وما يمكن أن نتعلمه من الماضي لفَهْم سفك الدماء الأخير.
كتبه أرون دافيد ميللر.
عاودَ الإسرائيليون والفلسطينيون الاشتباكَ مرةً أخرى. ففي خلال الأسابيع العديدة الماضية، قُتلَ 10 إسرائيليين على الأقل وأكثر من 50 فلسطينيًّا، بينما جُرح عشراتٌ آخرون في سلسلة من حوادث إطلاق النار والشغب والطعن. ويتساءل الكثيرون ما إذا كانت هذه هي بداية الانتفاضة الثالثة.
وبينما نشهد تقدُّمَ الجولة الحالية من الصراع، فربما كان من المجدي أن ننظرَ إلى فعالية العنف في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، ليس في ضيق اللحظة الحالية، وإنما بمنظور أشمل. وبقيامنا بهذا الأمر؛ تبرز العديد من الحقائق المزعجة للغاية وغير الصحيحة سياسيًّا.
النتيجة النهائية واضحة؛ لقد كان العنف هو الرفيق الدائم في الأرض المقدسة لأكثر من ستة عقود. كان للعنفِ كلا الأثرين؛ حفظُ الوضع الراهن وتغييرُه. وهو ليس أداة فعالة لإدراك التطلعات الوطنية الفلسطينية ولا لضمان الأمن الإسرائيلي. لكنه سيبقى على الأرجح، رغم ذلك؛ أداة أساسية لكلا الطرفيْن. يستخدم الإسرائيليون العنفَ للدفاع عن أنفسهم ضد الفلسطينيين وللسيطرة عليهم. وفي الوقت نفسه، يستخدمه الفلسطينيون سلاحًا لتذكير إسرائيل بأنهم ما زالوا يطالبون بإنشاء دولة. ها هي النقاط الخمس التي ينبغي للجميع، الزعماء السياسيين، الصحفيين، الإسرائيليين، الفلسطينيين، والمراقبين الفضوليين على حد سواء؛ ينبغي لهم أن يضعوها في الاعتبار، بينما نشاهد ما يتكشّفُ في القدس وإسرائيل والضفة الغربية.
لا شيءَ يتغير بدون ألم: لا يتخذ القادة السياسيون القرارات الهامة الخطيرة حقًّا إلا حين ترغمهم الظروف على القيام بذلك. ولهذا وضعتْ الأزماتُ، بما في ذلك الحروب والعصيان؛ الأساسَ لكل خرق في عملية السلام العربي- الإسرائيلي.
فقط انظر إلى السجلات. فبدون حرب 1973، وعبور مصر الناجح لقناة السويس، والأثر الصادم للحرب على إسرائيل؛ لما كان هناك اتفاقات وقف إطلاق النار، ولا زيارة أنور السادات للقدس، ولا كامب ديفيد، ولا معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية. وبدون غزو صدام حسين للكويت عام 1990، وحملة جورج بوش الأب الناجحة لدفعه للخروج منها؛ لما كانت هناك فرصة لمؤتمر مدريد للسلام عام 1991. وبدون الانتفاضة الأولى، التي بدأت عام 1987 واستمرتْ ست سنوات تقريبًا؛ لما كان رابين قد بدأ يدركُ أن الفلسطينيين لا يمكن كسرهم بالقوة العسكرية ولا يمكنهم تبنّي الأردن وطنًا بديلًا.
إذا أردتَ مغنمًا في الساحة العربية- الإسرائيلية، فلابد لك مِن مغرم. ولا يضمن هذا، في حد ذاته؛ النتائجَ بالطبع. وإنه لتعليق مأساويٌّ على الوضع أن يكون العنفُ أو الحرب مطلوبًا للحصول على أي فرصة لانفراجة دبلوماسية. ولكنها الحقيقة، إلى حد كبير، وبدون استثناء. يمكن للعنف والحرب أن يخلقا الحاجة المُلِحَّة، وأن يجعلا القادةَ يركّزون على الفعل، كما يوفران أيضًا فرصًا للوسطاء الخارجيين لإقامة الدبلوماسية. من نتائج الأزمة الحالية الآن زيارةٌ من الأمين العام للأمم المتحدة، والبعثةُ القادمة من وزير الخارجية الأمريكية جون كيري للمنطقة، واقتراحٌ فرنسي لقرار مجلس الأمن الدولي بنشر مراقبين دوليين في الحرم الشريف/ جبل الهيكل، بالبلدة القديمة.
