بعد مضايقته لها: «لم يتجرأ على العودة مرة أخرى فأم يوسف لا تخشى أحدًا سوى ربّها».

حين التقى «ساسة بوست» أم يوسف كانت قد توقفت عن العمل منذ أسبوعين لعدم توافر الغاز، لكنها ما زالت تجلس في حديقة باب توما، كيلا يظن زبائنها أنها توقفت عن العمل، فواحدةٌ من أكبر التحديات اليوم هو تأمين الغاز لصنع المشروبات، وفي ظلّ عدم امتلاكها سوى أسطوانة واحدة، تودُّ شراء أسطوانة جديدة لكن الأسعار مرتفعة في السوق السوداء، والتي قد تكلفها حوالي 90 ألف ليرة سورية أي ما يقارب 26 دولارًا ثمنًا فقط لتبديل الأسطوانة.

 وقد تأخرت رسالة وصول حصتها من الغاز، وهذا يعني انقطاع رزقها يومًا آخر، لكن لاحقًا تمكّن «ساسة بوست» من مساعدة أم يوسف في الحصول على المال من بعض المتبرعين، وعادت بالفعل إلى العمل، تقول السيدة الستينية: «أنتِ أول أحد يجري مقابلة معي ويتمكن من مساعدتي، وعدني الكثير سابقًا بالمساعدة لكن أحدًا لم يوفِ بوعده».

لا تنتهي صعوبات العمل هنا فمنذ بضع سنوات، كسر أحدهم زجاج سيارة الفولكس فاجن وسرق أسطوانة الغاز وهو أمر تكرر أكثر من مرة مما اضطر أم يوسف لاستعارة واحدة، والتي ما زالت تستخدمها إلى اليوم، بينما عملت فترة على «بابور الكاز» وهو موقد مصنوع من النحاس، ويعمل على وقود «الكيروسين» أو «الكاز»، وكان يُستعمل قديمًا قبل انتشار المواقد الحديثة التي تعمل على الغاز، لكن آلام الظهر المزمنة لديها جعلتها تتوقف عن ذلك، وتعاني المرأة الستينية في أيام الشتاء الباردة وحين يهطل المطر بغزارة، تغلق سيارتها وتعود إلى البيت، وهكذا تخسر يومَ عملٍ آخر.

حين سألنا أم يوسف: «هل يكفيكِ عملك في بيع القهوة والشاي؟» قالت: «المهم مش معتازة حدا» لا تحرم أم يوسف نفسها من شيء ورغم حالها المتواضع فإنها تهتم بنفسها وتشتري ما ترغب به، وتضحك أم يوسف وهي تتابع: «حتى أني أذهب في رحلات، ذهبت مع قريبي والذي لديه باص في رحلة إلى كفر سيتا الواقعة على الساحل السوري، وكلما وجدتُ أكلة غريبة خجلت من السؤال عنها واكتفيت بشرائها وتذوقها».

رغم كلّ الصعوبات التي مرت بها أم يوسف، مثلها مثل نساء سوريات عديدات، ما زالت تحمل روحًا راضية بنصيبها ورغم فقدان أبنائها تقول: «الله عطا والله أخد» وتطلق الدعابات وتعتني بنفسها، وتمنح الحب للأصدقاء ويناديها الشباب بـ«ياما»، وتنتظر اليوم أم يوسف رخصة لفتح كشك نظاميّ يحميها من حرّ الصيف الذي ترك حروقًا على جسدها ومن برد الشتاء ومطره، في آخر زيارة لها أصرّت أم يوسف على تقديم القهوة لي «حلوان» (حلاوة) عودتها للعمل.

لم تصدق أنها عادت بالفعل للعمل وبات معها مبلغ من المال سيساعدها على شراء أسطوانة غازٍ إضافية، بينما ستدخر ما تبقى لحين فتحها الكشك، تقول: «كنت أشعر بضيق كبير لكن وفجأة وحين وصلت المساعدات شعرت أن الدنيا ما زال فيها خير».

تحميل المزيد