بينما تفنن الملوك والخلفاء في العصور الوسطى في تشييد المدافن التي ستحمل رفاتهم في النهاية وتخلد ذكراهم؛ لا نكاد نرى في الأندلس مقبرة أيٍّ من ملوكها، حتى إن المعتمد بن عباد الذي نُفي خارجها حظي بمرقد يمكننا زيارته اليوم في منفاه، بمدينة أغمات بالمغرب، فيما لا يمكننا العثور على مرقد صقر قريش عبد الرحمن الداخل، ولا الخليفة عبد الرحمن الثالث، ولا غيرهما من الخلفاء ولا الأمراء ولا حتى شعرائها وفقهائها، فأين دُفن أهل الأندلس؟ وكيف كانت مقابر الأندلسيين؟ وأين ذهبت قبورهم؟
يبدو أن المقابر كانت محل اهتمام من أهل الأندلس وحكامها بدرجة لا تقل عن معاصريهم في العصور الوسطى؛ وأنهم تفننوا في تشييدها كما يشير مثلًا وصف ابن خاقان لمقبرة الشاعر الأندلسي ابن شهيد، التي صُنع صحنها من المرمر الأبيض الصافي، وأحاطتها حديقة يمر بها جدول ماء، وصُنعت في سقفها مقرنصات من الذهب واللازورد، فبدت متنزهًا لا مقبرة، وكما أوصى صاحبها في «رسالة التوابع والزوابع» فقد كُتب على شاهد القبر:
«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ. هذا قبر أحمد بن عبد الملك بن شهيد، المذنب، مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، مات في جمادى الأولى عام 426»
ثم نُقش نظم ابن شهيد يقول لصاحبه؛ الذي دُفن بجواره: «يا صاحبي قم فقد أطلنا. أنحن طول المدى هجود». إذ تحكي القصيدة رفقتهما، والسرور الذي عاشاه معًا، ثم تذكر الذنوب وخشية لقاء الله، ويختتمها ابن شهيد بطلب العفو من الله.
نزهة كاملة بالفعل في مقبرة ابن شهيد، في روضة بالغة الحسن يقرأ الزائر فيها سيرة الرجل وصاحبه بإيجاز ويستخلص منها العبر، لكنها كما غيرها من قبور أهل الأندلس؛ لم يُكتب لها البقاء.
من التواضع إلى العَظَمة
كانت المقابر منذ بداية الفتح الإسلامي للأندلس بسيطة تبنى من الطين، أما في المدن فكانت من الأحجار، ثم نالت حظًّا أوفر من العمارة فصارت تعلوها القباب المزخرفة وأصبحت الشواهد ألواحًا من الرخام الأبيض تُنقش عليه عبارات جنائزية، وامتلأ محيطها بالنباتات الجميلة.
وكما يقول الدكتور سعيد أبو زيد في كتابه «المقابر الإسلامية في مدينة قرطبة الأندلسية»، والذي هو بمثابة دراسة تاريخية أثرية، فإن هذا الوصف ينطبق على قبور الأثرياء وصفوة المجتمع فقط، أما الفقراء، فلم تكن في مقابرهم تلك العناية، ولم تحمل قصصهم مثل تلك الشواهد، حتى قال الغزال عن الصفوة: «أبوا إلا مباهاة وفخرًا على الفقراء حتى في القبر».
ويذكر أبو زيد أن مقابر الأندلس العامة كانت تقع غالبًا خارج أسوار المدن، قريبًا من أبوابها، وتتبع إدارة الأوقاف، ولم يكن لها سور يحيط بها، ودُفن بعض الناس في مقابر داخل المدينة إذ بنى بعضهم مساجد وأوصوا بدفنهم فيها، وكان بعضهم يدفن في منزله، أو على باب منزله أو في مقبرة خاصة بناها داخل المدينة، وإلى جانب المقابر العامة، حرص أهل الأندلس على بناء المقابر الخاصة تقربًا إلى الله. فساهمت بعض الأميرات وسراري الملوك في بناء مقابر شهيرة في قرطبة، مثل مقبرة أم سلمة، التي بَنَتْها زوجة الخليفة عبد الرحمن الثالث. لكن تاريخ الأندلس لم يخل من حوادث كبرى؛ وثورات وفيضانات وأوبئة، حتَّمت دفن الناس حينها في مقابر جماعية، ودُفن بعضهم دون غسل ولا صلاة.
