«تتسارع وتيرة الفوضى والعنف في العالم، والأمر ليس من قبيل الصدفة».
ديني أو علماني، لا يمكن لأحد إنكار حقيقة أن العنف بالضرورة يولد المزيد من العنف، فينتهي العالم غارقًا في سلسلة من الأحداث المتصاعدة في عنفها وقسوتها، وربما ليس سهلًا التنبؤ بوقت خمودها. تسارعت وتيرة العنف في النصف الأول من عام 2016، فهل يشهد النصف الآخر تبلدًا أم مزيدًا من التسارع والتصعيد الذي يؤدي إلى نهاية كارثية، والتي ربما يفسرها البعض بأنها إرهاصات معارك نهاية الزمان.
نشرت «فورين بوليسي» مقالًا جدليًا الأسبوع الماضي كتبه «ديفيد بيل» (أستاذ التاريخ بجامعة برينستون) يحاول فيه تحليل الحالة التي يمر بها العالم منذ بداية عام 2016 من تكدس أحداث عظام (قد تستغرق عقودًا) في شهور أو أسابيع قليلة. ولماذا تسارع الأطراف الدينية أو العلمانية أو حتى الإرادة السياسية في تصعيد حدة وقساوة الأحداث. هل السبب أن كل طرف يرى الصراع معركة آخر الزمان أم أن ذلك فقط نتيجة الصراع الدموي لتحقيق بعض المصالح، أم إنها إجراءات قصوى استباقية لتجنب وقوع تخوفات مبالغ فيها. جميعها أسئلة يحاول الكاتب تفنيدها استنادًا للأنماط المشابهة في التاريخ.
تسارع الاضطرابات وتكدسها
يقول «بيل» إنهفي خريف عام 1989 اجتاحت سياسة العزلة التي عرفت بـ«الستار الحديدي» والتي انتهجها الاتحاد السوفيتي البلد تلو الآخر. فكانت تلك واحدة من لحظات التاريخ التي تتكدس فيها العديد من الأحداث المروعة، فتصير مهمة تتبُّع تلك الأحداث مهمة شاقة. هناك عبارة منسوبة للينين تقول «هناك عقود لا يحدث فيها شيء، وهناك أسابيع يحدث فيها ما قد يستغرق حدوثه عقودًا» وعلى الأرجح هي ملفقة، لكنها حقيقة. من قبله أيضًا سخر الكاتب الفرنسي «شاتوبريان» أنه خلال ربع قرن من الزمان أثناء الثورة الفرنسية وعهد نابليون مرت «عدة قرون».
على سبيل المثال، شهدت أواخر عام 1989، وتحديدًا فترة زمنية لم تتجاوز ثلاثة أشهر؛ نهاية السلطة الشيوعية في المجر وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا، كما شهدت سقوط جدار برلين، فضلًا عن الغزو الأمريكي لبنما، واجتماع قمة مالطا بين ميخائيل جورباتشوف والرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، إذ أعلن فيها الزعيمان نهاية الحرب الباردة، ففي تلك الفترة القصيرة تتكدس سنوات عديدة من التغيير والأحداث.
وينتقل الكاتب لعرض واقع العالم اليوم المشابه لتلك الفترات، ففي الأسابيع القليلة الماضية أصيب العالم بالدوار نتيجة تلاطم الأحداث وسرعتها، ففي 23 يونيو (حزيران) أصيبت بريطانيا والعالم بصدمة إثر تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفي 7 يوليو (تموز) قتل خمسة ضباط شرطة في ولاية دالاس الأمريكية مما أثار مخاوف بشأن انتشار موجة عنف في الولايات المتحدة الأمريكية، وعقب ذلك بأسبوع تبنَّت داعش أسوأ مجزرة بشرية منذ 10 سنوات في الاتحاد الأوروبي، إذ دَهس رجل يقود شاحنة ضخمة مجموعة من الناس المحتفلين بيوم لباستيل في الشارع، فضلًا عن محاولة الانقلاب في تركيا.