لكن الألمَ لابد أن تصحبه احتمالاتُ الربح: قد يكون الأذى ضروريًّا لتحويل الأزمة إلى فرصة، لكنه ليس كافيًا. في الواقع، لو كان الألمُ كلَّ ما هو مطلوب؛ لكنّا حصلنا على السلام العربي- الإسرائيلي منذ عقودٍ مضتْ. ولكن يجب أن تقترن المثبطات بالحوافز.
تأملْ الأمثلة التالية حيث نتج عن الألم مكسبٌ حقًّا: في عام 1979، استعاد السادات سيناء واستعاد علاقةً جديدة ومثمرة مع الولايات المتحدة. وحصل رئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحم بيجين؛ على سلام منفصل مع مصر، وبتخليه عن سيناء، احتفظ بسيطرته على ما رآه الجائزة الكبرى؛ الضفة الغربية. وفي عام 1991 بمدريد، حصلت إسرائيل على مؤتمرٍ دولي للسلام، رمزيٍّ بلا سلطة. وصنع هذا ستارًا لإخفاء المفاوضات متعددة الأطراف مع سوريا والأردن والفلسطينيين. ولقلقه بشأن فشل الاتحاد السوفييتي، بدأ حافظ الأسد، رئيس سوريا في ذلك الوقت؛ اكتشافَ علاقةٍ جديدةٍ بالولايات المتحدة والتزامٍ لقواتها بمرتفعات الجولان. وأخرجتْ واشنطن الأردنَ من مأزقها بعد دعمها لصدام. وحصل الفلسطينيون، مدعومين بمنظمة التحرير الفلسطينية؛ على الاعتراف بالساحة الدولية، وفي نهاية المطاف وجدوا وسيلة لإلباس منظمة التحرير الفلسطينية لباسًا رسميًّا. وفي اتفاقات أوسلو، وبرغم ما بها من نقصٍ، حصل ياسر عرفات على اعتراف بشخصه وبمنظمته، حيث كان هو ومنظمة التحرير الفلسطينية الشريكَ الشرعي والوحيد لإسرائيل والولايات المتحدة. وفي المقابل، نال الإسرائيليون عمليةً تدريجيةً انتقالية بغير قيود على الاستيطان، وبغير التزام تجاه الدولة الفلسطينية.
لم تكن أي من هذه الصفقات مثالية. كان بعضها معيبًا بالأساس ويصعب على الأطراف قبوله. بَيْد أنّها جميعًا اعتُبِرَتْ ثمنًا ملائمًا لما هو مطلوب في المقابل. والأهم من ذلك، أن المكاسب سمحتْ للقادة والجماهير على حد سواء بتسويغ الثمن المدفوع مقابل الألم. وللأسف، لم يعرض العنفُ في السنوات الأخيرة، بما في ذلك أزمة نفق الحشمونائيم عام 1996، والانتفاضة الثانية بين عامي 2000 و2005، والحروب الثلاث بين إسرائيل وحماس في غزة؛ سوى الألم بدون أي إستراتيجية حقيقية أو فرصة بين الزعماء الإسرائيليين والفلسطينيين وبين الوسطاء الأمريكيين. وهذه على الأرجح هي الحال خلال الأزمة أيضًا. إذا أكدَّتْ إسرائيل أنها ستُبقي على الوضع الراهن، على سبيل المثال، جبل الهيكل/ الحرم الشريف، فقد يهدّئ هذا الوضعَ لفترة. وبالمثل، قد يوفر وقفٌ آخرُ لإطلاقِ النار بين إسرائيل وحماس بعضَ السلام والهدوء. إلا أنّ النتيجة النهائية صارمة؛ سيتطلب إنهاءُ الصراع حلَّ القضايا الكبرى بما في ذلك قضيتا القدس والحدود. ويبدو هذا بعيد المنال، مما يعني عدم وجود احتمالات حقيقية للمكاسب.
قوة القويّ في مقابل قوة الضعيف: عندما يتعلق الأمر باستخدام العنف؛ فإن الطرف الأضعف، وهم الفلسطينيون؛ يعانون أكثر من حيث عدد الوفيات والإصابات وتدمير سبل العيش. أعداد المصابين غير متماثلة بطبيعتها، وذلك في جانب كبير منه بسبب قوة إسرائيل وقدرتها، وتطور الأسلحة، والقدرات الدفاعية، ودعم الولايات المتحدة، ومؤخرًا؛ القبول والدعم من الدول العربية مثل مصر. وليس المقصود بهذا التقليل من شأن تضرر الإسرائيليين ومعاناتهم نتيجةً للإرهاب والعنف الفلسطينييْن.