بقيع في الأندلس
كان العلماء الصالحون يُدفنون غالبًا بعضهم بجوار بعض إجلالًا لقدرهم، وكان كثير من الناس يوصون بأن يدفنوا بجوارهم، ويُشار إلى أحد من دفنوا بجوار العلماء الصالحين في مقبرة الربض بأنه دفن في «بقيع ربضها»؛ تشبيهًا للمكان بالبقيع في المدينة المنورة، وسُمي آخر في مقابر بني العباس في قرطبة باسم «بئر علي» وحمل أيضًا رفات الفقهاء والزهاد.
وقد عرف الناس مقابر هؤلاء الصالحين والزهاد وازدحموا لحضور جنازاتهم، وكانوا يحرصون أحيانًا على حمل النعش، وحدث في بعض المرات أن كسروه وقسموا أعواده تبركًا به، وتحوَّلت بعض مقابر هؤلاء الصالحين إلى مزارات يقصدها العامة للدعاء والاستشفاء، وكان بعض العامة يطلبون أن يُدفنوا بجوارهم.
ويشير أبو زيد في الكتاب السابق ذكره، إلى أن بعض أهل الأندلس سكنوا القبور مثلما يسكن بعض أهل القاهرة في المقابر اليوم، وكانت بعض الدور قريبة من المقابر فقد امتد العمران واقترب من المقابر التي كانت أساسًا خارج أسوار المدينة، فتوسع الحكام في بناء المقابر واختلطت المقابر بالدور أحيانًا، ولم يعد يفصل بينهما باب المدينة كما كان، وحفظت كتب الحسبة حرمة المقابر؛ فألزمت سكان الدور القريبة منها ألا يفتحوا النوافذ لتطل على المقابر، وحرص الحسبة على ألا يتركوا الباعة في المقابر حرصًا على حرمات النساء اللائي قد يزرن القبور وهن حزينات فيتكشفن.
لكن أين دُفن الخلفاء؟
يذكر كتاب «المقابر الإسلامية في مدينة قرطبة الأندلسية»، أنه في عهد الخلافة الأموية كانت مقابر العامة تحيط بمدينة قرطبة، بينما انتشرت في داخل المدينة مقابر خاصة بينها الروضات التي دُفن فيها الخلفاء وحكام قرطبة والأمراء من أهل الحكم، وكانت مقبرة الخلفاء تحيط بالقصر الكبير في قرطبة الذي ظل مقرًّا للحكم منذ عهد عبد الرحمن الداخل، ودفن فيها صقر قريش وغيره من الأمراء والخلفاء، إلى أن بنى عبد الرحمن الناصر مدينة الزهراء، وصار دفن الخلفاء في روضة قصرها.
أما المنصور بن أبي عامر فلم يُدفن بمدينة الزاهرة التي بناها، ودفن بناء على وصيته حيث وافته المنية، وكان ذلك في قصره الذي بناه بمدينة سالم، وكُتب على قبره كما كانت وصيته:
آثــاره تنبيـك عن أخبــاره حتـى كأنــك بالعيـــان تـراهُ
تالله لا يأتي الزمان بمثله أبدًا ولا يحمي الثغور سواهُ
وبلغت مقابر الحكام أوج زخرفتها في عهد بني نصر، الذين شيدوا مقابرهم في محيط قصر الحمراء، وكان بعض الفقهاء – حتى على مر العصور في الأندلس – ينادون بهدم هذه الزخارف والإبقاء فقط على المباح من الجدران والزخارف غير المبالغ فيها.
قصص على شواهد القبور
بحسب ما يذكر كتاب «شواهد القبور في المغرب والأندلس في العصر الوسيط»، فقد اهتم الأندلسيون منذ القرن الثالث الهجري بوضع الشواهد على قبورهم، وبعدها صار الناس يُعدِّون شواهد قبورهم، أو يكتبون نصوصًا ويُوصون بوضعها على قبورهم، والتي غالبًا ما كانت تتضمن آية قرآنية، واسم المُتوفى، وبعض عبارات الترحم عليه، وتاريخ الوفاة، وأحيانًا كانت تتضمن أبياتًا من الشعر تتضمن شواغل المتوفى، أو علاقته بالناس، أو موقفه من الموت.