بالإضافة إلى إطلاق النار على رجال الشرطة في باتون روج بولاية لويزيانا الأمريكية، والحرب الطائفية المروعة في سوريا والتي على خلفيتها زادت التوترات بين الناتو وروسيا، ولعل أعظم الاضطرابات السياسية في التاريخ الأمريكي الحديث هو صعود المرشح الشعبوي الذي يفتقد أي خبرة سياسية، ونجاحه في التصدي للمؤسسة الجمهورية وصار المرشح الرئاسي الذي يمثل الحزب في انتخابات 2016. «التسلط الشعبي» هو الآخر في تزايد سريع في بلدان أخرى حول العالم، على سبيل المثال الصين، وبالنظر لكل تلك الأحداث يبدو أننا نعيش في «زمن شيق» حسب وصف الكاتب.
هل اضطرابات 2016 توصف بـ«الشائقة»؟
يقول «بيل» إن عام 2016 حتى الآن هو أبعد ما يكون عن كونه «شائقًا»، ولا يقارن بالفترات «الشائقة» حقًا في التاريخ، على سبيل المثال في عام 1940، وفي فترة لم تتجاوز ثلاثة أشهر، احتلت ألمانيا النازية النرويج والدنمارك وهولندا وبلجيكا وفرنسا، في حين احتل الاتحاد السوفيتي ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا. وفي العام التالي، في خلال ثلاثة أشهر أيضًا، غزا النازيون الاتحاد السوفيتي وتوغلوا داخل أراضي الاتحاد السوفيتي مسافة مئات الأميال، وتزامن كل ذلك مع المحارق والقتل الجماعي لليهود وغيرهم من «غير المرغوب بهم» حسب تصنيف النازية.
وبالمثل، يوصف عام 1945 هو الآخر بأنه «شيق» فقد شهد «إعلان بوتسدام» وإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي، وإعلان الاتحاد السوفيتي والحلفاء الحرب على اليابان ما لم تستسلم الأخيرة، وبالتبعية انتهت الحرب العالمية الثانية.
بل إن أحداث 2016 على قدر ضخامتها وتكدسها، هي لا تقارن بعام 1991 الذي شهد بداية حرب الخليج ومحاولة الانقلاب على ميخائيل جروباتشوف وتفكك الاتحاد السوفيتي، واغتيال رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي. وبالمثل عام 2001 الغني عن التعريف.
العالم يقع فريسة للتقليد!
عند مقارنة عام 2016 بأعوام سابقة في التاريخ قد لا يبدو ما يحدث بالأمر الجلل، بيد أننا لا نزال في منتصف العام، وعلى الأرجح ستتصاعد الأحداث وتتسارع في النصف الثاني، مصحوبةً بعواقب لا يمكن التنبؤ بها.
يقول الكاتب إن أعمال العنف بطبيعة الحال تستثير الأطراف المتعددة في أي صراع بعدة طرق، وعلى مسافات بعيدة، وأحيانًا يظهر الرابط بين الحدث المثير والاستجابة جليًا، لكنه كثيرًا ما يكون غير واضح.
يظهر هذا التقليد المباشر على مر التاريخ، ففي عام 1848 عقب الثورات الليبرالية في فرنسا، قامت موجة من الانتفاضات المستوحاة جزئيًّا منها، قامت تلك الانتفاضات في الدنمارك والإمبراطورية النمساوية وبلجيكا والعديد من الولايات الألمانية والإيطالية. وفي عام 1968 اجتاحت الثورات الطلابية جميع أنحاء العالم الغربي فيما بدا جليًا أنه تقليد وتعاون مع بعضهم البعض. وبوصول الثورة الليبرالية في فرنسا إلى ذروتها، وتنحي شارل ديجول عن الحكم أو بالأحرى فراره إلى قاعدة عسكرية في ألمانيا، يبدو أن ذلك استحث تسارع الأحداث في جزء آخر من العالم، إذ تصدع هيكل السلطة في جزء من الكتلة السوفيتية وبدأت تتساقط الأنظمة الواحد تلو الآخر.
