نشرت مجلة «سايكولوجي توداي» مقالًا للكاتب والطبيب النفسي المختص، جرانت هيلاري برينر، يتحدث فيه عن أثرِ الصدمات النفسية والتجارب السلبية المبكرة في الأفراد والمجتمعات، وانعكاساتها على التجربة الإنسانية بالمجمل.

أثرٌ مديد

غدا الحديث عن موضوع الصدمة (التروما) أمرًا شائعًا، لكن وبالرغم من الاعتراف المتزايد بها، فإنها ما تزال تحظى باهتمامٍ أقل بكثير مما تستحقه، وفقًا لرأي الكاتب. لا تؤثر الصدمة في الأفراد والأسر فحسب، بل تؤثر في المجتمعات بمستوياتها، وهو ما يحدد التجربة الإنسانية على مدى قرون.

الاحتلال الإسرائيلي

منذ سنة واحدة
كيف يمكنك التعامل مع الإجهاد والأذى النفسي دون التوقف عن دعم فلسطين؟

يشير الكاتب إلى الأثر الإيجابي للاستجابات التكيفية للصدمات حين تخلِّف وراءها قدرًا أكبر من التعاطف مع الذات، وتؤدي إلى مستويات أعلى من التنمية والحكمة والتعقل، وبالنتيجة مستوى أعلى من الأخلاقيات والقيم المعنوية، إلا أن الطريق إلى ذلك محفوف بالمخاطر. ولذا يدرج الكاتب هنا سبع طرق مختلفة قد يتمظهر بها أثر الصدمات غير المحلولة – مع ما تحمله من أذى معنوي مصاحب – في طول طريق التعافي.

1- بروز الظلم

قد يكون الأشخاص الذين عانوا من سوء المعاملة أو الإساءة أو الإهمال من قبل – وخاصة صدمات الخيانة – أكثر عرضةً للتكيُّف مع الإجحاف؛ إذ تتضخم المظالم التي تحصل معهم غالبًا عبر إعادة تنشيط الصدمة غير المعالجة. وقد يصل الحال إلى أن يرى الناس الظلم أو سوء التصرف حتى في المواقع الخالية من ذلك. تؤدي صدمة الخيانة إلى تفاقم الحساسية تجاه الإيذاء، وهو ما يؤدي إلى تعميق حالة عدم الثقة، وحين تكون الخيانة قادمة من أشخاصٍ مقربين مثل أفراد الأسرة أو أصدقاء العائلة، يُضاف انتهاك الثقة للصدمة نفسها.

2- التطور الأخلاقي

قد تؤخر الصدمة المبكرة أو توقِفُ جوانب مهمة من التطور، ما يؤدي لبقاء بعض مراحل النمو الأصغر في فتراتٍ لاحقة من الحياة. ينوِّه الكاتب إلى إمكانية حدوث هذا في مجالات متعددة، مثل العلاقة مع الذات أو الجوانب الأخرى المختلفة من الهوية والترابط. ويمكن أن يحدث هذا على جانب التطور الأخلاقي، وبالتالي تزداد مخاطر اتخاذ قرارات تدمير الذات من الجهة الأخلاقية.

Embed from Getty Images

ويذكر الكاتب بنموذج كولبيرج بمستوياته الثلاث ومراحله الستة:

المستوى الأول: المستوى قبل التقليدي:

مرحلة 1: العقاب/الطاعة.

مرحلة 2: التوجه التفردي الغائي التبادلي.

المستوى الثاني: المستوى التقليدي:

مرحلة 3: توجه الولد الجيد.

مرحلة 4: توجه القانون والنظام.

المستوى الثالث: المستوى ما بعد التقليدي:

مرحلة 5: توجه العقد الاجتماعي.

مرحلة 6: التوجه للمبادئ الأخلاقية العالمية.

ليس غريبًا أن تتركنا الصدمات المؤثرة في النمو في حالة متأرجحة بين المرحلة 1 والمرحلة 2، ما يطرح تحديات في التنقل ضمن المستويات الغامضة أخلاقيًّا المميزة لحياة البالغين، وهو ما يأتي من الجمود الأخلاقي أو التبسيط المفرط. يصعبُ متابعة الحياة بسلاسة دون القدرة على المضي قدمًا في اتخاذ القرارات الصعبة، أو الوصول لتسويات في مفاوضاتنا مع الآخرين.

