في الآونة الأخيرة تناولت وسائل الإعلام عددًا كبيرًا من الفيديوهات المُسربة التي توثق ظاهرة التعذيب في السجون الروسية، إذ تظهر تعرض السجناء للعنف والمعاملة غير الآدمية، وذلك بعدما تمكّن سجين سابق، كان يعمل على أنظمة الكمبيوتر داخل السجن أثناء قضائه فترة عقوبته، من تهريب الفيديوهات بمجرد إطلاق سراحه.
لم تكن تلك الحادثة هي الأولى من نوعها التي تظهر ما يحدث خلف أسوار السجون الروسية، فقد وقعت حوادث شهيرة بين عامي 2008 و2018، نتناول منها في هذا التقرير ثلاثة حوادث كانت الأهم ونالت اهتمامًا إعلاميًا مكثفًا، والتي أظهرت المعاملة القاسية التي يتلقاها السجناء الروسيين على أيدي الحراس في أماكن احتجازهم والتي وصلت في بعض الأحيان إلى القتل وتزييف حوادث الانتحار.
انتفاضة «يائسة» على التعذيب في السجون الروسية
على مدار العقد الأخير حفلت عناوين الأخبار وتقارير حقوق الإنسان بأخبار الانتهاكات في السجون الروسية، بدايةً من الضرب والاغتصاب ووصولًا إلى القتل، ففي عام 2008 سلطت وسائل الإعلام الأضواء على محاكمة فلاديمير جيدكوف، رئيس دائرة السجون الفيدرالية (FSIN) الذي أدين مع 13 من مرؤوسيه في قتل أربعة سجناء في سجن بلدة «كوبيسك» خارج مدينة «تشيليابينسك».
كان بين المتهمين ثمانية حراس حكم عليهم بالسجن 10 سنوات، وذلك بعد إدانتهم بتعذيب السجناء حتى الموت، بعدما شرعوا في تعذيب 12 من السجناء الوافدين حديثًا فتوفي أربعة منهم، في حين صدرت أحكام مع إيقاف التنفيذ لبقية المتهمين، منهم أربعة من مسؤولي نظام السجون الإقليمي ثبتت إدانتهم بالتستر على الجريمة، كان بينهم جيدكوف الذي نال حكمًا بخمس سنوات لم تدخل حيز التنفيذ.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي يُحكم فيها على كبار مسؤولي السجون الروسية في قضايا قتل النزلاء والتعذيب في السجون، لكنها لم تكن المرة الأخيرة؛ ففي نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2012 تظاهر مجموعة من السجناء أثناء وجود أفراد عائلاتهم خلال الزيارات، ورفعوا لافتات تشير إلى تعرضهم للابتزاز والتعذيب على يد الحراس ومسؤولي السجون، وكانت اللافتات مصنوعة من ملاءات أسِرّة كتب عليها السجناء بالخط اليدوي عبارات تدعو لحمايتهم من بطش الحراس.
السجناء يتظاهرون على أسطح بنايات السجون – المصدر Radio free Europe
واضطرت دائرة السجون الفيدرالية حينها لإرسال قوات مكافحة الشغب، في حين صرخ السجناء في حضور أقاربهم: «لا ترحلوا وإلا سيقتلوننا»، ودخل الأهالي في جدال مع الحراس، فشنت القوات هجومًا عليهم باستخدام كلاب الحراسة، وجرى ضرب النساء والرجال بالهراوات، ولاحقًا جرت إدانة دينيس ميخانوف رئيس معسكر الاعتقال رقم ستة في بلدة «كوبيسك» خارج مدينة «تشيليابينسك» في هذه القضية بابتزاز السجناء وأقاربهم وإساءة واستغلال منصبه.
وبدأت هذه الأحداث عندما نشرت وسائل الإعلام الروسية في يونيو (حزيران) 2012، أخبارًا عن الابتزاز وسوء المعاملة التي يتعرض إليها السجناء في معسكر الاعتقال رقم ستة ببلدة كوبيسك، فخشي أهالي السجناء من أن يحدث سوءًا لأقاربهم وأقدموا على زيارة أقاربهم المسجونين في نوفمبر.
وبعد تظاهر السجناء وتضامن الأهالي معهم، واجهتهم قوات مكافحة الشغب وعملت على تفريقهم بالقوة، وتعرض الكثيرون للإصابات وفقدت سيدة حامل جنينها في الهجوم، وتحطمت سيارة الزائرين أثناء فض المظاهرات، كما تأذت قدم إحدى الناشطات الحقوقيات تدعى أوكسانا تروفانوفا بعدما هاجمتها الشرطة، وبعد انتهاء الاحتجاجات أعلنت الشرطة أن ثمانية ضباط أصيبوا خلال الاشتباكات، وأن معظم الأشخاص الذين قُبض عليهم خلالها كانوا «سكارى ومخمورين».