ولعل الحركات والثورات والجماعات حتى الإرهابية اليوم تتبع تلك النظرية؛ أن الاضطرابات في مكان ما في العالم تستثير أخرى وتدفعها للتقليد، فنجد على سبيل المثال تنظيم الدولة الإسلامية يبذل قصارى جهده ليروج أفعاله ويمجد الجناة «الشهداء»، فيستحث ذلك غيرهم باتباع نفس نهجهم.
يقول الكاتب إننا ربما لا نعرف القصة كاملة لمحاولة الانقلاب في تركيا بعد، لكننا على الأقل نستطيع أن نتصور أن المتآمرين الذين قاموا بالانقلاب شجعتهم الأعمال الإرهابية التي تحدث في أماكن أخرى في العالم، وبالنظر إلى سلسلة الهجمات الإرهابية الأخيرة.
المخاوف المبالغ فيها
يرى الكاتب أنه علاوة على استثارة الاضطرابات اضطراباتٍ أخرى في أماكن أخرى، فإن المخاوف من حدوث الاضطرابات والانهيارات هي الأخرى تؤدي إلى اضطرابات متتالية؛ فتدفع جماعات وأممًا بأكملها لاتخاذ خطوات صارمة ردًا على أحداث عنف مخافة ضياع فرصة اتخاذ أي خطوة فعَّالة إذا ما تأخرالرد.
على سبيل المثال يعتقد الكثير من المؤرخين أنه في عام 1914، تعامل ألمانيا القاسي عقب اغتيال الأرشيدوق النمساوي «فرانز فرديناند» دفع لقيام حرب شاملة. فهي حرب قامت بسبب الاعتقاد الشائع بين النخبة الألمانية أنهم كانوا يخسرون سباق تسلح لصالح فرنسا وبريطانيا. وفي الفترة بين (1970-1980) حين تهاوى الاتحاد السوفيتي من الداخل، كانت النخبة في الولايات المتحدة الأمريكية تروج لتخوفاتها «المبالغ فيها» من الكيان السوفيتي وقدراته، وعليه بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في حشد عسكري واسع النطاق.
وبنفس الطريقة نجد اليوم أنه على الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي في حالة جيدة، وميزانيته العسكرية تفوق ميزانية الدول الثماني التالية لها مجتمعة؛ فقد عادت المخاوف مجددًا من سقوط الولايات المتحدة مصحوبة بدافع انتقام، ويتجلى ذلك في إصرار «دونالد ترامب» على أن كل الدول تستغل أمريكا. من السهل رؤية كيف تدفع تلك المخاوف الزائفة في ظل الظروف الخاطئة الإدارة الأمريكية إلى اتخاذ إجراءات «تخريبية» خطيرة ضد الخصوم المحتملين الذين يشكلون تهديدًا أكثر من أي وقت مضى.
نبوءات المعركة الكبرى
يقول الكاتب إن انتشار الأعمال التخريبية مصحوبة بالتخوفات الجامحة والآمال التي تولدها، بالفعل ستؤدي إلى إحساس عام بأن المباح في تلك الظروف هو الإجراءات «القصوى» وليس العادي منها. وبالنظر إلى تاريخ العالم الغربي نجد أن مثل تلك الأنماط ترتبط إلى حد ما بالنبوءات الدينية في المسيحية واليهودية المتعلقة بالمسيح وبعثه، ومعركة القيامة ونهاية الزمان.
يذكر «بيل» أنه على مر تاريخ المسيحية منذ بداية عهد المسيح يكاد لا يخلو عام واحد من ادعاءات المسيحيين بأن الاضطرابات في العالم هي من بين علامات القيامة ومعركة آخر الزمان.