3- التركيز على التهديد

من الطرق التي قد تؤثر فيها التجارب الصادمة على السلوك الأخلاقي تتعلق بالارتباط بالحالات العاطفية. على المستوى الأساسي، تتشابك أحداث الحياة الحالية مع المشاعر العالقة من الماضي (أو المشاعر غير المحلولة)، وهو ما يؤدي إلى تحيز قوي في الطريقة التي تُفسَّر بها هذه الأحداث لتبدو أسوأ مما هي عليه. على سبيل المثال، قد يتلقى المرء رسالةً عادية بوصفها إهانةً مبطنة، أو قد ينظر إلى تعليقات بريئة بوصفها مُهدِّدة، وهكذا تتعزز حالة الشعور بالتهديد والميل لرؤيته.

يشير الكاتب إلى أثر العواطف القوية في المحاكمة والتخطيط؛ إذ تُصعِّب من القدرة على اتخاذ القرارات التكيفية. كما تعزز ردود فعل الآخرين المشوهة – والتي غالبًا ما تنطوي على سوء فهم أو حتى الرفض الصريح – تعزز وتكرر التوقعات التي اكتسبها المرء من الصدمة المبكرة، والتي توجه نحو انعدام الثقة في الآخرين، وهو ما يزيد الشعور بالإهانة الأخلاقية وربما العزلة.

4- وضعية البطل الخارق

نظرًا إلى أن الصدمة قد تترك الأشخاص في حالات فرط تيقظ وحذر، وتزيد من استعداديتهم للتهديدات الشخصية والإجحاف، فإن مصادفتهم لشيءٍ ما يبدو غير صحيح أو أنه غير صحيح بالفعل، قد يصبحون أقرب للميل نحو الردِّ بقوة مبررة بالنسبة لهم أو يصعب عليهم الاستجابة على نحو بنَّاء. ينوِّه الكاتب إلى بروز هذه الحالة بصورة خاصة إذا ما كانت الأدوار النموذجية المبكرة سهلة الإغضاب أو الإهانة، سواءً بصورة عدوانية جسدية أو لفظية، أو ميلها لاستخدام الهجر أو الانسحاب من الحب أسلوبًا عقابيًّا.

Embed from Getty Images

يقول الكاتب إننا قد نتصرف بدافع انتقامي أحيانًا بأثرِ الغضب الأخلاقي والتشوُّه الناتج من الصدمة لحدٍّ ما والصعوبات التنظيمية، وهو ما يؤدي لنتائج مؤسفة في بعض الأحيان. من المهم أيضًا ملاحظة صعوبة التصرف بحزمٍ مناسب في مواجهة الظلم أحيانًا، ما يفضي إلى المشكلة المعاكسة، أي الإخفاق في مواجهة الأمر كلامًا ومناصرةً أو حمايةً.

5- الرادار الأخلاقي

قد تشوش الصدمة على الرادار الأخلاقي، بالرغم من قدرة الصدمة على تكييفنا مع ما هو صواب وما هو خطأ إذا ما سُخِّرت على نحوٍ صحيح. يُصعِّب الارتياب بنوايا الآخرين من معرفة ما إذا كان شيء ما غير عادل حقًّا أو متعمدًا، وهو ما يوصلنا إلى إلقاء اللوم بدلًا من التحقيق المتروِّي. من السهل تكويم الأشخاص في قوالب كلاسيكية: الضحية، المعتدي-الجاني، المتفرج.

قد يجد المرء جاذبيةً في دور المقتصِّ (أو القائم بالقانون) لكن يحمل في طيَّاته بذور إخفاقه، وغالبًا ما يتعارض مع القدرة على الوقوف مع القضايا المحقة بصورة تعاونية فاعلة؛ إذ يتعسر العمل التآزريُّ مع الآخرين من أجل تحقيق تغيير مستدام.