يعاني الإسرائيليون أيضًا. وبينما تملك إسرائيلُ قوةَ القويِّ؛ فباستطاعتها إغلاق الضفة الغربية أو أحياء القدس الشرقية، وإنشاء المستوطنات، ومصادرة الأراضي، وتقييد حركة الفلسطينيين، في حين تحافظ على بيئة الحياة الطبيعية بطريقة عملية للغاية؛ إلا أن الفلسطينيين يملكون قوةَ الضعيف. قوة مرعبة وهائلة، مبنية بالأساس ليس على ما لديهم، بل على ما ينقصُهم.
الحركة الوطنية الفلسطينية منقسمة ولا تعمل بكفاءة. فهي تبدو كسفنية نوح؛ دستورين وجهازين للأمن ومجموعتين من النصراء، بل وحتى رؤيتين منفصلتين حول أين وماذا تمثل فلسطين حقًّا. يفتقر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى السيطرة، ناهيك عن احتكار استخدام العنف في المجتمع الفلسطيني. وهذا يعني أن الفلسطينيين قد يشيدون بعمليات حماس العسكرية والإرهابية ضد إسرائيل، ويفخرون بهم كما فعلوا أثناء المواجهات الأخيرة بين إسرائيل وحماس في غزة. علاوة على ذلك، وحيث أنهم الطرف الأضعف في المفاوضات، وفي ظل احتلالٍ وبدون حقوق ولا حريات؛ فقد يشارك الفلسطينيون في هجمات إرهابية انتحارية ويدعمونها ويمجدون الشهداء. يعزز الغضبُ والإذلال واليأسُ والعجزُ المقاومةَ الشعبية. تخلق هذه الظروفُ السرديةَ التظلمية التي تبرر ممارسة العنف باستخدام أسلحة بدائية مثل الطعن وحوادث الدهس بالمركبات، مما يراه الفلسطينيون وسائلَ مشروعة للمقاومة، ويعتبرها الإسرائيليون إرهابًا خالصًا. وبهذه الطريقة، فإن لدى الفلسطينيين القدرة على تقويض الأمن الإسرائيلي وتعطيل إيقاع الحياة اليومية والطبيعية التي ينبغي لأي حكومة إسرائيلية الحفاظ عليها وحمايتها.
في السنوات الأخيرة، قوّضَ هذا النوعُ من العنف القضيةَ الفلسطينيةَ. فلم يؤدِّ العنف المتواصلُ إلى أي انفراج دبلوماسي منذ الانتفاضة الأولى عام 1987. في الواقع إنه يزيد الأمر سوءًا. ويعرف القادةُ الفلسطينيون مثل عبّاس هذا الأمرَ. لقد منعتْ العواقبُ المريرة والأضرارُ التي أصابت الفلسطينيين في الانتفاضة الثانية حدوثَ انتفاضة ثالثة، حتى الآن. بيْدَ أن الشباب الفلسطيني الذين يحملون السكاكين في شوارع القدس كانوا بالمدارس الابتدائية خلال تلك الأيام المظلمة، ولم يستوعبوا ربما الأثرَ الكاملَ للإرهاب الانتحاري أو إعادة احتلال إسرائيل للضفة الغربية. وجد استطلاعُ شهر يونيو/ حزيران أن 61 بالمائة من الفلسطينيين بالقدس يدعمون الكفاح المسلح. إذا لم يستطع الفلسطينيون أن يحيوا حياةً طبيعية، فسيعملون على ضمان ألا يحياها الإسرائيليون كذلك. وهذه واحدة من الرسائل غير المعلنة لاندلاع العنف الأخير من قِبَل الشباب الفلسطيني بالقدس.
يضمن الجوارُ وضعًا راهنًا غير مستقر: ولإعادة صياغة ما قاله مارك توين؛ يلد الجوارُ أطفالًا وعصيانًا. الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، والدور الذي يلعبه العنفُ فيه؛ يجعله متمايزًا عن الصراع الإسرائيلي- العربي على مستوى الدول. تم فصل مصر وإسرائيل بحدود دولية وبمئات من الكيلومترات من صحراء سيناء، ويفصل بين إسرائيل وسوريا مرتفعاتُ الجولان المراقَبة من قبل الأمم المتحدة. منذ آخر حرب تقليدية بين العرب وإسرائيل عام 1973، والصراع بين الدول قد انتهى تقريبًا. بدلا من ذلك، خاضت إسرائيل ثلاث حروب غير متكافئة مع حزب الله وثلاثًا مع حماس، وتعاملت مع انتفاضتين فلسطينيتين، وكذلك العنف اليومي والمواجهات التي تدور بين المُحتَلّ وصاحب الأرض المحتلة.