أحد شواهد القبور الأندلسية المحفوظة في المتاحف الإسبانية – مصدر الصورة
وقد تطورت الشواهد عبر القرون من الاختصار الشديد قبل القرن الخامس الميلادي، فكانت لا تتضمن سوى اسم المتوفى تخليدًا له، ثم طالت بعد ذلك وتعددت محتوياتها، فصارت تتضمن آيات قرآنية ونصائح للأحياء أحيانًا، وذِكرًا لسبب الموت، ودعوة على من ظلمه أو قتله أحيانًا، وتضمنت مشاعر متعددة بينها ذكر وحشة القبر وأيام اللهو، أما الشواهد بعد القرن الثامن الهجري فطالت أكثر وتغيرت، فصارت الآيات القرآنية أقل، وصار الاهتمام أكبر بذكر نسب المتوفى وأصوله، وتفتخر بعائلته، وأعماله وتاريخه، فصارت كأنها سيرة ذاتية.
لغز مقابر الأندلس
لم يبق من مقابر الأندلس تلك بحسب ما يذكر د. سعيد أبو زيد، إلا ما كُتب عنها وبعض الرفات التي يستدل العلماء منها على وجود مقابر جماعية في مكان ما أو مقابر عامة، وبعض الشواهد التي حُفظت في المتاحف الإسلامية وخضعت نصوصها للتحليل.
وتعود أغلب الآثار التي عُثر عليها إلى مقابر الأثرياء والوجهاء، وطالت يد التدمير كثيرًا من مقابر الخلفاء؛ إذ استخدمت البلدية في قرطبة بعد سقوط الحكم الإسلامي مواد بناء من أنقاض مدينة الزهراء لعمل كل الإصلاحات والتوسعات في المدينة، وبقي من مقابرها فقط وصف مفصل يصف روعتها، وقطع أثرية تفرقت في المتاحف الإسبانية.
فبعد سقوط الممالك الإسلامية في الأندلس، تُركت المقابر على حالها لسنوات، وبينما ظلت مقابر طليطلة تتلقى أموات المسلمين، تحولت مقابر الأندلس بعد سنوات في غرناطة وغيرها إلى منجم للأحجار التي اعتمد عليها بناء الكنائس الجديدة والأديرة، ودعم بعض جدران قصر الحمراء التي احتاجت ذلك، وتأسيس المدينة بما يواكب الحكم الجديد، ونجت بعض الشواهد لتوضع في المتاحف وتحل جزءًا فقط من اللغز، إذ تتبع العلماء آثارها وكتابات المؤرخين عنها.
واليوم يستدل علماء الآثار الإسبان على وجود مقبرة للخلفاء الأمويين، من كتابات تاريخية متناثرة ويتتبعون الموقع الذي يرجَّح أن يحمل بقاياها، ورغم الجهود الكبيرة التي بذلوها في فترات مختلفة من القرن العشرين، وحتى اليوم فلم يتمكنوا من الجزم بتحديد موقع هذه المقبرة، وما يزال لغزًا تركته الحضارة الأندلسية.
أبرز هذه الدراسات تلك التي أجراها عالم الآثار ألبرتو مونتيخو عام 2006، بعدما تتبع مع علماء آخرين النصوص التي تناولت مقابر الخلفاء، وخططوا وفقًا لها شكل القصر ومحيطه، واستطاعوا حصر الاحتمالات في المنطقة الجنوبية التي تقع فيها اليوم مدرسة سان بلاخيو، فيما أكد ألبرتو ضرورة مواصلة البحث، للإجابة عن أسئلة ما تزال مطروحة، عن مقابر الأندلس.
علامات
ابن شهيد, الأضرحة, الأمويين, الأندلس, الزهراء, القبور, المنصور بن أبي عامر, صقر قريش, غرناطة, قصر الحمراء