6- إمكانيات لا حدود لها

تغير الصدمة إحساسنا بما هو ممكن. بالمقارنة مع الأشخاص الذين لم ينجوا من المواقف الرهيبة، يبدو العالم مختلفًا تمامًا بالنسبة لشخص عانى من المرض المبكر، أو الموت، أو العنف بين الأفراد، أو سوء المعاملة والإهمال وغيرها من الأشكال المتطرفة الأخرى للتجارب. يوضح الكاتب أن هذا الأمر يصعب فهمه تمامًا على من لم يعيشوا المحن؛ إذ يتغير الواقع تغيرًا جذريًّا بفضل المرور بتجارب الحياة المتطرفة.
يمكن للواقع أن يتغيَّر في جزءٍ من الثانية. نعرف جميعًا هذه الحقيقة إلى حدٍّ ما، لكن عندما تمرُّ بالتجربة تنحو القصة إلى مسارٍ مختلف. قد يفتح هذا الأمر الباب أمام بعض أشكال سوء الفهم التابع لاختلاف تجارب الحياة، وقد يسهِّل في الوقت نفسه اتخاذ تدابير متطرفة على الأشخاص المارِّين بصدمات سابقة.

7- التعامل مع النفس

يطرح الكاتب سؤالًا: لماذا يكون لدينا أحيانًا أخلاقيات مختلفة تجاه أنفسنا، إذ نعامل أنفسنا بشكلٍ أردأ مما نتوقع من الآخرين؟ ما الذي يمنحني الحق في التعامل بصورةٍ مختلفة مع نفسي؟ ويجيب الكاتب بأنه وفي كثير من الأحيان، قد يدافع الأشخاص المصدومون عن الآخرين، دونًا عن أنفسهم. وقد يؤدي هذا إلى دورةٍ يسعى فيها الناس جاهدين للاعتناء بالآخرين والدفاع عنهم والقتال من أجلهم، بطريقةٍ يصبح فيها الوقوع في إهمال الذات سهلًا.

Embed from Getty Images

وينوِّه الكاتب إلى عواقب إهمال الذات الجسيمة؛ إذ تتسبب قلة الاهتمام الجيد باحتياجات الفرد الأساسية – وما يرتبط بذلك من أمور مثل الحرمان من النوم، وأنماط النوم السيئة، وقلة التمارين الرياضية والراحة، والمشكلات المشابهة – بضعف المرونة النفسية، وتقويض النمو والتعافي بعد الصدمة، وتفاقم التوتر المزمن، وتؤثر في التنظيم الذاتي والتفكير الفعال بعيد المدى.

اعتبارات أخرى

بالنسبة للأفراد الذين يتعاملون مع تجارب نفسية صادمة، قد تؤثر عوامل مختلفة في تشكيل التفكير والمشاعر والسلوك من الجانبين المعنوي والأخلاقي بطرقٍ غالبًا ما تساعد على التقدُّم في أكثر الأوقات صعوبة، ولكنها قد تؤدي في الوقت نفسه إلى نتائج عكسية في بعض المواضع. يشرح الكاتب أن الأضداد المتناقضة قد تبدو هي الخيارات الوحيدة تحت تأثير الصدمات النشطة، ويضرب مثالًا على ذلك خياري السكوت المطلق بسبب الخوف، أو إطلاق العنان للغضب المبرر أخلاقيًّا. وفي كثيرٍ من الحالات لا تكون هذه الخيارات مرنة تكيفيًّا.

يختتم الكاتب مقاله بالتوكيد على إمكانية حصول تغييرات إيجابية بسبب التجارب المؤلمة، فهذا النوع من التجارب – وإن لم يكن مسوغًا أبدًا – قد يوصل إلى حكمةٍ ونضج أكبر. يساعد فهم الأشكال التي تؤثر بها الصدمة في طريقة تعاملنا وتحملنا للمبادئ الأخلاقية، وكيف نستشعر الأمور ونتصرف إزاءها، في الإرشاد نحو التصرف على نحوٍ بناءٍ وأكثر هدوءًا في الأوقات الحاسمة.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

عرض التعليقات
تحميل المزيد