وبعد أيام قليلة من الأحداث زارت الناشطة الحقوقية أوكسانا تروفانوفا معسكر الاعتقال رقم ستة للمرة الثانية مع مجموعة من ممثلي حقوق الإنسان، فوجدت تظاهرات السجناء ما زالت مستمرة، وتمكنت من إلقاء نظرة عن قرب عليها، وقالت: «كانت التظاهرات عفوية ويبدو أنها لم يجر تنظيمها من طرف شخص محدد، كما يدعون» ولاحقًا أشارت تروفانوفا إلى أن الاتهامات التي وجهت إلى السجناء خلال المحاكمة كانت «انتقامية».
وفي وقتٍ لاحق عوقب السجناء على إضرابهم عبر إضافة فترات إضافية إلى عقوباتهم، وجرى العفو عن رئيس معسكر الاعتقال دينيس ميخانوف، بعدما حكم عليه بثلاثة سنوات مع إيقاف التنفيذ، وبعد 18 شهرًا من تلك الاضطرابات، وأثناء محاكمة السجناء بتهمِ إثارة الشغب، رأى النشطاء أن العدالة ربما كانت غائبة عن تلك المحاكمة، خاصةً وأن التهم الموجهة إلى السجناء لم تكن مبررة بالنسبة إليهم، لأنهم كانوا يحتجون للدفاع عن أنفسهم وحماية حقوقهم في انتفاضة «سلمية ويائسة».
قضية «ماكاروف» تجبر المسؤولين على الاعتراف بالتعذيب في السجون
أكثر من مرة طالبت الأمم المتحدة موسكو بوقف التعذيب في السجون الروسية ومحاكمة الحراس بعدما أصبح ضرب السجناء والابتزاز جزءًا من نظام عملهم، وقد حازت قضية «يفجيني ماكاروف» الذي يقضي عقوبة مدتها ست سنوات بموجب القانون الجنائي الروسي بعدما اتهم بالابتزاز والإيذاء الجسدي، اهتمامًا إعلاميًا خاصًا عام 2018، إذ جرى تسريب مقطع فيديو يصور الحراس وهم ينهالون عليه بالضربِ بالهراوات.
كان الفيديو صادمًا حينذاك، وقد سلطت تلك القضية الضوء مرة أخرى على تعذيب المحتجزين في السجون الروسية، وحينها نُقل السجين إلى معسكر اعتقال في مدينة ياروسلافل الروسية في شهر يونيو 2018.
تقرير Euronews عن فيديو تعذيب ماكاروف
فلم يكد يمضي سوى شهر واحد على وجود ماكاروف بالسجن إلا ونشرت صحيفة روسية مقطعًا مصورًا بعنوان «لا يشاهده إلا من لديه أعصاب قوية» وأظهر عددًا كبيرًا من الحراس وهم يضربون ماكاروف على قدميه بالهراوات، وقد تطور الأمر إلى الضرب بقبضات اليد ثم الإيهام بالغرق، وكان هناك ما لا يقل عن 10 رجال بالغرفة ينتظرون دورهم لتوجيه الضربات للمحتجز الجديد المقيد وهو يصرخ ويطلب الرحمة. انتهى الفيديو بعد 10 دقائق لكن التعذيب في السجون استمر، حسب الصحيفة الروسية.
جرى تصوير الفيديو من كاميرا مثبتة على جسم؛ لكن لم يعرف أحد من صوّره؛ إلا أن إيرينا بيريوكوفا محامية ماكاروف سلمت الفيديو إلى صحيفة «نوفايا جازيتا» الروسية المعارضة؛ والتي نشرته، وحينذاك أفادت المحامية أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يتعرض فيها موكلها للضربِ؛ وقد تلقت فيما بعد تهديدات بالقتلِ اضطرتها لمغادرة البلاد نحو الخارج.
حينذاك اشتعل الرأى العام وجرت مطالبة الحكومة الروسية بحماية إيرينا وموكلها مما قد يتعرضون إليه؛ وقد اضطر ذلك دائرة السجون الروسية إلى فتح تحقيق جنائي بسجن مدينة «ياروسلافل» وأُلقي القبض على 14 ضابطًا، وانهالت الشكاوى بعدها من سجناء معسكر الاعتقال ذاته، مما سلط الضوء على نظام العقوبات الروسي، إذ «يجري إرسال السجناء إلى معسكرات اعتقال نائية، ويجبرون على العيش في ظروفٍ قاسية قد تضطرهم في بعض الأحيان إلى الإضراب عن الطعام أو إيذاء النفس على أمل التخلص من معاناتهم تلك» حسب إيرينا.