تسببت تلك القناعة في أعمال عدوانية وفظائع بحق المجتمعات المهرطقة والكافرة حسب وصف المؤمنين بتلك النبوءات. وبطبيعة الحال فإن العنف الناتج سيؤدي بالناس إلى مزيد من الاقتناع باقتراب القيامة، ويتولد عن ذلك الاقتناع قوة إيجابية بسلامة اعتقادهم فترقى إلى قوة تدميرية هائلة.
على سبيل المثال، يعتقد بعض المؤرخين أن ما حدث أثناء دعوات «إصلاح الكنيسة الكاثوليكية» التي نادى بها «مارتن لوثر» فضلًا عن دعوته بانفصال الكنيسة عن الكنيسة في روما، كله استثار فكرة اقتراب معركة نهاية الزمان بين الخير والشر، وأثار ذلك بالتبعية صراعات عنيفة، تلاها ترسيخ لفكرة معركة القيامة، فزاد حجم العنف وبرر كل طرف فظائع أفعالهم، فإن معركة نهاية الزمان لن تخضع لقواعد السلوك والإجراءات العادية، فاستباح كل طرف التحركات الدموية القصوى، فكانت النتيجة المزيد والمزيد من الحروب الدينية الدموية المبررة تحت غطاء معارك نهاية الزمان والقيامة.
وبالمثل، فإن المتطرفين التابعين للدولة الإسلامية اليوم يؤمنون أنهم في معركة الحق والباطل بين المسلمين وغير المسلمين، يؤمنون أنهم يخوضون تلك المعركة لصالح مستقبل العالم، ومع كل الفظائع التي يرتكبونها باسم هذا الاعتقاد هم يرسخون لدى المسيحيين واليهود قناعتهم بأنهم أيضًا على صواب في اعتقادهم بمعركة نهاية الزمان ومحاربة غير المسيحيين وغير اليهود.
إلا أن هذا النمط في التفكير لا يقتصر على الدين فقط، فإن نفس النمط ينطبق على النسخ العلمانية لقصة نهاية العالم أو ما تصفه الماركسية بـ«الصراع الأخير»، إذ تعلق القواعد العادية للسلوك وتباح الإجراءات القصوى، بالإضافة إلى أن العلمانيين المؤمنين بتلك الفكرة هم على نفس قدر اليقين كما المتدينين، وبإمكانهم توليد نفس القدر المتزايد من سلسلة الاضطرابات العنيفة الدموية بسبب حدث واحد.
ولا أدل على ذلك من موقف الإدارة الأمريكية عقب هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، فقد آمنت إدارة بوش أنها كانت بحاجة إلى استثارة حرب عظمى ضد دولة (العراق) لم تهاجم الولايات المتحدة الأمريكية بالأساس، بل لأنها كانت بحاجة إلى إطاحة نظام حكم في بلد رأته مصدر تهديد وجودي للنظام العالمي.
ويختتم الكاتب مقاله بالتأكيد على أن أحداث النصف الأول من عام 2016 سوف تؤدي بالضرورة إلى اضطرابات شبيهة بعامي 1989 و2001، بيد أنه غير واضح ما إذا ستستمر سلسلة الأحداث المتسارعة حتى نهاية العام أم لا. وربما يحالف العالم القليل من الحظ ويتوقف سيل الأخبار المأساوية، ولا يُذكَر عام 2016 في أخبار المستقبل إلا بكونه عامًا من الملل في أحداثه والبلادة في اضطراباته، لكن تظل طرق إذكاء لهيب العنف والاضطرابات موجودة قابلة للانتشار وإحداث الدمار.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».
علامات
2016, translation, الاتحاد السوفيتي, الثورة الفرنسية, الستار الحديدي, العنف, تاريخ, تشرشل, سياسة, شاتوبريان, عنف, معارك نهاية الزمان, نابليون