ترتبط حيوات الإسرائيليين والفلسطينيين ارتباطًا لا ينفصم؛ ليس كأنداد ولا كأصدقاء. ففي أماكن كالقدس، هناك تواصلٌ يومي وتفاعل. اليوم، وحتى في خضمّ أعمال العنف الحالية، يعمل عشرات الآلاف من فلسطينيّي الضفة الغربية سواء بشكل قانوني أو غير قانوني؛ بالمستوطنات الإسرائيلية، أو في إسرائيل ذاتها. ومما قد يبدو غريبًا، وفقًا لاستطلاعٍ تم في شهر يونيو؛ أن 52 بالمائة من الفلسطينيين بالقدس يفضِّلون الجنسية الإسرائيلية مع حقوق مساوية للانتماء لدولة فلسطينية.
بالنسبة للإسرائيليين والفلسطينيين، يضمن الجوارُ أن العنف لا يشتعل فقط من حينٍ إلى آخر، وإنما هو رفيق دائم. حينما توجد عملية سلام، يتواجد العنف والإرهاب. وحين تغيب العملية، يتواجد العنف والإرهاب أيضًا. في الواقع، وقعتْ بعض أسوأ الهجمات التي شنها الفلسطينيون في أعقاب اتفاقات أوسلو. ووقع أسوأ عمل إرهابي للمستوطنين ضد الفلسطينيين – مجزرة باروخ غولدشتاين عام 1994 في حق الفلسطينيين أثناء الصلاة في المسجد الإبراهيمي بالخليل – في نفس الفترة. إن الحقيقة المُرّة عن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني هي أنه لا يمكن أن يوجد وضع راهن مريح بسبب الجوار. وما مِن جدرانٍ ولا حواجز فصل ولا وقف إطلاقِ نارٍ ولا ترتيبات للوضع الراهن بإمكانها تجاوز هذا.
الوضع الراهن المستمر وغير القابل للاستمرار: ومع ذلك، هناك حقيقة مؤلمة تؤخذ في الاعتبار فيما يتعلق بالحرب والسلام في الساحة الإسرائيلية الفلسطينية. فكون الوضع الراهن متغيرًا باستمرار لا يعني أنه يتغير إلى الأفضل، ناهيك عن تغيُّره في اتجاه أي شيء يشبه حل الدولتين أو حلًّا شاملًا. يؤطِّرُ الصراعَ الدائرَ بين إسرائيل والفلسطينيين حقيقتان غير قابلتين للتغيير؛ أولاهما: لا يوجد حلَّ عسكري (أي هزيمة طرفٍ للطرف الآخر). والآخرة، أنه على عكس الحالات الاستعمارية التقليدية حيث تُجبَرُ القوة المحتلة على الجلاء بمستويات غير مقبولة من العنف والألم (كما حدث للفرنسيين في الجزائر مثلا)، فلن يذهب الإسرائيليون إلى أي مكان آخر؛ فهم في وطنهم بالفعل! فلن يُكْرِه أيّ قدْرٍ من العنف أو الإرهاب أو الضغط الخارجي أي الجانبين على الاستسلام بشروط لا يقبلونها. ولا تنتج الخصائصُ السكانية (الديموغرافيا) وحدها دولةً فلسطينية، برغم التحديات والتهديدات المفروضة على إسرائيل من قِبَل العدد المتزايد من الفلسطينيين تحت سيطرتها. ولم ينتج هذا التهديد بعدُ تغييرًا جوهريًّا في توجه الحكومة الإسرائيلية تجاه المشكلة الفلسطينية.
الحقيقة القاسية أن تكاليف إبقاء الوضع الراهن البائس، حتى الآن، هي أقل تهديدًا لكلا الجانبين مما سيكون مطلوبًا لتغييره. لا عبّاس ولا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؛ ينويان أو يقدران أو مستعدان لاتخاذ القرارات اللازمة لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة تعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل في سلام وأمان. وحتى إذا كان بإمكان الإسرائيليين والفلسطينيين إخماد هذه الجولة الأخيرة من العنف – وقد يفعلون – فلا يبدو هناك الإرادة ولا المهارة المطلوبة لتحويل هذه الأزمة إلى فرصة للمضي قدمًا نحو حل الصراع الأوسع نطاقًا.
في المستقبل المنظور، سيعمل الإسرائيليون والفلسطينيون الآن في المساحة الضيقة الكائنة بين حل الدولتين، والذي لا يزال حَلًّا أهم من أن يُتخلَّى عنه، وحلًّا يصعب تنفيذه أيضًا. وبينما يفعلون، للأسف فإن العنف وليس الدبلوماسية هو ما سيظل الرفيق المألوف جدا على الأرجح.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».