كان ماكاروف محظوظًا، فبعد انتشار الفيديو الخاص بتعذيبه، مُنح حماية الدولة وجرى نقله إلى معسكر اعتقال آخر، كما جرى الاعتراف به رسميًا هو ومجموعة أخرى من المحتجزين باعتبارهم «ضحايا» وقد وضع جلادوه في قفص الاتهام، كما صدر اعتذار رسمي من نائب رئيس مصلحة السجون لماكاروف وعائلته، وهو أمر غير مسبوق في روسيا إذ يرفض المسؤولون عادةً الاعتراف بقضايا سوء المعاملة والتعذيب في السجون.
تزييف قضايا القتل في السجون لتبدو «انتحارًا»
كان عام 2018 حافلًا بالأحداث التي تعلقت بقضية التعذيب في السجون الروسية؛ فإلى جانب قضية ماكاروف كان هناك جلسة محاكمة مغلقة عقدت في مدينة «تشيليابينسك» للتحقيق في قضية ضرب وقتل السجين الشيشاني سلطان إسرائيلوف عام 2015.
وحكم على أربعة حراس بالسجن لمدد تتراوح بين ثلاث وثماني سنوات بعد المحاكمة؛ إذ اتهموا بإساءة استخدام السلطة وضرب المحتجز حتى الموت، وحازت القضية المثارة على اهتمام إعلامي، بعد أن ترك الضباط فلاديمير مالينين وألكسندر دونتسوف وفيكتور بودكوريتوف السجين الشيشاني معلقًا بنافذة الزنزانة ليموت ببطء بعدما انهالوا عليه بالضرب.
أضرب حينها 500 سجين عن الطعام للمطالبة بإجراء تحقيق مناسب في وفاة إسرائيلوف الذي عثر عليه ميتًا في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) 2015 في زنزانته، وقد أخفى الحراس آثار الجريمة وادعت سلطات السجن أنه انتحر، لكن الإضراب عن الطعام من طرف السجناء أجبر السلطات حينذاك على فتح تحقيق في وفاة السجين، وألقي القبض حينها على خمسة من الحراس، انتحر أحدهم قبل الوصول إلى المحاكمة أثناء وجوده رهن الإقامة الجبرية.
كانت إضراب السجناء ردًا على تزييف انتحار إسرائيليوف الذي ضُرب أثناء دفاعه عن سجينٍ آخر كان يتعرض للتعذيب، وهو أندريه تشيرنيكوف، وفي المحاكمة أظهرت التحقيقات أن الضباط ضربوا المحتجز وهو مقيد اليدين بالهراوات؛ ثم قاموا بربط وشاح في قضبان نافذة عالية ولفوا الطرف الآخر حول عنق القتيل، تاركين إياه ليلقى حتفه.
وخلال المحاكمة شهد بعض السجناء على التعذيب الذي تلقاه إسرائيلوف؛ كما قدم الضابط فلاديمير زورين إفادته باعتباره شاهد إثبات؛ مشيرًا إلى أنه دخل إلى زنزانة الضحية مع اثنين من الحراس، لكنه خرج بعد قليل وتركهم بالداخل دون أن يدرى ماذا فعلوا به، حتى عُثر على جثته فيما بعد.
وعقب تقديم إفادته عُثر على زورين مشنوقًا؛ وعلى الرغم من شهادات الإثبات والأدلة التي أحاطت بالمتهمين؛ أفرج عنهم جميعًا بكفالات وكانوا يحضرون جلسات محاكماتهم جالسين جنبًا إلى جنب مع محامي الضحايا، ويضحكون في وجه السجناء من الشهود وكأنهم يعلمون أنهم لن ينالوا عقابًا، وقد أغلقت جلسات المحاكمة أمام الصحفيين والمراقبين.
ورأى ممثلو منظمات حقوق الإنسان في روسيا أن المحاكمة كانت عبارة عن مهزلة، كما نددوا بجلسات المحاكمة السرية التي كانت بعيدة عن أعين المراقبين والإعلام، مُشيرين إلى أنها منحت القضاة الفرصة للتلاعب.
وعلى الرغم من أن الاتحاد الروسي أفاد حينها بوفائه بالالتزامات الدولية تجاه اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، فإن الحادثة الأخيرة التي تناولت مجموعة أخرى من الفيديوهات المسربة في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، تلقي الضوء مرة أخرى على انتهاكات حارسي السجون التي لم تنته رغم تكرار التنديد الدولي بحوادث التعذيب في السجون. فهل ينال المتهمون هذه المرة عقابًا رادعًا؟